بقلم : د.خالد الحروب ... 17.5.07
في الفيلم الألماني المؤثر «حياة الآخرين» يدخل المخرج في أعماق ودواخل الفاشية الأوروبية ليطل على الرهان الإنساني الأخير القابع خلف الجدران السميكة للقسوة والسيطرة: الضمير. يصور لنا الفيلم ثمانينيات برلين الشرقية قبل سقوط الجدار. ينقل صورا عن حياة الناس المحاصرين بدولة البوليس والقمع والتنصت على تفاصيل حيواتهم الخاصة بمسوغ الحفاظ على أمن الدولة. في الواقع القمعي والاستبدادي في كل مكان أمن الدولة هو الوصف الملفق لأمن الطغمة الحاكمة، التي بدورها تحدد من هو الذي يهدد أمنها وكيف ولماذا. وهي وحدها، أي تلك الطغمة، تحدد انتهاء التهديد المفترض من هذا المصدر أو ذاك. أما مصادر التهديد الأكثر خطورة فهي: الناس! همسهم وحديثهم واجتماعهم وضحكهم وطريقة تبادلهم النظرات يجب أن تظل موضع تفحص ومراقبة لأن فيها بدايات الخيوط للمؤامرات التي تحاك ضد «الدولة وأمنها».
ومن أخطر الناس على «أمن دولة» القمع الستاليني (حيث كانت) هم الكتاب وما يكتبون. القصة والمسرح والشعر، الرقص والتمثيل والغناء، كل ذلك أنشطة مشفرة تستلزم المراقبة اللصيقة والدائمة واليقظة عليها. وبسبب ذلك يكون وزير الثقافة جنرالاً أمنيا، خبيراً باهراً بالسجون وفنون التحقيق، ولا علاقة له بالثقافة. هو جدانوف ربيب الدكتاتوريات، منظرها والمدافع عنها. في الفيلم يتمتع وزير الثقافة بحدس دقيق باعث على الهلع بشأن أولئك الكتاب المتآمرين الذين يختبئون خلف ما يتبدى نصوصاً بريئة. وعندما يصدر الوزير أوامره بمراقبة الكاتب المسرحي الاول في البلد، وغير المعروف بمعارضته وعدائه «للثورة الاشتراكية» لا يسمع من بطانته سوى تأييد الأوامر والسرعة في التنفيذ. نعرف بعدها أن الوزير الفاسد يتسلط أيضاً على صديقة الكاتب، وهي ممثلة مشهورة، ويهددها بأن يمنعها من الظهور على خشبة أي مسرح إن لم تمتثل لنزواته وابتزازه المقزز.
شقة الكاتب المسرحي والشقة التي تعلوها تصبحان مسرح أحداث الفيلم، حيث يتم تطبيق «البرنامج الكامل» في المراقبة والتنصت، وذلك يشمل زرع أجهزة تسجيل في كل غرف الشقة، وفي المطبخ، وفي الهاتف، وزرع كاميرات تراقب الداخل والخارج إلى الشقة. يشرف على «العملية» ضابط رفيع المستوى معروف بالقسوة والتاريخ العريق في التحقيق والمراقبة والميكانيكية الصارمة. على مدار الأربع والعشرين ساعة والكاتب المسرحي وصديقته وكل زائريه تحت المراقبة. ضابط المراقبة في الشقة العليا يسمع كل همسة وكل نقاش وأمامه آله طابعة يكتب بها كل تفاصيل الحياة: الكاتب دخل الشقة الساعة كذا، تناول غداءه الساعة كذا، تحدث على الهاتف مع فلان، ذكر له نكتة وهذا نصها، دخلت صديقته الشقة الساعة كذا، ومارسا الحب من الساعة كذا للساعة كذا. يتناوب ضابط المراقبة مع زميل له أدنى رتبة على رصد كل ما يحدث في الشقة ليلا نهاراً بأمل أن يرصدا ما يشير إلى أن الكاتب (غير المعارض أصلاً) هو في جوهره معارض ويستحق العقاب. تمر الأيام وليس ثمة دليل.
ضابط المراقبة الصارم وشبه الوحش يتعرض لدروس إجبارية في الأدب والمسرح عبر تنصته الدائم. يستمع لنقاشات الكاتب مع أصدقائه، ويتعرف على بريخت، وعلى أدب كثيف. يتابع خطوة بخطوة كيف ينتحر أحد أصدقاء الكاتب، والذي كان يُعد المخرج المسرحي الأول في البلد. أصابته الكآبة بعد أن منعته السلطات من ممارسه عمله المسرحي بسبب «الشك في قناعاته». المخرج المسرحي كان الأجرأ في المجموعة، كان يحب ألمانيا أكثر من نظامها، وكانت تلك جريمته الكبرى. ثم انتحر. بعد انتحار صديقه تزعزعت قناعات الكاتب المسرحي بفوائد «السلبية السياسية» ورويدا رويداً صار يرضخ لانتقادات بعض أصدقائه بأن عليه أن يرفع صوته بالرفض لاغتيال الحياة حوله. صديقه المخرج المسرحي ترك له هدية رائقة وجميلة قبل أن يموت، نوتة موسيقية معنونة بـ «سوناتا إلى رجل طيب».
بأصابع ترتعش عزف كاتبنا المسرحي النوتة المهداة له فأدخلته إلى عالم جديد.. إلى عالم رافض. ضابط المراقبة كان يضع سماعات التنصت ويستمع للسوناتا هو الآخر. أدخلته إلى عالم جديد خاص به، هزت عالمه القديم. قلاع ضابط المراقبة صارت تتساقط مع الأدب، والجدل، والمقاطع المسرحية، ومعزوفات البيانو التي لا علاقة لها بمارشات الجيش والعسكر. تهدمت كل القلاع وأنحاز ضابط المراقبة للطريدة التي قضى أسابيع يرصد كل همساتها. اكتشف أن حياته بشعة، آلية، جافة، ليس فيها إلا مراقبة حياة الناس، وإلقاء التحية العسكرية لمرؤوسية في ستازي، جهاز الاستخبارات المركزي في ألمانيا الشرقية. في اللحظة الحاسمة وعندما ينشر الكاتب المسرحي نصاً ناقدا ومدمراً للنظام في مجلة دير شبيغل في برلين الغربية، تكون نجاته من العقاب ومن السجن ربما مدى الحياة بسبب إخفاء ضابط المراقبة لكثير من التفاصيل والأدلة التي رصدها ضده. ضميره صار أكبر من أسوار القلاع التي سجن نفسه فيها.
الكاتب المسرحي نفسه لم يعرف كيف نجا، وأية حظوظ أنقذته من مصير محتوم. بعد أن سقط جدار برلين اكتشف أن ضابط المخابرات ذاك كان هو الذي ستر عليه. كانت نصوص بريخت في الكتاب الذي سرقه من شقة الكاتب المسرحي قد فتحت عيون الضابط على حياة اخرى أولى أن تُرصد وأن تُعاش.. حياة لا علاقة لها بمراقبة حيوات الآخرين لتدميرهم.
كم سور في أوروبا وحولها وخارجها يلزم أن تنهدم حتى يصحو ضمير أوروبا، ضمير ضابط المراقبة؟ وكم مائة بريخت وكانت وفوكو وجان جينيه يحتاج قلب أوروبا كي ينبض بالعدالة والانحياز إلى الجوهر الإنساني خارج أسوارها؟ بعيدا من قاعة السينما حيث كان ضابط المراقبة ينحاز لإنسانيته، كان سياسيو أوروبا وما زالون يقومون بدور وزير الثقافة، رجل القمع والمخابرات المختفي وراء لبوس الدبلوماسية، وينحازون إلى الجلادين. هولندا حظرت إصدار تأشيرة دخول لرئيس الوزراء الفلسطيني المنتخب كي يحضر مؤتمراً للشتات الفلسطيني. لم يهتم صناع القرار فيها أن هناك ما لا يقل عن خمسة ملايين لاجىء فلسطيني في العالم، من حقهم أن يبوحوا بعشقهم لبلدهم وبالحنين للعودة إليه. في بلجيكا أغار الأمن على طائرة هابطة في المطار كانت تقل وزيراً فلسطينيا مُنح تأشيرة دخول لهولندا لحضور نفس المؤتمر المذكور. رجال الأمن أخذوا جواز سفر الوزير وألغوا التأشيرة، ثم أعادوه من حيث جاء.
في القدس وغزة ورام الله وبيت لحم تمارس الوفود الرسمية الأوروبية سياسة صبيانية في التعامل مع الحكومة الفلسطينية. تحرد عن مقابلة هذا الوزير لأنه من حماس، وتقابل وكيل الوزارة لأنه ليس منها. يذهب بعضها إلى بيت لحم فيمتنع عن لقاء رئيس البلدية (المسيحي) لأنه شريك في مجلس بلدية ائتلافي يضم حماس إلى فتح إلى آخرين. يتدافع الناطقون الرسميون في بروكسل للقول بأن البرلمان الأوروبي عندما يقابل إسماعيل هنية أو أياً من الحكومة الفلسطينية لا يملك صلاحيات سياسية، وعلى إسرائيل ألا تقلق. لكن أهم من ذلك كله يشارك الاتحاد الأوروبي في جريمة تجويع الفلسطينيين وحصارهم. هذه أوروبا هتلر وجدانوف، وليست أوروبا بريخت و«سوناتا الرجل الطيب». ينطفئ ضمير أوروبا وهي تدعم القوة المحتلة ضد الشعب الواقع تحت الاحتلال. عقلية «جدار برلين» العنصرية تدعم الجدار العنصري في قلب فلسطين، وتدعم السياسة الستالينية هناك. يموت قلبها وضميرها. وكل ما تتباهى به هو القول بأنها ليست على نفس السوء والوحشية الأمريكية. يكفي أوروبا الحالية عاراً أن تقارن نفسها بأمريكا جورج بوش الامبريالية والهتلرية في آن معاً.