بقلم : نقولا ناصر* ... 17.01.2011
**(آن الأوان لكي تتوقف واشنطن عن الانحياز لطرف ضد آخر في المعادلة اللبنانية الداخلية وتتوقف أيضا عن استخدام لبنان منطلقا لتسوية حساباتها الإقليمية على حساب الشعب اللبناني)
إن الولايات المتحدة التي ما زالت منذ أكثر من ستين عاما تمنع تحقيق العدالة والسلام معا في فلسطين لأنها مصرة على تحقيق سلام على أنقاض العدالة فيها تبدو اليوم على استعداد إلى تحويل استقرار لبنان إلى أنقاض بحجة تحقيق العدالة فيه ووسيلتها في ذلك القرار الاتهامي في قضية اغتيال رفيق الحريري المتوقع صدوره اليوم على ذمة لوموند الفرنسية أمس الأول.
والعدالة والاستقرار هما المفردتان اللتان تتكران اليوم على ألسنة المسؤولين الأميركيين من قمة هرم السلطة فما دون. وحتى قبل انهيار حكومة سعد الحريري الأسبوع الماضي لخص عنوان مقال نشرته الوول ستريت جورنال في السادس والعشرين من الشهر الماضي الموقف السياسي والإعلامي لإدارة باراك أوباما الذي كان "الفيتو" الذي أجهض مبادرة عربية قادها على أرفع مستوى زعيما السعودية وسوريا في الثلاثين من الشهر الماضي لنزع فتيل الأزمة التي انفجرت باستقالة حكومة الحريري مهددة بإعادة لبنان إلى ميدان حرب بالوكالة بين القوى الدولية الطامعة في الهيمنة على المنطقة وثرواتها وبين القوى الإقليمية المقاومة لهذه الهيمنة، أو في الأقل مهددة بتحويل لبنان إلى "جدار برلين لحرب باردة" بين الجانبين، حسب تعبير محلل غربي. كان عنوان مقال الوول ستريت جورنال هو: "هل سيتم تقديم حزب الله للعدالة في لبنان – لا يجب تغطية دوره المحتمل في موت رفيق الحريري باسم الاستقرار"، ليضيف المقال في نصه بأن "العدالة هي الطريق الوحيد إلى الاستقرار الدائم في لبنان".
إن التضليل الإعلامي الأميركي الذي يغلف الإدانة المسبقة باسم العدالة غني عن البيان، ويسوغ تماما مبادرة المعارضة اللبنانية إلى اتخاذ خطوات احترازية أهمها الاستقالة من الحكومة استباقا لصدور القرار الاتهامي (الظني) المرتقب للمحكمة التي ألفها مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، لكن الأهم أن هذا التضليل يكشف التسييس الأميركي المسبق لهذه المحكمة، وهو تضليل يكرر تماما وحرفيا تقريبا تصريحات مسؤولي إدارة أوباما.
في التاسع من الشهر الجاري نقلت الحياة اللندنية عن مصادر أميركية أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أبلغت سعد الحريري أثناء اجتماع لهما وصفته ب"الممتاز" في نيويورك في السابع من الشهر "معارضة" بلادها لأي "اتفاق" لبناني يعطل عمل المحكمة الدولية، في تدخل أميركي سافر في شأن لبناني داخلي صرف يجهض بالتأكيد أي توافق فيه. ومع ذلك فإنها أعربت اثناء جولتها في بعض دول الخليج العربية الأسبوع الماضي عن "قلقها العميق من محاولات إثارة عدم الاستقرار في لبنان" وقالت إنها تعمل مع الجميع ("السعوديين والفرنسيين والمصريين وغيرهم") -- باستثناء الأطراف اللبنانية المعارضة المعنية مباشرة بالحيلولة دون أي عدم استقرار تعرف بانها ستدفع الثمن الأكبر فيه – من أجل "منع أي مصلحة خارجية أو أي شخص يتلقى توجيهاته من مصالح خارجية من اتخاذ خطوات سوف تثير عدم الاستقرار وربما تثير الصراع" فيه، بالرغم من معرفتها الكاملة بأنه بعد التفاهم السعودي – السوري – الإيراني – التركي على نزع فتيل الأزمة اللبنانية لم تبق هناك أي قوى "خارجية" تتدخل في الشأن اللبناني سوى الولايات المتحدة نفسها، باسمها وباسم دولة الاحتلال الإسرائيلي على حد سواء.
وفي يوم الجمعة الماضي نسبت السي. إن. إن. إلى بيان للسفيرة الأميركية في لبنان، مورا كونيللي، القول إن المحكمة الدولية "لا يمكن الرجوع عنها، فعملها ليس عملا سياسيا بل قانونيا، واستقالة بعض الوزراء في لبنان لن يغير في هذا الوضع." وكانت صحيفة السفير اللبنانية الشهر الماضي قد وصفت هذا الموقف الأميركي ب"الضغط المكثف" الذي يستبعد أي توافق لبناني بالحوار قبل صدور لائحة اتهام في مقتل رفيق الحريري. ومما يؤشر إلى قصر النظر السياسي الأميركي أن البيت الأبيض اعتبر انسحاب المعارضة من حكومة الحريري مؤشر ضعف و"خوف" كما قال المتحدث باسمه روبرت جيبس يوم الخميس الماضي، وليس مؤشر انفجار أزمة خطيرة سوف يكتوي بنارها لبنان واللبنانيون أولا واخيرا لكنها لن توفر الولايات المتحدة كما تثبت التجربة التاريخية لمثل هذه المغامرات الأميركية.
فالتدخل العسكري الأميركي في لبنان عام 1958، مع أنه كان شكليا بطلب من رئيس لبناني شرعي، كان مماثلا لما يحدث اليوم من تدخل خارجي في شأن داخلي لبناني انحازت واشنطن فيه إلى طرف ضد آخر في المعادلة الداخلية لم تجن منه سوى المزيد من فقدان هيبتها الدولية ومصداقيتها العربية، ولم يكن حصادها السياسي أفضل عندما تدخلت في لبنان عسكريا مرة أخرى منحازة إلى طرف ضد آخر عام 1982 لكن خسائرها في الأرواح كانت أفدح عندما فقدت 283 من المارينز إضافة إلى اختطاف واغتيال عشرات من مواطنيها الآخرين.
وواشنطن اليوم تكاد تتخبط مرة ثالثة عندما تخطئ الحسابات ثانية فتتعامل مع لبنان كساحة حرب تعتبرها مثالية لتسوية حساباتها مع خصومها الإقليميين، لكن "السياسة الأميركية بلغت حدودها، ولم يعد لها إلا القليل من التأثير"، كما كتب الباحث في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط بمؤسسة بروكينغز، بلال صعب اللبناني الأصل، في التاسع عشر من الشهر الثالث عام 2008، إذ "بعد ثلاث سنوات من انسحاب القوات السورية، أصبح لبنان أقل لا أكثر استقرارا، ولم تدم الفرحة بانتصار قوى 14 آذار وسيطرتها على السلطتين التشريعية والتنفيذية، بالرغم من دعم الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي".
واليوم يبدو الوضع أسوأ مما كان عليه عندما كتب صعب تحليله قبل أقل من ثلاث سنوات، دون أن تتعظ السياسة الخارجية الأميركية أو تتغير. ومن الواضح أن واشنطن تجد الآن في حزب الله ذريعة جديدة لتكرار تخبطها ومغامراتها الإقليمية على حساب الشعب اللبناني، ورسالتها هي أنه طالما ظل حزب الله موجودا في لبنان فإن التدخل الأميركي في شؤونه لن يتوقف، فالولايات المتحدة التي عارضت وقف إطلاق النار وأخرته لأطول فترة ممكنة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 تعتبر أن لديها مهمة لم تنته بعد في لبنان، وهي سوف تستمر في محاولة أن تنجز أميركيا ما عجز ذلك العدوان عن إنجازه إسرائيليا، وكان سحب القوات العربية السورية جزءا رئيسيا تحقق من تلك المهمة ويظل عليها أن تنجز الجزء الرئيسي الآخر منها المتمثل في إنهاء حزب الله كحركة مقاومة، وتتذرع في ذلك بقرارات مجلس الأمن الدولي التي صدرت في أعقاب ذلك العدوان، دون أن تولي أدنى اهتمام بتطبيق عشرات من قرارات المجلس نفسه في الاتجاه الإسرائيلي المقابل.
وهذا الموقف الأميركي لم يخيب آمال الدول العربية التي عبر عنها وزير الخارجية الأردني ناصر جودة يوم الخميس الماضي عندما دعا إلى "ضبط النفس" وحث كل الأطراف، ومنها ضمنا الولايات المتحدة، على تجنب "التصعيد"، بل إنه بدد آمال الرئيس اللبناني ميشيل سليمان في أن تكون الأزمة اللبنانية تتحرك نحو الحل كما اعلن في يوم عيد الميلاد الغربي، بانيا آماله على زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري بشار الأسد، وبدد أمله في أن "يشهد عام 2011 الاستقرار والازدهار الاقتصادي" للبنان كما قال، لا بل إن هذا الموقف خيب آمال منسق الأمم المتحدة الخاص للبنان، مايكل وليامز، الذي كان متفائلا بصورة مماثلة ورحب "بصفة خاصة بجهود سوريا والعربية السعودية".
وعلقت كلينتون على استقالة المعارضة من حكومة الحريري بقولها إنها "محاولة شفافة .. لتخريب العدالة ونسف استقرار لبنان وتقدمه"، أما التدخل الأميركي الذي قاد إلى هذه الاستقالة فكان لأن بلادها معنية ب"التأكد من خدمة العدالة بطريقة مناسبة" كمال قال رئيسها أوباما قبيل اجتماعه مع نظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي الأسبوع الماضي، وبحجة أن "حزب الله يقدم خيارا زائفا للبنان بين العدالة وبين الاستقرار" كما قال المتحدث باسم وزارتها فيليب كراولي يوم الأربعاء الماضي معربا عن "اعتقاد" إدارته بأن لبنان "يستحق الاثنين" وهو يدرك قبل غيره بأن السياسة الخارجية لبلاده هي السبب الوحيد الذي يهدد العدالة والاستقرار كليهما في لبنان اليوم.
وإذا كانت السياسة الخارجية الأميركية تجاه لبنان هي سياسة قومية غير حزبية، أي ليست جمهورية أو ديموقراطية بدليل أنها لم تتغير بين إدارتي جورج دبليو. بوش وأوباما بالرغم من وعود الأخير الجزيلة بالتغيير، فإن هذه السياسة في التطبيق العملي لا يمكن وصفها إلا بكونها سياسة متحزبة وليست قومية، ومنحازة إلى طرف ضد طرف آخر في المعادلة اللبنانية الداخلية.
وقد كان رئيس الوزراء اللبناني المستقيل الحريري صادقا عندما وصف في خطابه الجمعة الماضي الضغوط الأميركية بأنها "مزعومة"، فهو إما أن يكون قد نجح في استغلال هذه السياسة الأميركية المتحزبة لبنانيا لخدمة الطرف اللبناني الذي يقوده في قوى "14 آذار" أو يكون قد تقاطع معها، ويستدل من خطابه يوم الجمعة أنه مصمم على استمرار الاستقواء بالموقف الأميركي المتحزب لبنانيا في الاصطراع لداخلي على السلطة، فأقواله إن برنامج أي حكومة جديدة يكلف بتأليفها هو برنامج سابقتها نفسه، وإنه تنازل عن حقه "الشخصي" وحق الأكثرية في تأليف حكومته السابقة لصالح التوافق الوطني، وإن الحكومة السابقة كانت مجرد حكومة وحدة وطنية "مع وقف التنفيذ"، جميعها مؤشرات إلى استعداد لتأليف حكومة "أكثرية" جديدة كحق دستوري دون مشاركة المعارضة، وهذه وصفة لإطالة أمد الأزمة مشحونة بعوامل تفجير لا تخطئها العين، وهذا توجه يحظى بدعم أميركي واضح. والمفارقة أن سعد الحريري يقول إنه لا يمكن لأي طرف أن يقصي الطرف الآخر في لبنان، لكن هذا هو ما تجهد الولايات المتحدة لفعله تماما.
لقد كان صوت وزارة الدفاع أعلى وأوضح من صوت وزارة الخارجية الأميركية في التعبير عن دعم "حكومة لبنان" التي ما زال الحريري يرأسها، على الأرجح لأن واشنطن تريد أن تبعث برسالة عسكرية إلى خصومها في لبنان والإقليم على حد سواء.
فالبنتاغون الأميركي الذي أدمن المغامرات العسكرية في الخارج يدرك "بأننا نعرف بأن التوتر السياسي والاضطراب وبخاصة أي عنف قد يتبع هي تهديدات للاستقرار والأمن الإقليمي"، كما قال الناطق باسمه ديفيد لابان يوم الخميس الماضي، ويحاول البنتاغون طمأنة الإقليم عسكريا، فعندما سؤل لابان عما إذا كانت بلاده قد أرسلت سفنا حربية قبالة السواحل اللبنانية أجاب، "ليس بعد"، مضيفا: "إننا نواصل مراقبة الوضع مراقبة دقيقة جدا عن كثب" لكن "الحكومة الأميركية ترغب في أن تستخدم كل الأطراف الوسائل السلمية في حل الوضع"، مع تأكيده على "العلاقة القيمة مع القوات المسلحة اللبنانية، وعلى "الالتزام" الأميركي "بتقوية سيادة مؤسسات لبنان وحكومته"، بينما أكد كراولي استمرار الدعم العسكري للبنان بنفي قطع "المساعدات الأميركية للقوات المسلحة اللبنانية".
إن من ما زالوا على قيد الحياة ممن عاصروا التدخل الأميركي في لبنان عام 1958 لن تدهشه حقيقة أن اللغة الدبلوماسية الأميركية التي تتحدث عن دعم "الدولة" و"الحكومة الشرعية" والجيش اللبناني في مواجهة الحركة الوطنية اللبنانية ما زالت هي اللغة نفسها دون أي تغيير بالرغم من كل المتغيرات الدولية والإقليمية وبالرغم من كل وعود الرئيس أوباما بالتغيير في سياسة بلاده الخارجية في الشرق الأوسط.
إن اتعاظ بعض القوى الإقليمية التي خدعتها القوة الأميركية لكي تنحاز إلى طرف ضد آخر في المعادلة اللبنانية الداخلية أثناء العدوان الإسرائيلي عام 2006 كانت تجربة مرة لكل الأطراف، بحيث تجمع وتعمل كل الأطراف الإقليمية اليوم من أجل منع اندلاع أي حرب أهلية لبنانية جديدة، وقد آن الأوان لكي تتعلم واشنطن الدرس نفسه فتتوقف عن الانحياز لطرف ضد آخر في المعادلة اللبنانية الداخلية وتتوقف أيضا عن استخدام لبنان منطلقا لتسوية حساباتها الإقليمية على حساب الشعب اللبناني.