أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
مُقدمة شعب تونس!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 19.01.2011

في صدر الشارع الأشهر في تونس العاصمة، ينتصب تمثال لرجل وقور حكيم مهيب يُرسل نظرة متأملة، هو لمن نسيه، ونسي فضله كمؤسس لعلم الاجتماع: عبد الرحمن بن خلدون.
اشتهر ابن خلدون بالمقدمة، وفيها درس تطوّر المجتمعات، والدول وأسباب سقوطها واندثارها.
تحت أنظار ابن خلدون الذي يعتّز التوانسة بانتسابه إليهم، تدفقت الجماهير، وكتبت فصلاً جديدا في كتاب المقدمة: الشعب يمكن أن يصمت طويلاً، حتى ليبدو أنه خنع تماما، وما عاد قادرا على رفع صوته محتجا على جرائم الأجهزة الوحشية التي دمرت روح المقاومة والأنفة لديه..ولكنه كالبركان ينفجر قاذفا النيران المحبوسة في جوفه.
مشهد شارع بورقيبة وابن خلدون، صار بحجم الوطن العربي الكبير من المحيط وحتى الخليج، فهو إيذان بانتهاء دولة الفرد، وأجهزة القمع، والدولة البوليسيّة، والبطانة الفاسدة النهّابة!
ولا دولة عربيّة لها صلة بالديمقراطية والعدالة والشفافية والمحاسبة، وصناديق الاقتراع الحقيقية، والقضاء، والتشريع، وحرية الصحافة، وحرية الأحزاب، وتناوب السلطة، والاحتكام للشعب، فهي دول مستنسخة اختارت لنفسها وظيفة مزدوجة: محاربة الإرهاب!.. وزرع الرعب في نفوس المواطنين..خدمة لمشيئة أمريكا، وضمانا لديمومة نهبها لثروات البلاد.
على مدى عقود بدا وكأن الدولة العربيّة أتلفت روح الإنسان العربي، حتى بات مضرب المثل في الذل والخنوع والسكوت على كل ما يلحق به، فهو من دون عباد الله في هذا العالم الذي لا ينزل إلى (الشارع) إلاّ في مسيرات تأييد، ورفع صور عملاقة للطاغية العربي المستنسخ!
الحاكم المستبّد، والدوائر التي يعمل الطاغية في خدمتها كمقاول محاربة إرهاب، والكتّاب المتخصصون في التشكيك بالجماهير والمراهنين عليها، التقوا في السخرية من الإنسان العربي، الذي لفرط رعبه المزمن بات يمشي الحيط الحيط ويقول: يا رب حسن الختام..أي الذهاب إلى القبر بوفاة طبيعيّة، وليس في أقبية أجهزة (أمن) الطاغية!
ضمن الطاغية ومن حوله من الجلاوزة والنهّابون لأنفسهم الحكم بإفراغ البلاد من الأحزاب، والعمل النقابي، وصنّاع الرأي، بالبطش والتخريب، والإفساد بشراء الذمم، وتغييب قوى المجتمع المدني..وألّف أحزابا تافهة منحها مكاتب وجعالات، فكانت الأحزاب الداجنة التي لا تحظى بالاحترام!
نعم كان هناك يأس من إمكانية نهوض الجماهير في كل البلاد العربيّة، في ظل استبداد السلطة، وغياب القيادات والقوى السياسية القادرة والفاعلة على تأطير وتعبئة وتوعية الجماهير ...
فما الذي حدث في بلاد (مقدمة بن خلدون)؟!
الشاب محمد البوعزيزي، الخريج الجامعي الذي بقي بلا عمل، واضطر لبيع الخضار، لاحقته الشرطة البلدية وضيقت عليه، كما تفعل مع غيره، فلم يجد سبيلاً للحياة في بلده حتى في أدنى الأحوال، فأقدم على تحويل جسده إلى شعلة..أحرق جسده، فتلقفت الجماهير في سيدي بوزيد الشعلة البشرية، اللحم المشتعل لشاب فاض به القهر، ورفعتها عاليا في سماء تونس، وهكذا اندلعت الانتفاضة التونسية.
الجماهير التي بلا قيادة انفجرت كبركان، وفي ساعات اندلعت النار في المدن، والقرى، ووصلت العاصمة، فالنار التي طال احتباسها في الصدور أشعلتها شرارات تطايرت من بدن ذلك الشاب الذي دعا بجسده المحترق إلى الثورة على الطاغية واللصوص وأجهزة القمع، وعلى الخوف، والشعور بالضعف، وعلى الخنوع والذل والفردية العاجزة المنكسرة.
خطوة خطوة شعرت الجماهير التونسية بمدى قوتها وجبروتها..وهزال (دولة) الاستبداد والفساد و(عصبية) الأقارب الذين توحدهم مصلحتهم في نهب البلاد وإذلال العباد!
اقتحمت جماهير تونس الشارع الذي غابت عنه طويلاً، وامتدت نار الغضب من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، حتى بلغت العاصمة، فتوّج الحدث التاريخي باحتلال شارع (بورقيبة) ..تحت أنظار بن خلدون لتضيف فصلاً جديدا لكتاب(المقدمة)!
من كان يتوقع أن تأتي (المقدمة) الجديدة من تونس؟! المقدمة التي أضاءها محمد البوعزيزي بلحمه ودمه، وتبعه عشرات الشهداء الشباب الذين ما عادوا يطيقون العيش في بلد تنهب خيراته، وتبدد ثرواته، وتحكمه عائلة بلطجية (بوندات)،.عائلة مافيا كما كشف موقع ويكيليكس عن ذلك في الرسالة التي بعث بها سفير أمريكا من تونس؟!
أمريكا الديمقراطية لا تنتقد الحكام العرب الطغاة، لأنهم ارتضوا أن يكونوا أدوات منفذين لسياستها، وجعلوا الدولة العربية مجرّد عصابة مهمتها(محاربة الإرهاب)!
الطغاة في بلاد العرب لا يأبهون بالشعب، فهم نالوا رضى ورعاية أمريكا، وضمنا مباركة الكيان الصهيوني..فما أهمية الشعب بعد كل هذا؟!
لذا تترك لهم أمريكا أن يفعلوا داخليا ما يرونه مناسبا وضامنا لحكمهم، وتغّض ناشرة الديمقراطية النظر والسمع عن أنين الجماهير، عن نهب ثروات البلاد، وعن وحشية القمع!
الطاغية غير معني بالقضايا العربيّة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينيّة، وهذا من أسباب الرضى الأمريكي عنه، وهو لا يكتفي بهذا، فهو يعرف بقرون استشعاره أن الرضى الأمريكي أساسه رضى الكيان الصهيوني، ولذا فهو يدفع بالفلسطينيين للتفاوض، ويشجع على(السلام) ونبذ العنف.. وله في السادات والساداتية أسوة يتبعها، وتغيب عن باله نهاية السادات!
الدولة العربية على ضوء مقدمة ابن خلدون دولة ملفقة، مزورة، فاسدة ببرلماناتها ووزاراتها، والشيء الحقيقي فيها: السجن..فهي سجن كبير، بين جدرانه يختنق الإنسان العربي، حتى دفعه الألم والشعور بالمهانة أن يحرق جسده!
من تونس جاءت المقدمة المبشرة للجماهير العربيّة، والمنذرة للطغاة الذين لا يتعلمون، ولأجهزة الاستبداد التي لا ترعوي ولا تتوب، والتي علاجها الوحيد أن تُقتلع نهائيا بحيث لا تقوم لها قائمة.
هرب الطاغية ذليلاً جبانا، ومع ذلك فإن الطغيان ليس فردا، وإن كان الفرد الطاغية هو الرأس، فبطانة الطاغية والشريحة المنتفعة سيعملون على الالتفاف على انتفاضة شعب تونس الشجاع الرائد الذي دشن مقدمة نهوض ملايين العرب في كل بلدانهم.
الطغاة يرتعدون، ولذا ليس صدفة أن يلوم أحد أبرزهم شعب تونس لأنه تخلص من بن علي، وعتب عليه ولامه لأنه لم يصبر حتى نهاية ولايته، بل ورأى أن بن علي هو الأجدر لأن يحكم مدى الحياة!
هذا ما رآه قائد الثورة العالمية، القائد الأممي العقيد القذافي!
في بعض بلاد العرب بادرت حكومات لخفض أسعار الخضار: الفجل والبقدونس والبندورة!
لن يتعلموا، لأن طبيعتهم معادية للشعب، محتقرة للمواطن الذي جعلوه غريبا في وطنه، وحلبوه كالبقرة دون تقديم الغذاء له، وتأمين العلاج البيطري عناية بصحته ليحلب أكثر!
الإنسان التونسي أنار الطريق للحرية والمستقبل، لم ينتفض لتحسين سعر الفجل، ولكنه انتزع قيمته كإنسان يعيش بالخبز والحريّة، والحريّة أولاً!
تعرّف ملايين العرب عبر الفضائيات على مئات المفكرين، ورجال القانون، والسياسيين المحترمين، من داخل تونس وخارجها..فدهش وتساءل: أين كان كل هؤلاء؟!
كان نظام الاستبداد يطاردهم، يلغيهم، فمنهم من غادر نجاة بنفسه، ومنهم من لاذ بالصمت، ومنهم من قضى بعض عمره في السجن وحرم من العمل، ومنهم من كان يعيش (تقية) في وطنه!
بعد انتفاضة شعب تونس سيكون عيبا على أي مثقف، أو إعلامي، أو(مُنظّر) أن يصف الجماهير العربيّة بالسلبية، لأن واجبه أن ينحاز لجماهير بلده ـ أستثني مروجي اليأس، وناشري الإحباط ـ وينزل معها إلى الشارع، فشعب تونس قّص شريط الحريّة، وكتب مقدمة انتفاضة عربية ستتوالى فصولها...
وحتى يكمل شعب تونس انتصاره نأمل أن يبقى يقظا، حتى لا يُلتف على انتفاضته، وله عبرة في انتفاضتي شعب فلسطين!