بقلم : سهيل كيوان ... 27.01.2011
كان النفق مظلماً وطويلاً جداً، متاهات تفضي إلى متاهات، حتى ظن البعض أنه لم يعد هناك أمل برؤية ضوء حقيقي لا في نهاية النفق ولا في جنبه ولا في سقفه، بات كل شيء خانقا، الشقيق لا يثق بشقيقه والرفيق يطعن رفيقه، كل شيء آيل للسقوط، والفساد هو سيد الموقف.
وصدّق الحكام أن شعوبهم لا حول لها ولا قوة إلا بإشارة منهم، صدّقوا أن خروج مئات الآلاف من الجائعين والعاطلين عن العمل والمهانين إلى الشوارع ملوّحين بأيديهم متزاحمين للتبرك بلمس عربة الزعيم المصفحة هو محبة وعشق وتواصل حقيقي بين القائد والشعب دون أن يسأل أحدهم نفسه...ما هو المنطق بأن يحبه بل يعشقه شعب جائع ومُهان بين الأمم.
لقد بلغ جنون العظمة لدى بعضهم حتى توهم بالفعل أنه قادر على كل شيء، والملايين عاجزة عن فعل أي شيء، وأن رجلاً مثله يعد بثمانين مليون رجل وامرأة وليس بألف رجل مسكين فقط. بل أن بعضهم تواطأ مع مرؤوسيه وسمح بربط اسمه بالقضاء والقدر، فهو يطعم ويكسي ويكيّف، يُعطي ويمنع، يعفو وينتقم، حتى اطمأن هؤلاء الحكام إلى أن شعوبهم غير قادرة على أن تأتي بنأمة إلا بإذنهم، فمنح بعضهم الناس الحق بالتنفيس بتنهيدة.. (آه) أو (آخ)....، وبعدها إما أن يعفو أو يعاقب..وبعضهم حرّم على الناس حتى التنهد.
هكذا جعلوا حياة الإنسان اليومية حلقة مغلقة بإحكام فلا يفكر ولا يبدع إلا بكيفية الحصول على الرشوة أو تقديمها، والتذلل لمن هم أرفع منه درجة عل وعسى أن يدنو من صحن السلطان كي يدرأ عنه وعن أسرته غائلة جوع وحرمان وقلق على مصيره ومصير أسرته وأبنائه.
عندما توزع مدفأة أو بطانية أو رزمة طعام للمحتاجين فهي مكرمة من الحاكم، وأعتقد أنه لا توجد كلمة 'مكرمة' بالمعنى الذي نعرفه في أي لغة من لغات العالم سوى العربية، لأن ما يسمى عند العرب 'مكرمة' هو في الدول التي تحترم نفسها حق للمواطن ينتزعه بقوة القانون، وإنما يقصد بهذه 'المكارم' إخبار المواطن بأنه سيجوع ويعرى ويموت برداً لولا كرم أخلاق الحاكم ورضاه عنه.
هكذا الأمر إذا عبر الشارع دون أن يدهس وركب قطاراً ووصل بسلام وفاز بلعبة كاراتيه أو في مسابقة غناء، فهذا يعود أيضاً لتوجيهات الحاكم السامية، فالوطن ليس فيه مهندسون ولا رياضيون ولا فنانون ولا مفكرون ولا أدمغة سوى دماغ الحاكم، وكل ما يحدث للناس من خير هو بفضــل توجيهاته الحكيمة، ولهذا فالحاكم الذي يتكرم بمدفأة أو بطانية أو علبة حساء لا يُسأل عن ثروته، ولا من أين لك هذا، وإذا كانت ثروة بن علي وزوجته تقدر بسبعة وثلاثين مليار دولار فهذا يعني أنه كان يربح مائة وسبعة وثمانين ألف دولار في الساعة منذ توليه السلطة، فالسماء تمطر ذهبا والأرض تنبع دولارات على قصر الحاكم العربي من المحيط إلى الخليج والشعب يخرج ليلوح بيديه وينحني تحية وإجلالا لمدفئة الحاكم وبطانيته وسياط رجاله وشلاليطهم...
وإذا كانت كل بطانية تسجل كإنجاز للحاكم لأنه مسؤول عن كل شيء، فالطبيعي أن يكون هو أيضاً المسؤول عن الفقروالغلاء والفساد والبطالة والفشل والبهدلة أمام الأمم، ولكنه في اللحظات الحرجة ينسحب من الواجهة ليتحمّل المسؤولية من هم دونه، ومن هم دونه يحملونها لمن هم دونهم إلى أن يتم تحميل المسؤولية للشعب الذي لا يعرف كيف يستعمل 'الحرية والديمقراطية' التي أعطيت له، فغير المعتاد على البخور يحرق قفاه.
عندما يكون اقتصاد البلد كله مبنياً على 'مكرمات' الحاكم والفساد ويتحول هذا إلى قناعة لدى الشعب، حينئذ يصبح من حق المواطن المطالبة بحصته من 'المكرمات' وخيرات الفساد، وحينئذ يقف النظام عاجزاً عن إكرام ورشوة الملايين، وعندما تتحرك هذه الملايين غاضبة يقف الحاكم وجهازه عاجزين مهما كانت عبقرية مسؤولي أمنه في أساليب القمع وامتصاص النقمة.
طبعا هذا ليس بعيداً عن فلسطين، لأن أحد أهم أسباب استمرار المأساة الفلسطينية هو الحاكم العربي الذي بات شريكا واضحا في قمع طاقات وطموحات الأمة ومسهماًَ بشكل مقصود في حرفها عن مسارها الصحيح وإحباطها وهدمها، فكلما كان الحاكم أكثر قمعاً وسفاهة تغوّل حكام اسرائيل في المقابل وتمادوا لدرجة أنهم ما عادوا يرضـــــون بأي تنازلات وخدمات عربية مهما بلغت، وباتوا يستهترون بمقــــترحات ومبادرات القمم العربية، لأنها فاقدة للهيبة محليا وإقليميا ودولياً، ومن سجونه مليئة بالأسرى لا يحق له أن يطالب بإطلاق سراح الأسرى، ومن يقمع شعبه ويستعبده لا يحق له المطالبة بتحرر الآخرين.
لقد عصرت إسرائيل سلطة رام الله كالليمونة وبالمقابل لا تريد منحها شيئاً مقابل تنازلاتها وخدماتها، ولهذا ليس مستهجناً الادعاء بأن إسرائيل لا تنوي الخير لهذه السلطة وتسعى لإرباكها وحتى الإجهاز عليها، نعم هذا جائز جدا، فالسلطة أنهت دورها وأعطت كل ما يمكن أن تعطيه، وقد هددها نتنياهو بعد إعادة تركيبة حكومته وتبنيها التام لنهج ليبرمان قبل أيام من نشر 'الوثائق السرية' بقوله ..'هذه هي حكومة إسرائيل وهذا هو الموجود وعليكم أن تقبلوا به وأن تعودوا إلى دورة جديدة وطويلة من التفاوض بدون أي التزام من جانب اسرائيل وأحذركم من انتظار حكومة أكثر كرماً من هذه'. وهذا كي يتاح لهذه الحكومة إتمام المهمة التاريخـــية بابتلاع ما تبقى من فلسطين وتخفيف أكبرعدد ممكن من السكان العرب ضمن حدود الدولة اليهودية وبغطاء شرعي اسمه المفاوضات، وطبعاً بغطاء من الحكام العرب، لأن أنظمة الاستبداد تحتاج بشكل دائم للمتاجرة بقضية فلسطين، لدرجة أن بعضهم اتهم فلسطين بأنها سبب فقر وفاقة وبطالة وتخلف شعبه، ومن جهة أخرى تحتاج الأنظمة إلى شهادة حسن سلوك من السيد الأمريكي والأوروبي كي لا يفتح ملفاتها، وهذه الشهادة لا يمكن الحصول عليها إلا بعد غمزة من إسرائيل سراً أو علانية، إلى جانب التبرير الحقير للاستبداد بمحاربة الإرهاب الذي هو في الأصل وليد الأنظمة نفسها.
إن أكبر خدمة يقدمها هؤلاء الحكام لفلسطين وشعبها هو بأن يحلوا عن ظهر شعوبهم، فبداية تحرير فلسطين تبدأ بتحرر إرادة الإنسان العربي فكراً وتعبيراً وإبداعاً وقدرات.
طبعاً هذه الأنظمة سوف تتشبث بمواقعها وبدساتيرها المحنطة والمفصلة على حجم رؤوسهم ونعالهم، ولهذا فإن كل تحرك شعبي ضدها يعيد الأمل بأن فلسطين لن تصبح أندلس جديدة، ولن تبكي الكمنجات على العرب الخارجين من فلسطين كما بكت على العرب الخارجين من الأندلس!!