أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
طوبى للثائرين وسُحقا للخانعين!!

بقلم : د. فيصل القاسم ... 02.02.2011

ليس هناك أدنى شك بأن عالمنا العربي يعيش هذه الأيام أزهى أيامه. صحيح أن الوضع وصل أرذل حالة من التدهور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، لكن النهوض لا يأتي إلا بعد الانحطاط، وها هي بعض الشعوب العربية وقد بدأت تنهـــض ببسالة عظيمة، بينما ما زالت شعوب عربية أخرى 'من صمتها تخاف'، كما يقول أحمد مطر في تلك القصيدة الشهيرة 'ناقص الأوصاف' التي يرى فيها أن الغنم أكثر رجولة من بعض الشعوب العربية المستكينة.
وقبل أن أسترسل، لا يسع المرء إلا أن يقف إجلالاً وإكباراً للشعوب العربية الثائرة وفي مقدمتها الشعب التونسي العظيم الذي أراد الحياة فاستجاب له القدر، والشعب المصري العملاق الذي صبر طويلاً، لكنه ينتفض الآن انتفاضة تعيد الروح للجسد العربي المنهك، والشعب اليمني الأبي الذي رغم الظلم والفقر ها هو يملأ الشوارع هتافات مطالبة بالتغيير والتحرر من الاستعمار الداخلي الذي هجاه يوماً شاعره الكبير عبد الله البردوني عندما قال:' وهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري... ومن مستعمر غاز إلى مستعمر وطني'.
ولا ننسى الشعب الجزائري الثائر الذي يعود للثورة من جديد، خاصة وأن نضاله ضد المستعمر الفرنسي لم يحقق له الاستقلال المطلوب، فسقط في براثن مستعمر داخلي أشد وأنكى. ولعل البعض يتذكر كلمات ذلك العجوز الجزائري التي نطقها أمام الرئيس الراحل هواري بو مدين حين سأله عن الوضع الجديد فقال:'في الماضي رحبنا بالمستعمر الفرنسي، واليوم نرحب بإخواننا المستعمرين الجدد'. وبالرغم من أن الشعب الجزائري كان قد ثار ضد 'أحفاد بن باريس' كما سماهم كاتب جزائري قبل حوالي عقدين، إلا أن ثورته أجهضت بدعوى أنها إسلامية الطابع، ويمكن أن تهدد أوروبا القريبة. لكنه لم ييأس، فها هو يعيد الكرة ضد جنرالات القمح والأرز والبترول الذين ينهبون خيرات البلاد، ويحولونها إلى حسابات سويسرية، بينما يعيش الكثير من الجزائريين على الكفاف.
والشكر موصول طبعاً للشعب الأردني الباسل الذي لا يتردد في الخروج إلى الشوارع مطالباً بتحسين أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية التي تتردى يوماً بعد يوم، وكذلك اللبناني.
صحيح أن الشعب السوداني الطيب يتحرك على خجل هذه الأيام، لكنه صاحب إرث ثوري عظيم، فهو أول من أطاح بطاغية من بين الشعوب العربية جمعاء، وأقصد هنا ثورته المباركة على الديكتاتور البشع جعفر نميري. وليس عندي أدنى شك بأن السودانيين قادرون على تكرار ثورتهم متى أرادوا.
آه كم كبر الشعب التونسي في عيون العرب من المحيط إلى الخليج. ليس هناك شك بأن أهل تونس كانوا دوماً كباراً، لكنهم ازدادوا عظمة وتألقاً بعد ثورتهم المباركة. ولا أستطيع إلا أن اذكر أنه كلما أسمع شخصاً يتكلم باللهجة التونسية في الأيام القليلة الماضية في أي مكان إلا وأشعر شعوراً جميلاً جداً، لأن تلك اللهجة المميزة أصبحت تحمل في طياتها الأمل والعزة والكرامة. وقد أخبرني صديق لي قبل أيام أنه كان واقفاً في طابور لدفع فاتورة الهاتف، فسمع صوت شخص يتحدث باللهجة التونسية خلفه في الطابور، فقام فوراً بمصافحته بحرارة بالغة، وطلب منه أن يأخذ مكانه كنوع من التكريم لواحد من ذلك الشعب العظيم. وقد قال له حرفياً: 'لا يمكن أن أكون أنا في المقدمة وأنت الثائر ورائي. لا أقبل إلا أن تقف مكاني وأنا أعود إلى الوراء، فالثوار أولى بالأماكن المتقدمة حتى في الطوابير'. ولا شك أنني كنت سأفعل الشيء نفسه لو شاهدت تونسياً يقف خلفي في الطابور.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للأخوة المصريين الذين انتقلوا من عصر إلى آخر، ولعلنا نتذكر أن نظام حسني مبارك أهان الشعب المصري على مدى ثلاثين عاماً إهانة كبرى على كل الصعد تقريباً، ففي المجال الغنائي مثلاً كان العرب يفتخرون بالمطربين والمطربات المصريين الكبار أمثال أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، أما عصر مبارك فلم ينجب غير أمثال شعبولا وآخرين يتقنون الرقص الخليع أكثر من الغناء بألف مرة. وبينما كان العرب يقفون إجلالاً واحتراماً للأدباء المصريين العظام من أمثال طه حسين والعقاد، لم يعودا يجدون أمامهم في عصر مبارك إلا الكتاب المنافقين والأفاقين 'الهايفين' من الدرجة العاشرة. وبينما كان العرب ينتظرون على أحر من الجمر لقراءة مقالات والاستماع إلى صحافييه الكبار أمثال هيكل في تلك الأيام الخوالي، لا يجدون أمامهم الآن سوى أنصاف الصحافيين الذي يزعقون عبر الفضائيات بطريقة مقززة دفاعاً عن سيدهم الذي لفظه الشعب المصري. وبينما كان العرب والمصريون يتفاخرون ذات يوم بالسد العالي ومصانع الصُلب المصرية العظيمة، لم يجدوا أمامهم في عهد مبارك سوى القطط السمان التي تعتاش على دماء الشعب المصري كأحمد عز وأمثاله. وبالتالي، لا عجب أبداً أن انخفضت قيمة الشعب المصري في عهد مبارك، بعد أن كان الجميع يرنو باحترام كبير إلى المصريين في عصر جمال عبد الناصر وحتى في العصر الملكي. أما الآن وقد ثار هذا الشعب العظيم ثورته التاريخية، فقد قفزت أسهم الشعب المصري ثانية في بورصة التقدير والاحترام العربي والعالمي قفزات كبيرة يستحقها تماماً.
لقد تغيرت نظرة العرب أجمعين إلى مصر العظيمة في الأيام الماضية، وكذلك نظرة المصريين إلى أنفسهم. وأتذكر أنني كنت قبل أيام في محل تجاري، فسمعت شخصاً يتحدث بلهجة مصرية، فما كان مني إلا أن اقترب منه بكل محبة واحترام لأقول له ألف مبروك، لا بل شعرت برغبة عارمة لأخذ صورة تذكارية معه. آه كم تغيرت صورة مصر بعد الثورة الجديدة! لقد بدأت مصر تستعيد قيمتها وهيبتها ومكانتها التي أفقدها إياها النظام المتداعي على مدى ثلاثة عقود.
طوبى للشعوب الثائرة! وسحقاً للشعوب العربية الأخرى التي لا تستطيع حتى الآن أن تفتح أفواهها إلا عند طبيب الأسنان. كم شعرت بالخزي والعار عندما قابلت بعض العرب الخامدين، وسألتهم عن رأيهم في الثورتين التونسية والمصرية، فخافوا حتى من إبداء رأيهم، واكتفوا بابتسامة صفراء تحجب خلفها أطناناً من الجبن والهوان. فكيف لمثل هذه الشعوب المرعوبة أن تنال حقوقها، وتستعيد كرامتها المُداسة إذا ما زالت عاجزة عن تأييد الشعوب الثائرة بالكلام، ناهيك عن القيام بثوراتها الخاصة؟
كم أشعر بالفرح والحزن معاً عندما أشاهد آراء الفتيات اليمنيات على قناة الجزيرة وهـــن يتوعدن الرئيس اليمني بالويل والثبور وعظائم الأمور و'التونسة'، بينما تمتاز آراء بعض الشوارع العربية الأخرى بالتحفظ الشديد والخوف الواضح إزاء ما يحدث في البلدان الثائرة.
كم كانت كلمات الفتيات اليمنيات مليئة بالرجولة والشهامة والشجاعة. وكم كانت كلمات بعض أصحاب الشوارب في بلدان عربية أخرى ترتعد أوصالها وهم يبدون رأيهم بما يحدث في تونس ومصر. تباً لهكذا شوارب!
كم حزنت عندما شاهدت شاباً عربياً على الشاشة وهو يحاول أن يتلفظ بعض كلمات التأييد للثورة المصرية، لكنه سرعان ما بلع ريقه، وبدت عليه علامات الرعب، خوفاً من أن تأتي 'كلاب الصيد' ليخفونه خلف الشمس. لا أريد أن أذكر أسماء الشعوب الخامدة، لا لشيء إلا لأنها قد تستفيق فوراً من هوانها، وتكسر قيودها، خاصة وأن الصمت قد يكون، في معظم الأحيان، تجهيزاً للثورة كما يقول فيلسوف ألماني.
لتعلم الشعوب التي ما زالت خانعة أن من يحني ظهره يصبح عُرضة للركوب كالدواب والذبح كالدجاج لا كالخراف، فالخراف، برأي الشاعر أحمد مطر، أكثر شجاعة وأحسن حالاً من بعض الشعوب العربية المستكينة، إذ يقول:
'نزعم أننا بشر
لكننا خراف!
ليس تماماً إنما
في ظاهر الأوصاف
نُقاد مثلها؟ نعم
نذعن مثلها ؟ نعم
نذبح مثلها ؟ نعم
تلك طبيعة الغنم
لكن .. يظل بيننا و بينها اختلاف
نحن بلا أرديةٍ
وهي طوال عمرها ترفل بالأصواف !
نحن بلا أحذيةٍ
وهي بكل موسم تستبدل الأظلاف!
وهي لقاء ذلها تثغو و لا تخاف
ونحن حتى صمتنا من صوته يخاف!
وهي قُبيل ذبحها
تفوز بالأعلاف
ونحن حتى جوعنا
يحيا على الكفاف!
هل نستحق، يا ترى، تسمية الخراف؟!'
أخيراً لا يسعنا إلا أن نقول: هنيئاً للمنتفضين، وتباً للمركوبين!