بقلم : علي الكاش ... 18.02.2011
لاشك ان ثورتي تونس الخضراء ومصر الفيحاء والثورات القادمة بعون الله في منطقتنا هي فاتحة كتاب الحرية للشعب العربي الذي يرزح تحت نير الإحتلال الأجنبي المباشر كالعراق وفلسطين وغير المباشر كالدول العربية التي توجد في أراضيها قواعد عسكرية امريكية أو ترتهن سياساتها بتوجيهات العم سام. والتحرر من صفود الأستبداد والدكتاتورية. ثورتان سريعتان كطلقتي بندقية إنطلقتا وأصابتا أهدافهما إصابة قاتلة وتشظتا إلى أماكن أخرى. سرعة أثارت دهشتنا ودهشة العالم كله وأثبتتا بالدليل القاطع إن إرادة الشعوب أقوى بكثير من كل الأجهزة الأمنية والمخابراتيه وقوى الجش والشرطة وغيرها من المؤسسات التي يحرف الطغاة مسارها الوطني ويسخرها لخدمته، فبدلا من أن تكون سور للوطن والشعب تتحول إلى سور منيع يحمي النظام وبطانته العفنة.
حقوق الشعب في الحرية والديمقراطية وبقية حقوقه الإقتصادية والاجتماعية والثقافية ليست فرمانات يصدرها السلاطين ويلغوها متى ما شاءوا. إنها حقوق ثابتة رسمها القانون السماوي وأطرتها القوانين الوضعية وهي لا تخضع للمساومة بين الحاكم والمحكوم. ومتى ما حرم الحكام شعوبهم منها فسخ العقد الأجتماعي بين الطريق ورفع اذان الثورة وحي على خير العمل.
ان عوامل نجاح الثورتين التونسية والمصرية هي عوامل داخلية بحته وضع ابجديتها الثوار أنفسهم، ولم تكن متأثرة بفضاءات خارجية. فالثورة الناجحة هي الثورة الشعبية ذات الشخصية الوطنية المستقلة والمعبرة عن إرادة الجماهير المضطهدة. ربما تكون عفوية أو مخطط لها هذا ليس بالأمر المهم، فالعبرة في النتيجة. بوعزيزي البطل التونسي الذي احرق نفسه وتحول إلى رماد لم يكن يعرف بأن جسده هو جسد الوطن كله، وإن إحراق نفسه أمتد لهيبه فحرق نظاما برمته. ولم يكن يعلم إن رماده الزكي يخفي شراره ستنطلق إلى دول أخرى تحرق أنظمها بدأت بمصر ولا يعرف اين تنطفيء، لو علم بو عزيزي بكل هذا لأشعل نفسه ألف مرة برضا تام.
كما إن السيدة المصرية التي ظهرت على شاشة التلفاز قبل إندلاع الإنتفاضة بحوالي إسبوع متحدثة عن مأساة الشعب المصري والفساد السياسي والبطالة وارتفاع الأسعار وأزمة السكن وتفشى الفقر والجوع والمرض بين المصريين، وناشدت الرجال والشيوخ والنساء والأطفال والطلاب بأن يلتقوا بها في موعد قادم (يوم25 الشهر الماضي). لم تكن تعلم إنها ستكون عروس الثورة المصرية وأن خطابها زادوا عن ربع مليون مواطن تبعوها كظلها. بيانها لم يستغرق سوى دقائق معدودة ليقلب نظام عمره ثلاثين عاما مبشرا ببزوغ فجر جديد.
لاشك أن هاتين الثورتيين الجبارتين جعلت الكثير من الرؤساء العرب يعيشون كوابيس مخيفة وأن صحوا منها، فأن أول ما يفكروا به هو البلد الذي سيفرون إليه، وكيفية تهريب المليارات من الدولارات التي استحوذوا عليها من أموال الشعب الفقير. وربما البعض منهم بدأ بتقديم تنازلات أو تغييرات في الوجوه والقوانين والأنظمة معتقدين إنهم بألاعيبهم المكشوفة سيتمكنوا من إفراغ بالون الشعب من هواء الغضب المتزايد.
صحيح إن أسباب الثورتين معروفة للجميع، لكن اروع ما فيهما إن الثوار لم تكن لهم نظرة ضيقة ضد واجهة واحدة من الفساد الحكومي. فالبطالة وإرتفاع الأسعار والفساد المالي والإداري وأزمة السكن والفقر والجوع والظلم جميعها قواسم مشتركة تفاعلت وإنصرت في بوتقة الثورتين. لأن مظاهر الفساد الحكومي كالأواني المستطرقة تتساوى فيها المناسيب في النهاية.
لذلك كانت الشعارات المرفوعة من قبل الثوار تتحدث عن جميع مظاهر الفساد الحكومي ولم تختص بنظرة أحادية للواقع المأساوي هذا أمر مهم في تقرير مصير أية ثورة. لأن الحاكم عندما يجد أن أسباب الغضب الجماهيري تتلخص في مطلب واحد كأزمة البطالة مثلا! فإنه يمكن أن يجهضها بحل سريع وعاجل. والحال نفسه مع أرتفاع الأسعار أو أزمة السكن. لذلك فإن مجابهة الحاكم في جبهة واحدة تمكنه التعامل معها بسهولة أو المناورة أو الإلتفاف على المطلب الجماهيري. ولكن عندما يفتح الثوار كل جبهات الفساد الحكومي على الحاكم عندئذ يستوطنه اليأس من جدوى التصدي للجماهير الغاضبة فيرضخ لإرادتها، مثلما جرى في مصر وتونس. وعكس ذلك تنتهي مطالب الإنتفاضة بنهايتها, هذا ما حذرنا منه في مقال سابق عن إنتفاضة الكهرباء التي حدثت قبل أشهر في البصرة ومحافظات أخرى. فقد حملت بذور فشلها بين طياتها لنفس السبب وبقيت المشكلة قائمة. نحن لا ننكر أهمية الكهرباء في حياة المواطن ولكن هل أزمة الكهرباء فقط هي مشكلة المواطن العراقي؟
ماذا بشأن الإحتلال البغيض وهو مصدر كل البلاء؟ وماذا بشأن البطالة التي تفتك بالشباب؟ وماذا بشأن القتل اليومي الذي تمارسه قوى الظلام سواء كانت التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسعورة أو أجهزة الدولة الرسمية؟ وماذا بشأن نهب المليارات من الدولارات من ثروات البلد؟ وماذا بشأن المحاصصة الطائفية؟ وماذا بشأن نهب كنوز العراق الحضارية من قبل المسئولين وتهريبها؟ ماذا بشأن الشهادات المزورة وإعفاء المزورين من الجريمة المخلة بالشرف بمبررات سخيفة؟ ماذا بشأن آلاف السجناء الأبرياء القابعين في السجون السرية والعلنية دون تهمة محددة أو مذكرة من القضاء المسيس؟ ماذا بشأن مصير مليون أرملة وأربعة ملايين يتيم؟ وماذا بشأن استيلاء دول الجوار على آبار نفطية عراقية وقضم مساحات منه أرضه يوم بعد آخر؟ وماذا بشأن إنهيار النظام التعليمي في البلد من المدارس الإبتدائية وحتى الجامعية وتفشي الأمية من جديد في بلد تطهر منها منذ عقود؟ وماذا بشأن ظاهرة المخدرات القادمة من ايران التي يتعاطاها الشباب وإنتشار الأيدز بسبب زواج المتعة؟ وماذا بشأن الحصص التموينية التي لم تصل كاملة للمواطن منذ الغزو لحد الآن علاوة على ردائتها؟ وماذا بشأن المياه الملوثة غير الصالحة للشرب والبيئة الملوثة بالفسفورالتي تسبب موت الآلاف بمرض السرطان والتشوهات الخلقية في الولادات الجديدة؟ وماذا بشأن مصير( 4 ) ملايين عراقي مهجرين في الداخل والخارج؟
هناك العشرات من الأسباب، بل المئات منها وقد أشار لها أحد كتابنا الأفاضل. أي سبب كافي بحد ذاته لإشعال ثورة في أي بلد في العالم ماعدا العراق الذي تؤام نفسه مع الذل والخنوع فبات كل منهما رديفا للآخر. وهنا نتساءل بإستغراب: هل كل نوع من أنواع الفساد الحكومي يستوجب تظاهرة خاصة تندد به؟ فاليوم تظاهرة بشأن الكهرباء وغدا تظاهرة عن شحة مياه الشرب، تليها عن البطالة وهلم جرا! أم إن جميع أسباب القهر والظلم تنصهر في بوتقة واحدة تسمى فساد الحكومة؟
كما هو معروف في عالم السياسة يحاول بعض ثعالبها أن يقدموا أنفسهم كقادة ومدبرين لثورات الجماهير أو يعظموا من شأنهم ودورهم فيها في محاولة يائسة لسرقتها من أيدي اصحابها الحقيقيين. كما جرى في مصر مؤخرا. والحقيقة أنه لا وزير الدفاع الطنطاوي ولا البرادعي ولا الأخوان المسلمين أوغيرهم من الأحزاب هم منظروا وقادة الثورة. ولا يجوز لأي منهم ترويج هذه الدعاوى مهما كان حجم دوره وفعاليته في الثورة. لأن الثورة هي ثورة الشعب المصري كله وليست ثورة أحزاب وأفراد، مع كل الإحترام لدورهم وأهميته.
نحن على موعد في الإسبوع الأخير من هذا الشهر مع تظاهرة عراقية في بغداد وربما بقية المحافظات العراقية، ورغم إن الأستعدادات لها ما تزال دون الطموح، والآمال منها محدود، لكن تبقى لها أهمية خاصة في كونها تشكل قاعدة لإنطلاقة أقوى وأشد في المستقبل القريب. لا نحاول بهذا الصدد أن نقلل من شأنها، بل نأمل أن تكون توقعاتنا خاطئة وأن تكلل الجهود بالنجاح لكن المشهد السياسي العراقي له إنعطافات خطيرة لابد ان توضع في الحسبان. كما أن أفكار الشعب لم تتبلور بشكل واضح. فالنفس الطائفي والنزعة العنصرية لاتزال في أوج قوتهما، حتى وأن خفت ظاهريا أو أختفت من الشعارت المرفوعة. كما أن التظاهرات الأخيرة كانت محدودة الأهداف وبعضها لم يطالب بأكثر من تحسين الخدمات بمعنى ان هناك تقصير في جانب ما من إداء الحكومة فقط من وجهة نظر البعض، وليس المطالبة بتغيير نظام الحكم كله.
كما ان الأحزاب السياسية الحاكمة تمتلك ميلشيات قوية ومدربة وبتسليح خطير، حيث يمكن ان تؤثر في مجرى الأحداث القادمة. إضافة إلى أن قوات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية أسست اصلا لحماية النظام ووجوده. لذلك سوف لا تتورع عن أستخدام العنف والإعتقال قبل وأثناء وبعد التظاهرة، وهذه الأجهزة جبلت على العنف والإضطهاد وهي لا تقل وحشية و إجرام عن الميليشيات.
كما أن موقف قوات الإحتلال سيكون مؤثرا في هذا الجانب فهو كما تدل المؤشرات راض كل الرضا عن إزدواجية عمالة المالكي له من جهة والولي الفقيه في طهران من جهة ثانية! حيث لم تتعارض مصالح الدولتين في العراق بجهود المالكي. لذلك غضت النظر عن نهب الأخير لحقوق القائمة العراقية في الإنتخابات الأخيرة بما يتناقض مع مفاهيم الديمقراطية الأمركية. وهناك اتفاقيات أمنية وتنازلات لا يعرف عنها الشعب العراقي شيئا قدمها المالكي للإدارة الأمريكية. لذك فالمالكي طرف مرغوب به من قبل الإدارة الامريكية لا تنوي الإستغناء عنه.
يضاف إلى ذلك مصيبة المصائب وتتمثل بالجارة المسلمة إيران. فهي صاحبة الجوكر في العراق ونفوذها يفوق نفوذ قوات الإحتلال نفسها. بالإضافة إلى أن عملائها يشغلون أهم المناصب الحكومية والبرلمانية في العراق والأخطر من هذا مفاصله الأمنية. كما إن هناك تأثير فاعل وقوي للخامنئي على اكثرية الشيعة في العراق! وهذا واقع مؤلم لكنه حقيقي لا يمكن إنكاره.
لذلك ما تريده إيران في الظروف الحالية هو الذي سيتقرر! ولاشك أن المالكي الذي صرح مؤخرا بأن مصالح العراق الإستراتيجية هي مع إيران وليس غيرها - أي العرب- ووصفها ب(الدولة الشقيقة) تؤشر واقع حال بأنه ليس من المنطق أن يأذن نظام طهران للمالكي بالإنصراف! فهو عميل نموذجي ونادر بالنسبة لها. لذلك بإيعاز بسيط من نجادي أوالخامنئي للأحزاب السياسية الحاكمة في العراق سواء التي صنعوها أو التي تواليهم، وتوجيه للميليشيات المرتبطة بهم، يمكنهم توجيه بوصلة الأحداث بالإتجاه الذي لايشكل خطرا عليهم أو على عملائهم.
كما إن المرجع الأعلى للشيعة في العراق فارسي القلب والقالب، وهذا الرجل أثبت أنه سياسي محنك من الطراز الفريد. ويمكنه بسهولة أن يغلف العقيدة بجلد سياسي ويروجه بين أتباعه فينبهروا به سيما أن معظمهم محدودو الثقافة والوعي! ومن الطبيعي جدا أن يستخدم السيستاني نفوذه الديني لخدمة أهداف ومصالح وطنه الأم إيران. ومن المثير إنه رغم كل التجاوزات الإيرانية على العراق وشعبه، فإنه لم يحرك ساكنا ولم يوجه للنظام الإيراني نصح ولا نقول نقد أو لوم فهذا ضرب من المستحيلات. لذلك عندما تحين ساعة الخطر وتتهدد مصالح طهران سيخرج من جحره ليلدغ العراقيين في منطقة ضعف.
هذه الأسباب وغيرها تحدد الأمال المرجوة من التظاهرة القادمة. لذلك يمكن القول إنه إذا لم تتوحد إرادة الجماهير، ويتكامل وعيه، ويسمو الوازع الوطني عنده على بقية العوامل، ويدرك أسباب ضعفه ويشخص أهدافه بشكل صائب. وإذا لم يدخل الشيعي والسني والمسيحي والأيزيدي والصابئي والعربي والكردي والتركماني والأرمني والفيلي وغيرهم تحت مظلة العراق الواحد ويفسح كل منهم للآخر مكانا رحبا. وما لم يترك مراجع الشيعة والسنة شؤون السياسية وينصرفوا إلى شؤون دينهم. وإذا لم ينته الإحتلال الأمريكي الأيراني للعراق ويتوقف تدخل دول الجوار- بلا إستثناء- في الشأن العراقي الداخلي. وما لم تحل الميليشيات المسعورة وترجع قوات الجيش والشرطة للصف الوطني وتصفى من الشوائب الطائفية. وإذا لم يمتلك العراقيون ملكة التمييز بين من هم أصدقائهم ومن هم اعدائهم، ويرفعون جميعا شعار واحدا" نحن عراقيون". إذا لم يتحقق كل ذلك من الصعب بل المستحيل أن تحسم النتائج لصالح الشعب.
مع هذا نأمل ان تكون تلك الخطوة الجريئة بمستوى ما جرى في تونس ومصر. فمعاناة العراقيين لا تقاس معاناة التونسيين والمصريين ولا أي شعب في العالم كله بمعاناة العراقيين وفق كل مقايس الظلم والإضطهاد، مما يحتم ثورة البركان الشعبي. لكن يبقى الفعل سيد الموقف ونجاحه مقياس العبور إلى المرحلة الأفضل.
نأمل من الله جلً جلاله أن ينصر الشعب العراقي على قوات الإحتلال وحكامه الطغاة، وأن يعمي كل من يحاول إستهدافهم خلال التظاهرة القادمة. وما النصر إلا من عند الله.