أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
دراسات في الثقافة البدوية في النقب !!"8"

بقلم : زهير ابن عياد ... 30.05.2010

اخيراً اذكر بان عربان النقب كانوا من هذه الموجات المهاجرة الحديثة والتي كانت تحمل لغة كلغات الحجاز ونجد الحالية, لغة مليئة ببقايا الفصحى, ولا مراء في أن الصحراء تحمل مناعة متناهية في الحفاظ على مفردات اللغة العربية, لا ادلّ على ذلك من اتجاه اللغويون نحو الصحراء لاجراء ابحاثهم الميدانية على اللغة العربية, وصحراء النقب كونها تحمل لهجة حجازية-نجدية, فهي إذا تعدّ لغة قريبة جداً من الفصحى وهاكم بعض الكلمات البدوية التي ما زالت سارية المفعول وهي كلمات تزخر بها الفصحى.
- نقول للرجل إذا اعتلى قمة "أنه سنّد المسناد" والمسناد هو السفح أي ما بين الجبل واسفله. وفي الفصحى القديمة نرى النابغة يقول في معلقته:
يا دار ميّة بالعلياء, فالسند _ اقوت, وحال عليها سالف الابد
-نقول للشحص الذي ذهب ليجلب الماء أنه "ورد" أي أنه سار للماء لجلبه, وفي الفصحى أيضاً تشبيه عمرو بن كلثوم لورود المعارك بورود الماء إذ قال مفتخراً على ابي هند:
بانا نورد الرايات بيضاً _ ونصدرهنّ حُمراً قد روينا
وعكس الوارد هو الصادر وهو الذاهب عن الماء وهي مفردة تستعمل كثيرا لدى بدو النقب .
- نقول في لهجتنا العامية "يكبّ" أي يقلب الشيء على راسه, قال امرؤ القيس يصف نزول المطر على مكان:
فاضحى يسحُّ الماء حول كتفيه _ يكبُّ على الاذقان دَوْحَ الكنهبل
- اعتاد البدو حتى الآن على حفر خندق صغير حول البيت يحول دون تسرّب الامطار إليهِ. وهو الذي يطلقوا عليه اسم النايا, واياه بلفظه قصد النابغة في قوله:
عوجوا فحيّوا لنُعم دمنة الدار _ ماذا تحيّون من نُؤيٍ واحجار
والنايا في عُرف العرب بالإضافة إلى حفرة النار واحجارها تُعتبر من الاطلال والرسوم الدوارس التي تبقى بعد الرحيل.
- نقول في عاميتنا "اوطيت عَ السبع" أي نزلت أو هبطت مدينة بئر السبع وطاتها برجلي من يطأ موطأ وهو مهبط القدم فيُقال وطئته برجلي أطؤه, والقدم مهبطها يكون على الارض الممهدة السهلة. وفي الحديث "اشدد وطأتك على مضر" والمواطاة هي الموافقة على امر يوطئه كل واحد لصاحبه. ولهذا قال البدو عن النعال "الوطىء".
- نقول لشخص اكثر في الكلام وضايق الجلساء "لا تهرج" والهرج هو الخلط في الكلام ومنه جرى في امثال الجاهليّة "كثر الهرج والمرج". قال ابن قيس الرقيات:
ليت شعري ااول الهرج هذا _ ام زمان من فتنةٍ غير هرج
-إذا طلب الشخص الخلاء فارّاً يقولوا عنه "هجَّ" وهي في لغة القُدامى تعني طلب الغموض والاختفاء, ويُقال عن الوادي العميق الهجيج ومن الصحراء المظلمة الهجاج, وهي اماكن وحشة وخلاء ومنها قالوا هجّ يقول المتمرس بن عبد الرحمن الصحاري:
ولا يدع اللئام سبيل غيّ _ وقد ركبوا على لومي هجاج
- يقال اُبرم الحبل, وجرى في امثال البدو –ابرمه برم الحبل- أي افتله باحكام. قال ابن الطفيل:
واضرب بالسيف يوم الوغى _ اقدّ به حلق المبرم
-في العامية نقول للشخص إذا هربت منه الدابة "انك نفرتها" وكذلك نقول للدابة التي تُجافي ولدها أنها نفرته, واصل نفر في اللغة هو تجافي وتباعد الدابة عن مكانها, يقول الفراء:
حيّننك ثمّت قالت أن نفرتها _ اليوم كلهم يا عرو مشتعل
- نقول لرجل خلع شيء عن شيء أنه قشع, وقد عرفوا في الفصحى قديماً أيضاً تلك اللفظة, واعتقدوا أن القشع ما يُرمى به عن الصدر من نخاعة...
وقالوا أن الريح تقشع السحاب وانه قد ينقشع قال متمّم بن نويره:
إذا القشع من ريح الشتاء تقعقعا
-الشعر البدوي: انظر فصل خاص بالشعر البدوي الحديث في النقب ص.
الشعر والذي يسمّوه البدو "القصيد" وهو شبيه بالشعر النجدي والحجازي الحالي والذي يُطلق عليه النبطي. وقصيد البدو ضارب في عمق البداوة ونابع من صحراءها, بل أنه يعكس طبيعة عيش الاجداد بكلّ تفاصيلها. واليوم على الرغم من التطوّر الحاصل في الفنون وغزو المدينة للصحراء., إلاّ أنّنا نُشاهد عودة مذهلة لابناء النقب لهذا النوع من الشعر, وقد قابلت العديد من هؤلاء الشعراء المبدعين في هذه الساحة, ومن خلال تتبُّعي لهذا الشعر وجدت رغم التطوّر في الوسائل الفنيّة أنه ما زال يتمتّع برزانة ورنّه اصيلة إذ يحوي العديد من مفردات البداوة ومعاني الصحراء.
إلاّ أن الابيات قديماً وحديثاً لم تكن تولّي الاوزان والبحور عناية بقدر ما تحاول ترجمة أفكار نابعة من صاحبها, فتأتي صادقة الاحساس والشعور فيصيب قلب المتلقّي وينبهر به, وفي ظنّي أنه لو قُيِّضَ لهؤلاء الشُّعار العلم اللازم للالمام بموسيقى الشعر وتفصيلاته ودراسة قديمة وحديثة, لاتوا بالعُجاب.
هناك لفظة تدلّ على أن الشاعر يقول الشعر, إذ يقول البدو عن فلان شاعر "أنه يقول..." والمراد هو قول الشعر والقصيد, وفي القديم وصفوا من يتعاطى الشعر بقولهم عنه أنه يُقرض الشعر.
ومما يؤكد تلك العلاقة الشعرية بين نجد والحجاز بالنقب هو تلك المفاهيم التي يتبادلها الشعر, واشتراك البيئتين بنفس المدلولات والصور الثقافية فهما جميعاً ينهلا من معين تقليدي واحد هو بيئة الصحراء القديمة, ففي الثقافة الشعرية للمجموعتين نلاحظ في صور عديدة منها – هبوب الشمال, نوح الحمام, الابل عطايا الله, شدّيت ع عبيّه, طلّة سهيل اليماني, برق السحاب, عريب الجدّ, الايام تجاريب... وهي اكثر من أن تُحصى.
حتى في اتجاه آخر نجد أن اسماء الشعراء هنا مائلة لتلك في الحجاز ونجد كعنيز بن سالم الترباني وهو سيناوي, وعنيز اسم متداول كثيراً في بيئة نجد والحجاز... ولا نتناسى الادوات الموسيقية المصاحبة للشعر التي استعملت في البيئتين كالربابة والعود... وكذلك معرفة الطرفين بانواع الشعر من شعر الحصاد والحرب والغزو وهي الاهازيج التي تُردّد على ظهور الخيل. انظر لنماذج حيّة معاصرة في الشعر لأهل النقب في الملاحق.
يقول عيّاد بن عديسان في وصف القهوة اخترت منها الآتي:
لنو دلق من مطلبه قُلت شبراق _ ودم قلبي انقطع منه معلوق
ولا صفي لك عند مدموجة الساق _ انهب من الدنيا ترى العمر ملحوق
وهذا المعنى ذكرني بمعلقة طرفة بن العبد الذي وصف الخمرة ولذة السكر وفي ابيات مشابهه للابيات السالفة " انهب من الدنيا ترى العمر ملحوق" يقول:
لعمرك ما الايام إلاّ معارة _ فما اسطعت من معروفها وتزوّد
وقصد بمعروفها اللذات واطاييبها.((هناك فصل خاص باللهجة البدوية العربية))
اجمال الفصل الأوّل:
لا شكّ بوجود اتصال قديم بين ثقافة وأدب الجزيرة العربيّة ممثّلة بالحجاز ونجد وحاليّاً السعودية العربية, وبلاد النقب والشواهد على ذلك اكثر من أن تُحصى, والمتعارف عليه أن جُلَّ العرب القاطنين في الآفاق قد خرجوا من الجزيرة العربية في زمن لا يمكن تحديده بدقّة. ولكن وتيرة ودرجة الحفاظ على النقاء العروبي سواء بالدم أو الأدب أو الثقافة واللغة تختلف من منطقة لأُخرى, فالذين اتجهوا إلى الحواضر والمدن قد ابتعدوا عن الاصل كثيراً فمثلاً الشام ودمشق كانت ذات اعراق عديدة قبل دخول العرب اليها وحتى بعد دخول العرب اليها جاءها الاتراك والفرس والتتار وغيرهم, فعلى هذا لا نستطيع البحث في ذلك المجتمع على مدى تأصّل الأدب القديم فيه, لأنّه خالط اقوام عديدة فتلعثم لسانه وتغيّرت ثقافته لبعده عن الاصل والمنبع. اما الذين اتجهوا إلى الصحراء فقد ملكوا نوعاً من الحصانة الثقافية, مكنتهم من الحفاظ على تراث الجزيرة القديم لقرون طويلة رغم تباعد السنين, والاحداث التي عصفت بالصحراء إلاّ أنه وبدرجة ما تبقى الصحراء معيناً نابضاً بالحياة والثقافة القديمة, هذا بالإضافة إلى أن التغييرات التي تطرأ على ثقافة الصحراء نستطيع التماسها لسهولة الأمر وصعوبة التغييرات. من هذا المبدأ نستطيع أن نقول أن صحراء النقب قد تكون من الصحاري الاقرب إلى ثقافة الحجاز ونجد الجاهليّة. هذا وكيف لو اعتبرنا أن هجرة أهل النقب قد تكون حديثة لبعض قبائلها. اخيراً اجمل أفكاري في الفصل الأوّل في عدّة نقاط للتسهيل على القارئ وهي:
• بالمؤشرات التي اسلفنا نستدلّ على أن بدو النقب قد خرج اجدادهم من قلب الجزيرة العربية.
•الجزيرة العربية تُعتبر مهبط الرسالة ولها قداسة مميزة في قلوب البدو, لهذا حافظوا على ثقافتها عندما خرجوا منها, وما فَتِأت قلوبهم ترنو إلى هناك.
• عندما خرج البدو من الجزيرة العربية أصبحوا كالغرباء في البلدان المفتوحة, لهذا حافظوا على عوائدهم وثقافتهم, حنيناً منهم لموطنهم الاصليّ.
• العرب من قِدَم امّة صحراويّة تكتفي بشظف العيش, ويرافقهم هذا الشعور كفطرة اساسيّة اينما حلّوا, وهذا من احد الاسباب القوية لدواعي حفاظهم على التراث والثقافة الخاصة بهم, برونق الزهد الصحراوي.
•الجزيرة العربية تمثّلت بصور عديدة بَقِيَ صداها مرافقاً للمهاجرين, كالاطلال ومصادفة الوحوش والذئاب, والظعن والحلّ, ونجم سهيل اليمانيّ... لهذا نرى الشعراء المهاجرين كثيراً ما يتطرقوا إلى الاطلال في شعرهم ويتخيّلوا انفسهم في الحجاز أو نجد...
• بما اننا ذكرنا أنه لا مُراء في أن البدو هنا هم احفاد العرب الحجازيين والنجديين, فإذا لا شكّ في انتقال حنين ولوعة آبائهم إلى موطنهم الاصليّ اليهم, وبقي ذكرها بينهم شائعاً وبالتالي حافظوا على ثقافتها وتراثها.
•العرب امّة عصبيّة تتعصّب للعروبة ومنبعها, والجزيرة العربية هي معدن العرب ومنها انتشرت انسابهم, لهذا حافظوا وبسبب العصبيّة على ثقافة اجدادهم, من جهة أُخرى نلحظ أن الشعراء عندما يتغزّل بمحبوبته يذكر نجد ويمتدحها "كعريب الجدّ" وكانه يقول أن حبيبته من عرق ماجد اصيل منبته كان هناك حيث قبائل العرب العريقة. فهذه المسافات التي تفصله عن الحجاز ونجد رُسِمت في اشكاليّة التعصب للعروبة, وان الشاعر لا يتغزّل إلاّ بعربيّة حرّة اصولها القديمة من جزيرة العرب. وهي نبرة فخر اشتهرت بين العرب وما زالت حتى اليوم في تقسيمات قبائل النقب فذاك يقول انا سعودي وذاك صعيدي وآخر يمني.
• انتقال البيئة الحجازية والنجدية مع العرب اينما حلّوا وان تغيّر اسلوب الحياة والعيش, إلاّ أن التقاليد والعادات الموروثة من هناك بقيت قائمة.
• اشتهر العرب بحفظ الانساب ومعرفة اصولهم, ومن نتائج ذلك الحفاظ على الثقافة والتراث الاصلي.
• أن انتقال وهجرة القبائل العربية إلى النقب وتقسيمه بينهم طبقاً للصورة التي كانت سائدة بينهم في نجد والحجاز, وبقيت تلك كصور ذهنيّة لا بدّ منها كتقسيم المراعي وموارد الماء, هذه الصور ولو أصبحت ذهنيّة إلاّ أنها ابقت للجزيرة ذِكراً بينهم فهم يتنازعون على البلاد كما كانوا يتنازعون في نجد, ولا ريب أنهم في مجالسهم كانوا يذكرون ما كان لهم في الجزيرة وما آل إليهِ وضعهم الحالي مثلاً...
اخيراً لا شكّ أن الثقافة العربية باجمعها ذات وبنت منبع واحد, إلاّ أن هناك ثقافات تأخذ منحى مغاير باندماجها بثقافات أُخرى, وبعض الثقافات تتطوّر قليلاً, كثقافة أهل النقب التي تطوّرت بعض الشيء عن اصلها, واعني بالتطوّر الابتعاد عن المنبع في العادات مثلاً, كقضية نوعية طرح السلام والتحيّة وكيفيّة اداءها تختلف في النقب عما هي هناك في الحجاز ونجد بدرجة معيّنة, كذلك الاختلاف عمّا هو حاصل الآن هناك من التقسيمات القبليّة الكلاسيكيّة عدناني وقحطاني وقضية الانساب, تلك التي اختفت من قواميس بدو النقب...