بقلم : د.فيصل القاسم ... 13.02.2011
يا الله! يا الله! يا الله! لقد أصبح لنا قيمة عظيمة. سجـل أنا عربي! سجـل أنا عربي ورقم بطاقتي ثلاثمائة مليون وأكثر!
بالأمس القريب كنت أصرخ من على منبر برنامج “الاتجاه المعاكس” مستنكراً هوان الشعب العربي واستكانته أمام براثن الطغاة ومخالب كلاب صيدهم القذرة المتمثلة بأجهزة الأمن الحقيرة. بالأمس القريب كان بعض ضيوفي يصفون العرب بـ”القطعان المسيّرة”، لا بل إن أحد أولئك الضيوف اعتذر في حلقة قدمتها قبل أيام من اندلاع الثورة التونسية المباركة من “القطعان” لتشبيهه إياها بالشعب العربي، لأنها أكثر بسالة وكرامة من الجماهير العربية الخاملة.
بالأمس القريب كان البعض يتبرأ من العروبة ومن كل من قال:”أنا عربي” بعد أن انخفضت أسهم الإنسان العربي في بورصة الاحترام والتقدير الدولي إلى الحضيض. ولا نلومهم، فقد أوشكنا أن نكون مهزلة الأمم وأضحوكتها لقبولنا بالذل والخضوع والاستسلام. لقد ثار القيرجستانيون في آسيا الوسطى، والكينيون وغيرهم في إفريقيا، ولم يبق إلا نحن العرب نرزح تحت نير الطغيان والديكتاتورية والاستبداد الساحق الماحق.
لكن تحريضنا الإيجابي جداً في “الاتجاه المعاكس” لم يذهب أدراج الرياح، وبدل أن يثبط همم الشعب العربي وعزائمه كان، في واقع الأمر، والله على قولي شهيد، مهمازاً يستحثه على النهوض وتكسير القيود وزلزلة الأرض تحت أقدام جلاديه، ومشعلاً ينير دربه باتجاه أبواب الثورة والحرية والتحرر، خاصة أننا كنا أول من جرّد الطواغيت من قدسيتهم المزعومة وهيبتهم الزائفة، ومسحنا الأرض بكرامتهم على الهواء مباشرة.
ها هو الشعب التونسي والشعب المصري العظيمان وقد تخلصا من اثنين من أعتى الطغاة الذين عرفهم القرن العشرون. وها هي بقية الشعوب العربية تجعل طغاتها لا ينامون الليل وهم يفكرون بمصيرهم الأسود ومصير طغيهم الذي حول البلاد إلى عزبة خاصة تتقاسم خيراتها كما لو كانت إرث أبيهم، وذلك بعد أن استمر الكثير منهم إذلال شعوبهم وتجويعها ونهب ثرواتها ورهنها للأمريكان وغيرهم من الطامعين والمستعمرين الجدد.
ها هي الشعوب تتململ ثائرة. والأيام القادمة حبلى بالمفاجئات والتحولات مهما تغولت أجهزة الإرهاب التي يسمونها عندنا زوراً وبهتاناً “أجهزة أمن”. فقد شاهدنا كيف هربت قوات الأمن المركزي المصرية التي يزيد عددها على مليوني مرتزق كالجرذان المذعورة أمام الزحف الشعبي المبارك في ميدان التحرير وغيره من الساحات والميادين المصرية المباركة. وقد شاهدنا كيف أمر وزير الداخلية المصري المجرم المتهم بتفجير الكنائس كلابه كي يختبئوا في بيوتهم هرباً من غضبة الجماهير المصرية الباسلة.
لقد غدا “ميدان التحرير” المصري ميدان تحرير فعلاًـ تحرير من أولئك الذين سحقونا وداسونا باسم الشرعية الثورية، وصدعوا رؤوسنا بالحديث عن تحرير الشعوب من الاستعمار الغربي. لكنهم أثبتوا أنهم أحقر من الاستعمار الأجنبي بعشرات المرات. وكم كان أحد الساخرين المصريين مصيباً عندما قال:” لقد أهلكنا مبارك وهو يتبجح بأنه كان صاحب الضربة الجوية الأولى ضد إسرائيل. ليته وجه الضربة الجوية الأولى للشعب المصري، ثم حكم إسرائيل لثلاثين عاماً”. كم حكم هؤلاء السماسرة باسم الثورة والبطولة! وهم ليسوا أكثر من جلادين ولصوص وقتلة محترفين! يا الله ما أرحم الاستعمار الفرنسي والإيطالي والانجليزي مقارنة بمن حلوا محله من الجنرالات العرب الأوباش.
لكن الزمن الأول تحول. لن يرضى الشعب العربي من الآن فصاعداً بحكم الشرعيات الثورية والحربية والقومية السافلة التي لم نر منها غير البؤس والتخلف والهمجية. ها هي الشعوب العربية وقد غدت شعباً واحداً حقاً، فالذين رفعوا راية الوحدة والقومية العربية أثبتوا أنهم ألد أعداء الوحدة والعروبة، فكيف يتشدقون بالعروبة والقومية وهم حكام عصابات ومافيات وعائلات لا تهتم بأبناء بلدها، فما بالك أن تهتم ببقية الشعوب العربية؟
يا الله! ها هي نسائم الوحدة العربية الحقيقية تعود إلى الشارع العربي بعد ثورتي تونس ومصر الطيبتين بزخم عظيم بعد أن تاجر بها “القوميون” الساقطون لعقود. لقد فرح العرب من المحيط إلى الخليج بسقوط الطاغية شين الهاربين بن علي في تونس مثل الشعب التونسي وأكثر. وها هي الجماهير العربية قاطبة تملأ الشوارع ابتهاجاً بخلع الفرعون السافل عن عرش مصر. فمن شدة الفرحة بهروب ديكتاتور تونس ما كان مني أنا السوري إلا أن أضرب باب الغرفة بقدمي بفرحة جنونية، مما جعلني أتألم لأيام من شدة الوجع في قدمي اليمنى. وبما أن نيتي كانت مصروفة على الخير كما يقول أهلنا الطيبون، فقد تماثلت قدمي للشفاء بسرعة. وعندما سمعت المأفون عمر سليمان يعلن رحيل رفيق دربه في الإجرام واللصوصية حسني مبارك قررت ألا أكرر الاحتفال على الطريقة المؤلمة، لكنني لم أستطع تمالك نفسي، فذرفت دموعاً غزيرة جداً فرحاً بكنس اللاحسني واللامبارك إلى مزبلة من المزابل الكثيرة التي تنتظر بقية الطغاة العرب.
لقد تمسمرت الشعوب العربية من نواكشوط إلى بغداد على مدى الأسابيع القليلة الماضية أمام شاشة الجزيرة العظيمة وهي تعيش لحظات الثورتين التونسية والمصرية باهتمام ومشاعر فياضة مشتركة عز نظيرها في أي مكان من العالم. لم أتصل بصديق في أي بلد عربي إلا وكان يقول لي إننا متمسمرون أمام الشاشة نتابع فصول الملحمتين التونسية والمصرية بشغف منقطع النظير، كما لو كانت ثورتيهما الخاصتين. ولعل أكثر ما يؤكد تلك الحقيقة تضامن الشعب الخليجي الميسور والمرتاح نسبياً عن بكرة أبيه مع ثورتي تونس ومصر. وكم تبادل الخليجيون ألوف الرسائل الإلكترونية والنصية فيما بينهم للتهنئة والمباركة بنجاح المصريين والتونسيين في انتفاضتيهما التاريخيتين. وكذلك فعل الليبيون واليمنيون والسودانيون والسوريون والأردنيون وغيرهم. كل الأخوة العرب الذين اتصلوا بي للتهنئة بعد سقوط مبارك كانوا يبكون فرحاً. ألم تروا كيف تدفقت الشعوب العربية أمام السفارتين التونسية والمصرية للمباركة والاحتفال مع التوانسة والمصريين في معظم البلدان العربية؟
صحيح إن الشعوب العربية خارج تونس ومصر ربما فرحت للشعبين التونسي والمصري بالتخلص من جلاديهما على أمل أن تتخلص هي نفسها من جلاديها قريباً، لكنني على يقين أن الثورتين التونسية والمصرية أظهرتا كم نحن شعب عربي واحد على قلب رجل واحد فعلاً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
كم تذكرت في الأيام العربية الأخيرة المباركة الأبيات العروبية الجميلة:” كلما أنّ في العراق جريح...لمس الشرق جرحه في عُمانه”...”.بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدانِ... ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوانِ”.
سجـل أنا عربي، ليس فقط افتخاراً بالهوية القديمة التي أعاد الروح إليها الشعبان التونسي والمصري، بل لأننا بدأنا نلحق بركب الشعوب التي تحترم نفسها، ويحترمها العالم من حولها!