بقلم : سهيل كيوان ... 24.02.2011
عندما انتفضت تونس تمنى ملايين العرب للثورة أن تنتصر، وعندما هرب بن علي وانتصرت الثورة قال عشرات الملايين.. ليتها تنتقل إلى مصر، وعندما انتقلت إلى مصر لهجت ملايين الألسن..الحمد لله أنني عشت ورأيت هذه الأيام، وعندما أعلن عن تنحي مبارك بعدما نشّف ريق ودمّ الأمّة قال كثيرون..بعد هذه اللحظة أستطيع أن أموت مستريحاً، وتحسر ملايين وقالوا...ليت آباءنا وإخواننا وشهداءنا عاشوا ليشاركونا هذه اللحظات التاريخية من الفرح الحقيقي النادر، وبين هذا السيل العرم من التهاني والتمنيات كان هناك...من قال..ليتني مِت قبل أن أرى هذا وكنت نسيا منسياً، إنهم أولئك الذين اعتبروا الشعوب دجاجاً بعضه يبيض ذهباً وبعضه للذبح.
وهناك طماعون وهم بعشرات الملايين يقولون..يا رب أعيش بضع سنوات أخرى لأرى كل هذه الأنظمة وقد لحقت ببن علي ومبارك ونشأت على أنقاضها فضاءات الحرية والعدالة والفرح، إلا أن هناك ملايين من الغلاظ الأشداء المتعجلين من أمرهم ويريدون إنهاء هذه التحولات كلها قبل حلول الشهر الفضيل كي يكون العيد بعشرين عيداً،هؤلاء المتعجلون يتمنون أن يتجمّع كل الرؤساء والملوك والقادة العرب في قمة بغداد القادمة وبدون تأجيل عسى ولعل أن تصلهم (هدية) ملائكية من السماء أو من تحت المصطبة فتتخلص الأمة منهم دفعة واحدة وترتاح!
فكرت باحتمال رحيلهم دفعة واحدة وما هي إسقاطات حدث كهذا علينا وعلى العالم.
من المؤكد أن شعوبنا ستتعاطف معهم وستقام لهم جنازات عسكرية مهيبة يحضرها زعماء من مختلف أصقاع الأرض وسوف يستغرق الأمر عدة أيام لأنه لا يمكن دفنهم في قبر جماعي أو في يوم واحد ثم أنه قبل الدفن يجب التعرف عليهم واحداً واحداً كي لا تحصل التباسات فيدفن الجمهوري في ضريح ملكي أو العكس، ولا يمكن لرؤساء وملوك العالم أن يفضلوا زعيماً على آخر إلا بقدر انتاجه للبترول والغاز والفساد ولهذا قد يشارك بعضهم في جنازتين أو ثلاث في يوم واحد.سوف تعلن أربعون يوماً من الحداد وتنكس الأعلام في كل المنطقة العربية ولدى بعض الدول الإسلامية المتضامنة وسوف تبث آيات من الذكر الحكيم في معظم الفضائيات لعدة أيام أو أسابيع وسيظهر المذيعون والمذيعات بلباس أسود ويتفننون بطريقة التعبير عن الحزن والأسى وبأقل ما يمكن من المكياج وسوف يفقد بعضهم سيطرته على دموعه وقد تعلن الأمم المتحدة عن الأمة العربية أمة منكوبة يجب الوقوف إلى جانبها إذ أصبحت يتيمة بملايينها الـ 340 في ضربة واحدة.
سيتحدت كثير من المختصين والمقربين عن حسنات وإنجازات الراحلين العظماء 'من باب' اذكروا حسنات موتاكم'! وسيتضح أن الأمة كانت بألف نعمة وخير ولكنها جاحدة أعماها البَطر ولم يكن غضبها وانتفاضها في الأسابيع الأخيرة سوى ملل وتقليد أعمى لشعوب أخرى وخدمة لأجندة خارجية وحبوب هلوسة.
سنعرف أن معظمهم زاهد في الدنيا ولم يكن ينظر إلى المال إلا كوسيلة تعامل وقد نكتشف أن واحداً أو أكثر منهم كان يقرف من النقود ولم يلمسها بيده ويحرّم جمع المال والذهب 'ويلٌ لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدّده'! وأن جل طمعهم هو الآخرة، ونعرف حتى قبل رحيلهم أن بعضهم يتلثم بالكوفيات ويتغلغل متنكراً بين صفوف الشعب ليعرف معاناة الناس إذا كانت موجودة أصلاً! ثم يمد يد العون من خلال سن قوانين منحازة للفئات المسحوقة.
سنكتشف مواقف قومية عظيمة وحتى بطولية كانوا يمارسونها خفية كي لا يذهب التباهي بأجرها العظيم وسنفاجأ بزهد بعضهم بالسلطة والسلطان وأنهم بالفعل كانوا يعتبرونها مغرماً لا مغنماً وأنهم في مرات عدة استقالوا من مسؤولياتهم ولكن في كل مرة كان هناك من يعيدهم إلى السلطة رغماً عنهم كي لا تضيع البلاد والعباد!
وبالمناسبة أذكر أن العقيد القذافي أعلن استقالته لسبب لا أذكره في مطلع السبعينيات من القرن الماضي وكنا وقتها مراهقين في الحب والسياسة فصرنا نبكي على من ظنناه مخلّص الأمة وما لبث في تلك الليلة الخضراء أن استجاب لرغبة الجماهير التي تظاهرت مطالبة بعودته، تصوّروا أننا بكينا ثم تعانقنا فرحاً بعودته....(نرجو المغفرة من اخوتنا الليبيين)....
بعد رحيل هذه الثلة الفريدة في التاريخ البشري سنعرف أن معظمهم كان عفوّاً متسامحاً مع خصومه السياسيين بل وحتى مع أولئك الذين حاولوا عليهم انقلاباً، فقد كانت صدروهم رحبة تتسع لحاملة انقلابات واسطول مؤامرات، وسوف نسمع أن منهم من نصح ياسر عرفات بأن لا يأمن جانب الإسرائيليين ومنهم من كان ينوي التنازل عن السلطة فقط لو أمهلوه ومنهم من نصح بن علي ومبارك بالتنازل حتى قبل الثورة العربية بسنوات وأن بعضهم سجل بطولات لا تعلمها الجماهير وتحدى دولاً نووية ورؤساء أمريكيين في حقبة الحرب الباردة قبل قبل قبل قبل قبل الرئيس الحالي وأن آخر تمرد على تدخل (السي آي إيه) في شؤون بلده وآخر هدد بتعطيل عجلات أوروبا إذا ما أقدمت إسرائيل على احتلال أي عاصمة عربية ثانية بعد بيروت وكثير منهم نجا من محاولات الموساد للتخلص منه وسنعلم أن منهم من كان طيباً جدا لدرجة الهبل وهكذا لوجه الله وبدون أي تفسير لهبله!
ستعرف الأمة أن أموال البترول والغاز والثروات الطبيعية الأخرى لم تذهب هباء بل كانت بأيد أمينة ونظيفة وأن التصنيع والمشاريع العملاقة كانت قد أقيمت بالفعل ولكن الإعلام مقصر بإظهارها وأن معدلات النمو سجلت أرقاماً قياسية وأن البطالة ليست سوء إدارة بل هي ظاهرة طبيعية في بلدان تدخن الأرجيلة حتى مطلع الفجر.
هناك مشاريع عملاقة أنجزت وأخرى في المراحل النهائية وأكثر منها قيد التخطيط ولكن القدر لم يشأ لهم إتمام المهمة! وأهم من كل هذا أننا سوف نفاجأ بأن الأرض العربية المحتلة كانت قاب قوس وأدنى من التحرير فقط لو أن الله مدّ بأعمارهم لبضعة أشهر.
طبعا سوف تنشأ خلافات على وراثة الحكام الراحلين وربما صراعات دموية وسوف نرى دساتير تعاد صياغتها لملاءمة مواصفات الضابط الذي سيتولى الحكم أو الشيخ الذي تقترحه أجهزة المخابرات الأمريكية بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي والموساد وسوف نسمع عن خيانات وغدر وانقلابات على أولياء العهد وسوف تترحم الشعوب والأمم وتبكي على أيام الرفاه والاستقرار.
إذا وكي لا نسمع ونرى كل هذه المصائب ندعو من صميم قلوبنا للحكام العرب حياة مديدة وأن يحضر من (يتبقى) منهم حتى موعد القمة في بغداد (التي قد تكون الأخيرة لكثيرين منهم)، رغم تـأكدي أن معظمهم سوف يعتذر أو يرسل ممثلا عنه خشية انزلاقات داخلية أو خشية وقوع هذا الذي نتحدث عنه، فليمدّ الله بأعمارهم حتى تطيح بهم شعوبهم على أقل من مهلها واحداً واحداً وبالدور يا حبيبي بالدور وليس دفعة واحدة كي لا ندوخ ونحن نتنقل بين الفضائيات في الليل والنهار علّ إحداها تبشرنا بخبر عاجل عن هارب جديد.