بقلم : رشاد أبوشاور ... 13.6.07
كأن من نظّروا لهزيمة حزيران (يونيو) 67، تناسلوا في صحافيين، وكتّاب، أكثر سطحيّةً، يكرّرون ما نفثه أسلافهم، والفرق أن هؤلاء يبثون مقالاتهم في مواقع إلكترونية، وفضائيات، ترويجاًً لثقافة الهزيمة والاستسلام.
بعد أن تبددت سحب الدخان عن ما جري في الحرب، وقبل أن يستيقظ ملايين العرب علي هول الهزيمة، توجّه القائد جمال عبد الناصر إلي الأمّة بخطاب أعلن فيه تنحيه عن كل سلطاته، وتحمّله المسؤولية عمّا جري، وعودته إلي صفوف الشعب كمواطن عادي.
أبناء جيلي مّمن سمعوا الخطاب، وفي لحظات اليأس والقنوط والخيبة رفضوا تنحّي القائد وترك الميدان، لأن ذلك يعني أن الهزيمة تكرّست وإلي زمن لا نعرفه، فما حدث يمكن تجاوزه بتطهير الصفوف، وإعادة البناء، وأخذ العبر.
ملايين الشعب المصري اندفعت إلي الشوارع وحاصرت مبني الإذاعة والتلفزيون في القاهرة، وزحفت إلي بيت (القائد) طالبة منه أن يبقي في موقعه، وأن يواصل المعركة.
استجاب القائد للشعب العربي في مصر، وفي كل بلاد العرب مشرقاً ومغرباً، وأخذ يطهّر صفوف الجيش، ويعيد بناءه ـ ضخّ فيه 34 ألف خريج جامعي ، كلّفهم بمحو أميّة المقاتلين البسطاء ليتمكنوا من استيعاب السلاح المتطوّر، ولتنوير عقولهم بالعلم ـ ووضع (الرجل) المناسب في المكان المناسب، فسمع العرب بالفريق محمّد فوزي ، والفريق ـ الشهيد في الميدان ـ عبد المنعم رياض، وانتهي زمن الهيمنة علي الجيش، زمن عبد الحكيم عامر الذي وصفه الأستاذ هيكل بأن قدراته لا تتيح له قيادة أكثر من لواء من ألوية الجيش. أمّا لماذا بقي حتي صار برتبة ( مشير) وتحكّم بالقوّات المسلّحة، فهذه واحدة من الأخطاء التي كلفت ثمناً فادحاً.
اللواء المتقاعد عبد المنعم خليل، قائد قوّات المظلاّت عام 67 و73، في لقاء معه أجراه حسين عبد الغني في القاهرة، بثّته (الجزيرة) يوم 7 حزيران (يونيو) الجاري، قال: قبل حرب حزيران لم نكن نري الرئيس جمال عبد الناصر، ولكن بعد حزيران (يونيو) صرنا نراه في كل المواقع، يتابع ويطمئن علي كل الاستعدادات، وهذا طبيعي فهو القائد العام...
قبل حزيران (يونيو) لم يكن عبد الناصر يقدر علي نقل ضابط من موقع إلي موقع آخر!
بدأ الاختلاف في رؤية قادة ثورة يوليو 23 من وعي الدور، فناصر تطوّر وعيه، وقرن بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي، وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة بقوا علي حالهم: وطنيون جلسوا علي سدّة الحكم الملكي الذي أسقطته ثورة 23 تمّوز 52...
كانت (الناصريّة) منتشرة في الأوساط الشعبيّة في الوطن العرب، رمزها جمال عبد الناصر، وداخل مصر لم تكن (الناصرية) القائدة فكريّاً وعمليّاً لأجهزة الدولة، ولا سيّما الجيش والقوّات المسلحّة والأجهزة الأمنيّة، وعندما تنبّه ناصر للأمر بدأ في بناء التنظيم الطليعي (سرّاً).. فتأملوا!
في أيّام قليلة بعد (الهزيمة) ـ حتّي لا يزعل منظّروها ـ بدأ جيش مصر يستعيد روحه، والوقائع كثيرة، وكما قال اللواء عبد المنعم خليل، فإن معركة (رأس العش) التي وقعت يوم 1 تمّوز (يوليو) 67 وانتصرت فيها وحدات من الجيش المصري علي جيش الاحتلال (المغرور) بنصره السريع، كانت المقدمة والبشارة بالتحوّل...
ثمّ توالت المعارك، فقد أغرقت البارجة إيلات، وبدأت حرب الاستنزاف، وتمّ إنشاء حائط الصواريخ، وبدأت الصواريخ المصريّة تسقط الطائرات (الإسرائيليّة)، بالتزامن مع إعادة البناء علي كل الصعد السياسيّة والاقتصاديّة، بما في ذلك العناية بالثقافة : بالمسرح، والترجمة، والنشر، والغناء، والرياضة.. الماكنة تدور، ولا شيء يتوقّف في كل جوانب الحياة.
رفع ناصر شعار: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والمعركة هي حشد كل طاقات المجتمع لاستعادة ما أخذ بالقوّة .. بالقوّة، ومحو آثار حزيران علي الأرض، وفي النفوس، ومن العقول.
في شاهد علي العصر، مع الأستاذ حسين الشافعي أحد ابرز قادة ثورة يوليو، وصف ما جري لناصر بسبب (هزيمة) حزيران: عبد الناصر مات في حزيران (يونيو) 67، ولكنه تشبّث بالحياة حتي أعاد البناء، واطمأن علينا و.. رحل يوم 28 أيلول (سبتمبر) 70.
مباشرة بعد حزيران (يونيو) أشهر كل المرضي أقلامهم: الإقليميون والطائفيون الحاقدون علي دعوة عبد الناصر للوحدة العربيّة، عملاء النفط (الأنيقون) المتفرنسون في بيروت، اليساريون الطفوليون الذين انشغلوا بالتنظير لسقوط البرجوازية المتوسطة والصغيرة.. أهي صدفة أنهم انتهوا ليبراليين ديمقراطيين مهادنين للاحتلال الأمريكي للعراق، ومع (أوسلو).. منظرين تبريريين للتسوية مع الكيان الصهيوني؟!
آنذاك كنّا في بداية الشباب. بعضنا كان ينتمي لتنظيمات سريّة. اندفعنا إلي المقاومة، إلي قواعد الفدائيين، فكتبنا قصصنا، وقصائدنا، وريبورتاجاتنا الصحافيّة.. في الميدان. برز من بين صفوفنا قادة عسكريون تخرّجوا من (فيتنام) و(الصين)...
في الأغوار الأردنيّة رأينا كيف صمد الفدائي شبه الأعزل ـ لم تكن بحوزته صواريخ، ودوشكات ـ مع الجندي الأردني فأنجزا معا معركة (الكرامة) التي احترقت فيها دبابات (دايان) الذي هرب من الميدان خزياناً أمام نيران بنادق ومدفعية عربيّة لم يتوقعها، هو المغتّر بما جري في حزيران (يونيو).
لا لسنا كعرب عاجزين ومهزومين لقصور عقلي، أو نفسي، أو جيني. الخلل فينا سياسي، الخلل في الإرادة، في تهيئة المجتمع للمعركة، في استبعاد الناس عن قضيتهم، في تحوّل الدولة العربيّة المعاصرة إلي سجن، وفساد، وإعاقة للطاقات.
عبد الناصر الذي هزم في حزيران (يونيو) أعّد جيشاً هو الذي عبر في 6 تشرين 1973. (المهزوم) رفض الهزيمة، والتفاوض، والتنازل، والقبول باستعادة الأراضي المصريّة كاملة، سيناء كاملة مقابل (صفقة) يتخلّي فيها عن سوريّة والفلسطينيين والأردن، انطلاقاً من عروبته، ومن دور مصر القيادي.
السادات (المنتصر) بجيش بناه عبد الناصر وجنرالات إعادة البناء وحرب الاستنزاف، استسلم في كامب ديفيد، فأخرج مصر من المعركة، ومن دورها القيادي، ولم يستعد سيناء حرّةً، فهي محتلّة بالقواعد الأمريكيّة، وفتح أبواب مصر كلّها لأمريكا، وجعلها منهبة للفاسدين الانفتاحيين... وكسر ظهر العرب، ومن عنده بدأت كارثة العرب وهزيمتهم، وتوالت من بعد اتفاقات الهزائم التي كرّست كل الأمراض التي تعاني منها مصر وبلاد العرب!
في برنامج (قلم رصاص) يوم الجمعة 8 حزيران (يونيو)، الإعلامي المخضرم حمدي قنديل، قدّم مونولوجاً مسرحيّاً باهراً من ذاكرة الشاهد الذي شاف كل حاجة، الذي رأي بأم عينه الطائرات تحترق علي الأرض، والطيّارين وهم يمزّقون شعرهم ويلطمون وهم يرون طائراتهم تحترق.
استعاد حمدي قنديل وقائع يوم تنحّي ناصر، وبحر الجماهير الذي إعاده، و.. كيف دخل رئيس التلفزيون عليه هو وزميلته همّت مصطفي، صارخاً بهما، وقد أعلنا رفض تنحّي الرئيس: انتو مفكرينها تمثيليّة ـ يقصد استقالة الرئيس ـ بلاش لعب عيال.. غيّروا البرامج.. فما كان من موظف صغير إلاّ وصرخ في رئيس التلفزيون: إن ما طلعتش من قدّامي حاكسر إيدك التانية (كانت يد المدير مكسورة بحادث ما)!
تلكم هي روح الشعب المصري بخّاصة، والعربي بعّامة، في أشّد اللحظات قتامة ومهانة وانكساراً.. وهي روح مقاومة، روح ماقبل كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة.. وصفقة اليمامة و.. أخواتها المخفيّات !
وعلي ذكر صفقة اليمامة: أنتم سمعتم بمليارات الرشاوي لصفقة طائرات لم تطلق رصاصةً، فما بالك بصاروخ علي عدو من أعداء الأمّة، وكل (مجدها) أنها أطلقت صواريخها علي العراق العربي، تحت قيادة شوارسكوف!
الفساد المستشري في حياة الأمّة، الخراب، الهزيمة.. من سبب كل هذا؟!
الهزيمة هي: الفساد الذي يفتك بمصر وغيرها من (دول) العرب، هي (اليمامة) وأخواتها، هي تبديد ثروة النفط بالمليارات علي الملاّذ واللهو وإعلام العكرتة، هي فتاوي الرضاعة، وتحريم تقشير المرأة للموز إلاّ مع (محرم)! هي حرمان المرأة من قيادة السيارة، هي العشائرية و(الوراثة)، هي التآمر علي (المقاومة) في فلسطين، ولبنان، والعراق، هي الثقافة التافهة!
لمنظري الهزيمة نقول: نعتز بقائد المقاومة الشريف الطاهر جمال عبد الناصر قائد الملايين، وسنبقي نلاحق لصوص (الملايين)، ومنظري سياساتهم الفاسدين.