أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
التسلح العربي يفتقد التصنيع والتنويع!!

بقلم : نقولا ناصر* ... 16.08.2010

(القيمة المالية التي دفعها العرب للتسلح من الولايات المتحدة حتى الآن، دون أي جدوى دفاعية ملموسة، تكفي لإطلاق صناعة دفاعية عربية مستقلة)
بقلم عشرات المليارات من الدولارات يتم إنفاقها على التسلح العربي، دون أن تغير الأسلحة المشتراة في موازين القوى لا مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ولا مع غيرها من القوى الإقليمية التي يسعى بعض العرب أو يتم دفعهم إلى التوازن معها، مثل إيران، ليظل الدفاع العربي مرتهنا لمشتريات السلاح الأميركي والغربي المشروطة سياسيا، دون أي توجه حقيقي نحو التصنيع توجها يحرر القرار الدفاعي العربي من أي نفوذ أجنبي يساوم على سيادته الوطنية، أو في الأقل نحو تنويع مصادر التسلح تنويعا يحرر هذه المشتريات من الشروط السياسية المرتبطة بها.
لكن تدمير المحاولة العراقية الجادة للتصنيع والتنويع معا بالغزو العسكري ثم الاحتلال، وتدمير محاولة ليبية مماثلة بالحصار والعقوبات، والنتيجة واحدة - - ثم التلويح بالحرب على إيران حاليا للهدف نفسه - - إنما يستهدف أن يكون مصير هذه المحاولات عبرة لردع أي دولة عربية عن تكرار المحاولة، ليظل الانفاق على التسلح العربي من الولايات المتحدة عمليا هدرا للمال لا يعزز دفاعا في مواجهة عدو حقيقي، ولا يخوض قتالا ضده، ولا يغير في موازين القوى معه، ولا يدعم استقلال القرار العربي الدفاعي.
ومثال التسليح الأميركي للجيش اللبناني هو المثال الأحدث الذي سلط الأضواء مؤخرا على عقم سياسات التسلح العربي الراهنة وعلى الانتقادات الوطنية لها. فمنذ توقف القتال في الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان عام 2006 دون أن يحقق أهداف الحرب، بادرت الولايات المتحدة الأميركية بعد إنسحاب القوات العربية السورية إلى تسليح الجيش اللبناني بما يزيد على (700) مليون دولار منها (400) مليون دولار خلال العام الماضي، بحجة تعزيز استقلال لبنان، أولا في مواجهة سوريا، وثانيا في مواجهة المقاومة اللبنانية في الداخل، وثالثا لتكون مهمة الجيش اللبناني جزءا لا يتجزأ من مهمة قوات "اليونيفيل" الدولية في حماية العدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان ضد أي ردع له.
وعندما اندلعت معركة الشجرة في العديسة في الثالث من الشهر الجاري، وتأكد فيها أن الجيش اللبناني يتسلح لأهداف وطنية خالصة لا علاقة لها بالأهداف الأميركية لتسليحه، جمدت واشنطن تمويل تسليحه، لأن "الكونغرس ينبغي أن يطالب بادلة بأن القوات المسلحة اللبنانية هي جزء من الحل" الأميركي – الإسرائيلي للصراع العربي – الإسرائيلي "وليس جزءا من المشكلة" مثل المقاومة الوطنية التي يقودها حزب الله أو مثل سوريا التي تدعم هذه المقاومة أو مثل إيران التي تساند كليهما.
وقد كان الرئيس اللبناني ميشيل سليمان حاسما عندما رد على تجميد التمويل الأميركي لتسليح الجيش باقتراح الذهاب إلى الدول "المجاورة والصديقة" كبديل، مما يؤكد مجددا على أهمية تنويع مصادر التسلح العربي إن تعذر هذا التسلح بالتصنيع الوطني للسلاح، ومما يذكر بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر عندما عقد صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية في خمسينيات القرن العشرين المنصرم ردا على موقف أميركي وغربي مماثل فتحول بين ليلة وضحاها من مجرد رئيس دولة إلى زعيم شعبي ثم إلى قائد عربي قومي، لأن تحرير التسلح العربي من الشروط السياسية الأجنبية وتنويع مصادر التسلح إن تعذر تصنيع السلاح وطنيا كان منذ ذلك الحين مطلبا عربيا شعبيا ووطنيا وقوميا منطقيا، وما يزال.
إن من يتابع القليل جدا الذي نادرا ما يتسرب إلى وسائل الإعلام عن تفاصيل "عملية" بيع الأسلحة الأميركية إلى الدول العربية "الصديقة" للولايات المتحدة يلاحظ بسهولة مدى تعقيد إبرام صفقاتها، وهو تعقيد غالبا ما تفسره الإدارات الحاكمة في واشنطن بتعقيد عملية صنع القرار الأميركي وبخاصة في مجال مبيعات السلاح الأميركي الخارجية، متجاهلة أن المشترين العرب والرأي العام في بلادهم يقارنون بين هذا التعقيد المزعوم وبين مدى سلاسة صنع القرار الأميركي وسهولته وسرعته عندما يتعلق الأمر بمبيعات السلاح الأميركي إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، بالرغم من حقيقة أن السوق الخارجية الرئيسية للأسلحة الأميركية هي السوق العربية، ومن حقيقة أن المشتري العربي يشتري بالسعر الأعلى ويدفع نقدا بينما المشتري الإسرائيلي "يأخذ" معظم سلاحه الأميركي كمعونات عسكرية أو يشتريها بأرخص الأسعار ب"أموال أميركية" يحصل عليها إما كمنح أو كضمانات قروض أو بغير ذلك من أشكال الدعم المالي الأميركي.
فعلى سبيل المثال، تجري حاليا معركة سياسية ضارية في الكونغرس والإدارية الأميركية لإبرام ما تصفه وسائل الإعلام الأميركية بأنه "أكبر صفقة لبيع أسلحة أميركية خارجية" إلى المملكة العربية السعودية، والوصف نفسه كان قد أطلق على صفقة مماثلة للمملكة عام 1992 وقبلها على صفقة طائرات "اواكس" في ثمانينيات القرن الماضي. ومن يقارن بين "تعقيدات" بيع الأواكس للمملكة قبل أربعة وعشرين سنة وبين تعقيدات الصفقة الحالية لا يجد الكثير من الاختلاف لا في سلوك البائع الأميركي ولا في سلوك المشتري العربي ولا في المماطلة الأميركية ولا في "الحيثيات" الإسرائيلية لعملية البيع ولا في الرضوخ الأميركي للشروط الإسرائلية لإتمام عملية البيع. فقد طلبت الرياض شراء الأواكس مع اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية وبسببها، وعرضت الإدارة الأميركية اقتراح بيعها على الكونغرس بعد أكثر من عام، وحصلت الرياض عليها على دفعات بين حزيران / يونيو عام 1986 وأيلول / سبتمبر عام 1987، قبل سنة من وقف إطلاق النار في الحرب، أي بعد أن كاد ينتفي الغرض المعلن من شرائها أصلا. وكانت المعارضة الإسرائيلية لبيعها هي السبب الرئيسي في المماطلة الأميركية ببيعها بعد التوصل إلى اتفاق أميركي – إسرائيلي على بيعها بمواصفات وتجهيزات "تطمئن" دولة الاحتلال بأن وجودها في أيد عربية لا "يهدد أمن إسرائيل" بالرغم من الطبيعة الدفاعية لهذه الطائرات.
واليوم يكرر التاريخ نفسه في "أكبر صفقة لبيع أسلحة أميركية خارجية" للعربية السعودية. فقد حرصت واشنطن على "طمأنة" تل أبيب بأن الصفقة الجديدة لا تهدد أمن دولة الاحتلال بثلاثة طرق رئيسية، الأولى أوضحتها الوول ستريت جورنال في الثامن من الشهر الجاري: فواشنطن قدمت لتل ابيب "توضيحات" عن الصفقة لأن "المشاركة في المعلومات مع إسرائيل هي جزء من التزام الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ مدة طويلة بالحفاظ على تفوقها العسكري في المنطقة"، أي أن تفاصيل التسليح الأميركي للعرب يتبرع بها البائع الأميركي إلى عدوهم الرئيسي قبل تسليم السلاح لهم بينما هذه التفاصيل تعتبر من الأسرار العسكرية والوطنية لأية دولة.
والصحيفة نفسها أوضحت الطريقة الثانية التي "طمأنت" واشنطن تل أبيب بواسطتها: ف"في تنازل لإسرائيل" لكي توافق على صفقة طائرات أف – 15 التي تصنعها شركة بوينغ الأميركية للسعودية "لن يتم تجهيزها بأحدث أنظمة التسلح والطيران" المتاحة لسلاحي الطيران الأميركي والإسرائيلي، أي أن التسليح الأميركي للعرب مشروط بالموافقة الإسرائيلية عليه كما ونوعا.
أما الطريقة الأميركية الثالثة ل"طمأنة" إسرائيل والحصول على موافقتها على صفقة أميركية مع طرف ثالث في المنطقة فهي الرضوخ للابتزاز الإسرائيلي بتعويض دولة الاحتلال بسلاح جديد مقابل ما سيحصل عليه العرب يحافظ على تفوقها النوعي عليهم مجتمعين، وهكذا وافقت إدارة باراك أوباما على تزويد إسرائيل بأحدث طائرات "الشبح" الحربية إف – 35 وهي الأحدث في الترسانة الأميركية، لا بل منحت الصناعات العسكرية الإسرائيلية عقودا بأربع مليارات دولار لتزويد هذه الطائرة بقطع غيار، ليكون التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي الجديد "بعبعا" لدفع العرب إلى شراء المزيد من السلاح الأميركي، في سباق عربي "وهمي" للتسلح مع دولة الاحتلال المستفيد الوحيد منه هو تاجر السلاح الأميركي الدولي و"بعبعه" الإقليمي الإسرائيلي.
وتطور الصناعة الدفاعية المستقلة في إيران يمثل منافسا للصناعات العسكرية الإسرائيلية أكثر مما يمثل تهديدا لأمنها، وتستخدم واشنطن هذا التطور الإيراني النوعي ك"بعبع شرقي" لابتزاز المزيد من المشتريات العربية للسلاح الأميركي،وتزج العرب في سباق عربي "وهمي" مماثل للتسلح مع إيران.
وفي سباقي التسلح شرقا أم غربا لم تنجح صفقات السلاح الأميركي للعرب في تعادل ميزان قواهم لا مع إيران ولا مع إسرائيل، ناهيك عن ترجيح كفتهم، لأن كلا من إيران وإسرائيل تصنع سلاحها بنفسها، بينما ما زال الأمن العربي وطنيا وقوميا يعتمد على التسلح الخارجي أو الحماية الأجنبية، ولأن التسليح الأميركي للعرب يستهدف استمرار هذا الوضع على حاله حتى ينضب النفط أو تغلق مصانح الحرب الأميركية أبوابها، وكلا الاحتمالين ليس متوقعا في أي مدى منظور.
وهكذا يستمر تدوير عائدات النفط العربية واستنزافها بعيدا عن التنمية، لكن على الأخص بعيدا عن أي محاولة عربية جادة لتصنيع السلاح وطنيا، بينما القيمة المالية التي دفعها العرب للتسلح من الولايات المتحدة حتى الآن، دون أي جدوى دفاعية ملموسة، تكفي لإطلاق صناعة دفاعية عربية مستقلة.
لكن واشنطن حريصة على عدم تطوير أي منافس إقليمي للصناعات العسكرية الإسرائيلية التي أصبحت مصدرا للدخل في دولة الاحتلال تعادل أهميته الاقتصادية ما للنفط من أهمية اقتصادية للعرب، مما يخفض كلفة الضمان الأميركي لأمن إسرائيل من ناحية، ومن الناحية الأخرى يبقي السوق العربية مفتوحة أمام تجارتها الحربية، وهي تجارة ذات أهمية استراتيجية للاقتصاد الأميركي، فعلى سبيل المثال كانت حصة الولايات المتحدة من مشتريات السلاح في المنطقة (56.1%) بين عامي 2001 و 2004 لترتفع هذه الحصة إلى (89%) بين عامي 2005 و 2008، و"الحبل على الجرار" كما يقول المثل العربي.