بقلم : ميسة أبو غزالة ... 05.09.2010
ما بين الحياة والصخب الذي كان يملأ أرجاءه في السابق، وما بين السلاسل الحديدية التي تكبل يديه بقرار من سلطات الاحتلال، يعيش بيت الشرق، الرمز السيادي الفلسطيني الأبرز في المدينة المقدسة، حالة من الاستكانة، والإحباط، واليأس .. حجارته المتيبسة جراء الوحدة تذرف الدمع على أيام خلت كان فيها فيصل الحسيني ورفاقه يرطبونها بيوميات لا تخلو من مناكفات مع سلطات الاحتلال، ولا تخلو من أحلام تتقلص شيئاً فشيئاً مع الوقت، منذ قرار الاحتلال الإسرائيلي بإغلاق البيت كالعديد من المؤسسات الثقافية.
بيت الشرق..بيت مبني على الطراز العربي الفلسطيني..شكله الخارجي لا يوحي بأنه أكثر من مجرد بيت، لكنه بطبيعة الحال ليس بيتاً عادياً .. كان بيت الشرق قبل سنوات إغلاقه كخلية نحل دائمة النشاط على كافة المستويات، وكان العاملون فيه يقدمون الخدمات لكل من يطأ عتبة البيت .. لم يكن مجرد مزار للهيئات المحلية، والدولية، بل كان، أيضاً بمثابة ملتقى للعائلات المقدسية والوفود الأجنبية..كان "بيت الشرق" مقر المؤسسات الوطنية، واللقاءات والاجتماعات الدولية، كما كان مقراً للحياة.
نواة بيت الشرق تشكلت عبر جمعية الدراسات العربية، التي تحتل مكانة متميزة في حياة المقدسيين، كعنوان سياسي، واحتجاجي على القهر الاحتلالي، إضافة إلى كونها عنواناً توثيقياً وتوعوياً، فكانت نواة تأسيس دوائر العمل الوطني في القدس، ومن بينها بيت الشرق، الذي اقترن اسمه بأمير القدس الراحل، فيصل الحسيني.
الجمعية أولاً
إسحق البديري، رئيس جمعية الدراسات العربية يتحدث عن عدة حقائق تتعلق بالجمعية وبيت الشرق، ويقول: الجمعية التي أسسها المرحوم فيصل الحسيني مع عدد من الشخصيات الفلسطينية في العام 1980 أنشئت بهدف إجراء دراسات وأبحاث تتعلق بفلسطين والعالم العربي والشرق الأوسط، من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإحصائية والسياسية، إضافة إلى تنشيط البحث العلمي الذي كان مفقوداً من الأراضي الفلسطينية، وفي الجمعية أنشئت أول مكتبة متخصصة في فلسطين احتوت على خمسين كتاباً كهدية من إحدى الشخصيات المقدسية، تلاها إنشاء قسم للوثائق الفلسطينية النادرة منذ فترة العهد العثماني وحتى الاحتلال الإسرائيلي، كما أنشئ أرشيف للمعلومات الصحافية، وقسم للصور، وقسم عن الشخصيات العربية والفلسطينية والإسرائيلية، ومركز إحصاء ومركز معلومات حقوق الإنسان الفلسطيني الذي يعنى بالانتهاكات الإسرائيلية للمواطن الفلسطيني، ومركز للدراسات السياحية إضافة إلى مركز للجغرافيا .. وكانت أول مركز يصدر خارطة لفلسطين الطبيعية باللغتين العربية والإنكليزية، كما أسس الحسيني مركز الأبحاث للأراضي، واهتم بتوثيق مصادرات الاحتلال للأراضي الفلسطينية في القدس، ورصد الاستيطان، والعمل على تعزيز صمود المزارعين في أراضيهم، إضافة إلى مركز لرعاية الأسرى المحررين لإعادة تأهيلهم.
وبين البديري، أحد مؤسسي الجمعية، أن جمعية الدراسات اتخذت من عمارة العارف في حي المصرارة بالقدس مقراً أولاً لها، وبعد اتساع مهامها ومراكزها تم استئجار جزء من مبنى فندق "أورينت هاوس" في العام 1984.
وبقيت جمعية الدراسات تعمل حتى صدور قرار إسرائيلي بإغلاقها، نهاية آب (أغسطس) من العام 1988، حمل توقيع وزير الجيش حينها إسحق رابين، ويقضي بإغلاق الجمعية وكافة المراكز التابعة لها لدواع أمنية، وجدد الإغلاق على مدار أربع سنوات متتالية، كما اعتقل المرحوم فيصل الحسيني إدارياً لعام ونصف العام.
وخلال فترة الإغلاق، والحديث للبديري، "حاولنا العمل وفتح المراكز في مناطق أخرى إلا أننا كنا نواجه ذات المصير مجدداً، وبقيت مراكز الجمعية على هذا الحال باستثناء "مركز المعلومات الفلسطيني" كون مقره كان خارج مبنى "الأورينت" .. وبعد الإفراج عن الحسيني، قرر أن يحول منزلهه لموقع تمارس فيه كافة مراكز الجمعية أعمالها، إصراراً منه للعمل وحماية القدس.
إعلان بيت الشرق
ويواصل البديري الحكاية: في أواخر العام 1991 تم إعادة فتح الجمعية في نفس المقر "الأورينت"، على ضوء الحراك التفاوضي "مؤتمر مدريد للسلام" والوساطة الأمريكية، وفي 15-10-1992 أعلن المرحوم فيصل الحسيني إطلاق اسم بيت الشرق على المبنى الذي ضم جمعية الدراسات العربية والمراكز الأخرى، مضيفاً: خلال عملية التفاوض في أوسلو أخذ بيت الشرق بعداً دبلوماسيا محلياً ودولياً، وكان مزاراً للعديد من رؤساء الوزراء والوزراء والقناصل والسفراء والوفود الرسمية التي حطت رحالها في فلسطين، كما أصبح البيت مقراً للوفد الفلسطيني المفاوض في المرحلتين الأولى والنهائية، ومقراً لوفود المباحثات، ومقراً للجان الفنية المساندة للوفود الفلسطينية المفاوضة.
وأشار البديري إنه تم إنشاء طواقم فنية متخصصة في بيت الشرق، كانت كأنها تؤسس لدولة فلسطينية قادمة وتهيئ لها، فتم إنشاء طواقم صحة، وتعليم، ومواصلات، وغيرها.
إغلاقه بعد وفاة الحسيني
وأوضح البديري أن بيت الشرق قدم لأهالي القدس الكثير، وفي شتى المجالات، حيث دعم التعليم مادياً ومعنوياً، وكذلك المستشفيات إضافة إلى دعم المؤسسات الثقافية والفنية، ومن بينها مسرح الحكواتي، كما رمم العديد من المنازل في القدس القديمة، فلم يقتصر عمله على الناحية السياسية فحسب، وقال: بيت الشرق كان عنواناً سياسياً وخدماتياً لكافة المقدسيين، كما شهد فعاليات احتجاجية على ممارسات الاحتلال، ولهذا بعد عامين من تأسيسه بدأت محاولات الحصار والتضييق الإسرائيلي ضده، حيث منع العديد من المواطنين الفلسطينيين من الدخول إليه، إضافة إلى حظر دخوله على وفود أجنبية أيضاً، ووقتها أقيمت مقابله خيمة عسكرية إسرائيلية تراقب الداخلين والخارجين إلى بيت الشرق، وتعمد إلى استفزازهم، كما حاولوا في العام 1999 إغلاقه بشكل كامل لكن الوقفة الجماعية المقدسية حوله حالت دون ذلك، إلا أنه وبعد أربعين يوماً من وفاة الحسيني أغلق بشكل كامل حيث تم مصادرة كافة الأوراق والملفات والأجهزة الموجودة فيه، باستثناء المكتبة التي تحتوي على 25 ألف كتاب، وقسم الوثائق التاريخية.
وأضاف البديري: سلطات الاحتلال الإسرائيلية حاولت قطع التواصل بين المواطنين المقدسيين وبين عنوانهم الفلسطيني في بيت الشرق، مضيفاً: أهالي القدس يفتقدون رجل في همة ودور المرحوم فيصل الحسيني، ويفتقدون من يدعم القدس بشكل أكثر فعالية لتعزيز صمودهم على الأرض .. المدينة تعاني من إهمال وتقصير عربي وإسلامي، وأحياناً محلي.
صندوق للقدس
وشدد البديري على ضرورة رصد صندوق خاص لمدينة القدس من قبل السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير من خلال التبرعات العربية والإسلامية والأجنبية، للإنفاق على القدس في ميزانية معروفة بكافة المجالات، كما طالب بوضع آليات لإعادة بناء الإنسان والمؤسسات في القدس.
وأكد البديري إن الثقافة في القدس، حالة وحراكاً، تضررت كثيرا منذ الاحتلال، فقبل العام 1967 كانت هناك حركة ثقافية نشطة من مسرح وأدب ونشر وتأليف وغيره، موضحاً أهمية الثقافة في توعية الجيل الناشئ، واستخدامها كسلاح لمواجهة المصاعب والمشاكل كافة.
وطالب البديري، ولمناسبة القدس عاصمة الثقافة العربية 2009، وزراء الثقافة العرب، والمسؤولين الفلسطينيين، بالضغط على الجانب الإسرائيلي، لإعادة فتح كافة المؤسسات المقدسية التي أغلقت في السنوات العشر الماضية، وما قبلها، وعلى رأسها بيت الشرق، والسماح لجمعية الدراسات العربية، ومن باب الضرورة بالدخول إلى حيث مكتبة بيت الشرق، لصيانة الكتب والوثائق الموجودة، مؤكدا رفض الجمعية للتلميحات الإسرائيلية بالعمل على نقل المكتبة إلى خارج مدينة القدس.
وبين البديري أن جمعية الدراسات العربية ولمناسبة القدس عاصمة الثقافة العربية ستقدم خارطة للقدس عليها كافة المواقع الثقافية والحضارية إضافة إلى تنظيمها لمعرض صور وآخر للفنانين التشكيليين، وغيرها من الإصدارات.
تاريخ البيت
من الجدير بالذكر أن بيت الشرق بني في العام 1912 كبيت للضيافة، حيث استضاف عدداً من زعماء العالم منهم إمبراطور الحبشة هيلاسيلاسي، وفي العام 1948 ستعمل كمقر لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين عام 1948، في حين تحول في العام 1950 إلى فندق..لكن وبسبب سوء الأوضاع السياحية استؤجر من قبل جمعية الدراسات العربية في العام 1984.
أطلق على المبنى اسم بيت الشرق في العام 1992 في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام والتغيرات السياسية المترتبة عليه، حيث أصبح مقراً للوفود المفاوضة ومركزاً لخدمة المواطنين المقدسيين.