بقلم : خليل الصمادي ... 21.09.2010
أبو إبراهيم، عارف إبراهيم النعنيش، من مواليد نابلس - المدينة القديمة في حارة الياسمينة عام 1952، مناضل، قاض، شاعر، أديب، مثقف، والد شهيد، يحلم بالعودة إلى حارته العتيقة في نابلس، بائع متجول على عربة، يبيع أحياناً الفاكهة وأحياناً المكسرات وأخيراً استقر يبيع التمور، يمدّ عربته على مفترق ساحة الريجة في شارع اليرموك بمخيم اليرموك، كان هذا هو الموجز، وإليكم الأخبار بالتفصيل:
التقينا بالأخ أبي إبراهيم، ليس في هذه المرة فحسب، بل كنا نلقاه منذ أعوام عديدة يتأبط الكتب بين فاكهته وتموره وتينه الجاف، شعاره الدائم «وخير جليس في الأنام كتاب».
أبو إبراهيم درس في مدينة نابلس المرحلة الابتدائية والإعدادية، وبسبب عمل والده انتقل إلى مدينة طولكرم التي تبعد 28 كم عن نابلس، وهناك درس المرحلة الثانوية عام 1969، وفي ذلك الوقت تعرض للاعتقال على أيدي السلطات العسكرية الصهيونية بتهمة مقاومة الاحتلال، وظل معتقلاً مدة سنة كاملة، وبعدها حكمت المحكمة عليه بالسجن خمس سنوات مع وقف التفيذ لاعتباره قاصراً.
التقينا بأبي إبراهيم ليحدثنا عن نفسه فقال:
بعد سجني انقطعت عن الدراسة لعدة سنوات وعملت بالتجارة، وبسبب شغفي بالعلم قررت العودة إلى مقاعد الدراسة، وكنت وقتها متزوجاً وعندي طفلان هما إبراهيم وولاء، وبعد أن نجحت في امتحان التوجيهي (الثانوية العامة)، جئت إلى دمشق والتحقت بكلية الحقوق بجامعتها، وتخرجت منها عام 1976.
كنت قبل قدومي إلى دمشق في تنظيم حركة فتح، وحين قدمت إليها التحقت بأحد أجهزة الحركة، وفي عام 1982 انتقلت للعمل في مدينة أبناء الشهداء بعدرا القريبة من دمشق كمدير لشؤون الطلاب، وكان فيها ثلاث مدارس قدمت من لبنان أدمجت مع بعضها..
أبو إبراهيم قاضياً
في عام 1984 أُفرزت لجهاز القضاء الثوري الذي كان تابعاً لمنظمة التحرير وأصبح بعد انتفاضة فتح تابعاً لها، وعملت داخل الجهاز مدعياً عاماً عسكرياً وقاضياً للتحقيق حتى عام 1994. في هذا العام أنهيت علاقتي بالحركة لأنني لم أعد مقتنعاً بما أقوم به من عمل يرضي الله سبحانه وتعالى ثم يرضي شعبي المنكوب. تركتُ العمل القضائي غير آسفٍ، ولم أطالب بأي تعويض أو راتب تقاعدي لأنني كنت مقتنعاً بأن تفرغي بالحركة كان رغبة مني في النضال من أجل فلسطين، لا من أجل راتب شهري.
بلا وثيقة إثبات
هذا المناضل الذي أحب فلسطين وأهلها يعيش الآن دون أي إثبات، فلا هوية أو جواز سفر أو حتى وثيقة سفر.
يقول أبو إبراهيم: كنت أحمل جواز سفر أردنياً، لكن الحكومة الأردنية نزعت عني الجنسية لكوني في فتح الانتفاضة ككثير غيري وذلك عام 1994، ومنذ ذلك الحين وأنا أعاني ما أعانيه من تشردٍ وقلق، فالسفر من المحرمات، وكذا حقوق المواطنة لا أعرفها، فليس لدي هوية أو جواز سفر أو وثيقة أو قيد نفوس، لم أغادر دمشق منذ عام 1994، ولولا لطف الله ثم الحكومة السورية المضيافة التي احتضنت المئات أمثالي لكان وضعنا مزرياً أكثر من ذلك.
والد الشهيد إبراهيم
استشهد ولدي البكر إبراهيم في يوم 28/10/2003 أثناء انتفاضة الأقصى، وكان هذا اليوم يوافق الثالث من رمضان على يد وحدات الموت الصهيونية بعد عدة محاولات لاغتياله حيث كان قائداً لكتائب شهداء الأقصى في طولكرم ومسؤولاً عن عدة عمليات استشهادية، وقد تصدى لجيش العدو الصهيوني في عدة مواقع، ولا سيما عند اجتياح الجيش الصهيوني مخيم طولكرم، وقد حوصر مع عدة مقاومين تمكنوا من اختراق الطوق والانسحاب إلى الجبال، وكذا دفاعه المستميت عن حارة الياسمين في البلدة القديمة بنابلس، وقد تكمن بحنكته من الإفلات من قبضة العدو بعد أسره. لم أتألم لاستشهاده، بل اعتبرت ذلك واجباً دينياً ووطنياً، لكن الذي آلمني أنني لم أره منذ عام 1989 ولم أشيّعه إلى مثواه.
استشهاد إبراهيم
في يوم استشهاده ذهب لصلاة الظهر ومعه سلاحه الذي لا يفارقه أبداً «حسب وصيتي له»، رأى إبراهيم سيارة مريبة تجول في الشارع الرئيس في مخيم طولكرم، وقد أوقفته امرأة فاضلة أخبرته أنها مرتابة من هذه السيارة وعليه أن يأخذ حذره، دخل إبراهيم المسجد وبعدما أدى الصلاة أوقفه بعض مرتادي المسجد وأخبروه أن هناك تحركاً مشبوهاً وسيارات مشبوهة، وعليه أن يختفي في الأزقة، فضحك إبراهيم قائلاً: إنني أدعو الله في صلاتي لملاقاتهم فكيف تطلبون مني أن أهرب؟
خرج إلى الشارع العام، وبعد أن تأكد من السيارة، أسرع بإطلاق الأعيرة النارية عليها من بندقيته، وظل يتبادل إطلاق النار مع القتلة أكثر من نصف ساعة، وتبين بعد ذلك أنه تمكن من قنص سائق السيارة وجرح من كان جواره، ولم يتمكنوا منه إلا بعد أن جاءت سيارة أخرى وعربة مصفحة لمساندة القتلة، وقد أصيب رحمه الله في صدره ورقبته ويديه، وأحصى الطبيب في جسده ست عشرة رصاصة.
أبو إبراهيم شاعراً
لا عجب في أن نرى أبا إبراهيم في كثير من الأحيان يحمل في يده كتاباً، إما القرآن الكريم وإما مذكرات عزة دروزة أو كتاب بلادنا فلسطين للدباغ أو دواوين الشعر المتعددة الأغراض، حتى يخيّل للشاري أن أبا إبراهيم عنده مركز ثقافي متنقل، وعندما سألناه عن سرّ ذلك قال: ولعت بالكتب منذ الصغر، فقد كنت أشتري كل أسبوع كتاباً وأقرأه، ولديّ في نابلس مكتبة قيّمة فيها من كل لون وفنّ أغلبها في الأدب العربي والتاريخ.
سألني قبل أيام عن «ديوان العودة» الذي أصدره الأخ سمير عطية فوعدته خيراً، وسألته هل تقرض الشعر يا أبا إبراهيم فقال:
أتسألني عن الشعر وهو خليلي ونديمي، أكتب الشعر لأروّح عن نفسي ولأطفئ جذوة النار التي في صدري مما يحدث في فلسطين وخارجها، فأنا لا أقرض إلا الشعر الملتزم بقضايا الأمة ومصيرها، أكتب الشعر العمودي وشعر النثر كما أكتب الشعر الشعبي.
وأردف قائلاً:
ملأ الشوق طريقي يا رفاقي بعت أسمالي وزادي واشتياقي
بتُّ عبداً كبلتني ذكرياتي والأسى ينخر عظمي في شقاقي
كلما حاولت أن أكسر قيدي كبلتني النفس عن كسر وثاقي
كفر القيد بذلي واكتئابي قال: عبدُ لا يبالي بافتراقي
وأثناء توقيع اتفاقية جنيف قلت:
يــاجبـال النــار ثـــوري فجِّـــري نهــــر الــدمــــاء
قدّمــــي الأرواح تترى واستمـــري فــي العطــاء
ليــس يثـنـيــنــــا عـــدوٌّ أو جـــبـــــــان أو مــــــــراءٍ
حقُّنا يا قدس شمسٌ سوف تسطع في السماء
بائع متجول
استغربت من ثقافة أبي إبراهيم، وأستغرب الكثير، ولا سيما زبائنه الذين يوقظونه من غفلة الكتاب: أبو إبراهيم بكم كيلو تمر الخضري؟ يرفع أبو إبراهيم رأسه ويحدق في وجه الزبون الذي قطع أفكاره، ولولا ضيق العيش لتمنى أبو إبراهيم ألا يسأله أحد حتى ينسجم مع جليسه الوفي. سألناه: لماذا اخترت هذه المهنة؟
قال: أبيت أن أستجدي رزقي من التنظيمات الفلسطينية، فاشتريت عربة بتسعة آلاف ليرة سورية «أقل من مئتي دولار» وصرت أبيع الفواكه حيناً والخضار حيناً والمكسرات حيناً، إلى أن ارتأيت بيع التمور لأنها مباركة والله يبارك في رزق من يبيعها. كذلك فإنني ارتحت من التسوّق اليومي من الفواكه. سألناه: هل أنت راضٍ في عملك هذا؟ قال: هذا ما قسمه الله لنا والحمد لله على نعمه.
أنهينا الحديث مع الأذان وتصاحبنا إلى مسجد المخيم، ولم يغطِّ أبو إبراهيم عربته، فكل أبناء المخيم يعرفون هذا البائع المثقف حق المعرفة.♦