بقلم : صالح النعامي ... 09.10.2010
شهدت العلاقات بين إسرائيل ويهود العالم في الأعوام الخمس الماضية تحولات هامة، تنذر بحدوث تغيرات جوهرية على مكانة إسرائيل العالمية ومنعتها وترسم علامات استفهام كبيرة حول مجرد بقاء هذا الكيان في هذه البقعة من العالم؛ حيث أن جزءً من هذه التحولات تعزى إلى تغير ظروف حياة اليهود في أرجاء العالم مقارنة بإسرائيل، في حين يعزى الجزء الآخر إلى أنماط سلوك النخبة السياسية الحاكمة في إسرائيل والتي باتت تبدي استعداداً للتفريط بعلاقات الكيان الصهيوني مع الجاليات اليهودية في أرجاء العالم لدواع سياسية داخلية ضيقة.
صدمة قانون " التهود "
ولعل أحد أهم التطورات التي سرعت من وتيرة الفرقة بين إسرائيل ويهود العالم وتحديداً في الولايات المتحدة وكندنا هي تمرير قانون " التهود " في الكنيست، وهو القانون الذي ينظم عملية تحول غير اليهود لليهودية. فقد قابل اليهود الأمريكيون الذين يشكلون أغلبية اليهود في العالم تمرير هذا القانون بردة فعل غاضبة وقاسية، وصلت إلى حد تهديد الكثير من النخب اليهودية الأمريكية بالتخلي عن دعم إسرائيل والتوقف عن أبداء الحرص على مصالحها. وقد أثار هذا القانون ردة الفعل الغاضبة هذه لأنه منح مؤسسة الحاخامية الكبرى، وهي المؤسسة الدينية الرسمية في إسرائيل الحق الحصري في تحديد الشروط الواجب استيفاؤها في الشخص الذي يرغب في التحول لليهودية. وتعود حساسية النخب اليهودية الأمريكية لهذا التطور لأن الحاخامية الكبرى تقع تحت تأثير المرجعيات الدينية اليهودية المتزمتة المعروفة بـ " الحريدية "، والتي تتبنى الاجتهادات الفقهية الأكثر تطرفاً في تحديد " من هو اليهودي "، بالإضافة لتوسعها في فرض القيود على الراغبين في التحول لليهودية؛ علاوة على ذلك فإنه بالنسبة للمرجعيات الدينية الحريدية فإنه لا يمكن الاعتراف بيهودية أي شخص تحول لليهودية عن طريق حاخامات إصلاحيين أو محافظين، مع العلم أن الإصلاحيين والمحافظين يشكلون الأغلبية الساحقة من يهود الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وبالتالي فإن الحاخامية الكبرى في إسرائيل تخرج عملياً يهود الولايات المتحدة عن دائرة اليهودية. ففي الوقت الذي تعتبر المرجعيات الدينية الحريدية أن اليهودي هو الذي ولد لأم يهودية، فإن نتائج آخر دراسة أجريت في الولايات المتحدة تبين أن 50% من اليهود الأمريكيين يتزوجون زواجاً مختلطاً، وهو ما يجعل هؤلاء خارج إطار اليهودية في نظر المرجعيات الحريدية. ويرى الكثير من قادة اليهود الأمريكيين أن سن القانون يمثل طعنة في ظهرهم، وهم الذين يلعبون دوراً مركزياً في تأمين مصالح إسرائيل الاستراتيجية. وما يثير سخط هؤلاء القادة أن سن القانون جاء فقط من أجل ضمان استرضاء الأحزاب الحريدية المشاركة في الإئتلاف الحاكم في تل أبيب، وهي الأحزاب التي لا يخدم أنصارها في الجيش وتميل للانعزال عن المجتمع الإسرائيلي.
فقدان قوة الجذب
في نفس الوقت تدلل الكثير من المؤشرات على إن إسرائيل لم تعد مكان جاذب لليهود في أرجاء العالم، فحسب المعطيات التي كشف عنها المكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل فقد تدنت معدلات الهجرة اليهودية لإسرائيل بشكل كبير، لتصل إلى 18.129 مهاجر يهودي في العام، وهو أقل عدد منذ عام منذ العام 1988، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تضم أكبر تجمع لليهود في العالم، فإن متوسط ما يهاجر من اليهود الأمريكيين لايتجاوز 2600 مهاجر في العام، في حين أن عدد اليهود في الدول التي كانت تشكل الإتحاد السوفياتي الذين يهاجرون لإسرائيل قد انخفض إلى 6600 مهاجر، مع العلم أنه كان يعول على هؤلاء تحديداً كمصدر لتعزيز الواقع الديموغرافي اليهودي في أرض فلسطين. ومما فاقم خطورة هذا الواقع إن هناك مؤشرات على تدني مكانة إسرائيل في نظر يهود العالم وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية، فحسب نتائج دراسة أجريت لصالح ديوان رئاسة الوزراء في إسرائيل فقد تبين أن 50% من الشباب اليهودي الأمريكي لا يهمهم اذا كفت اسرائيل عن الوجود، في حين أن 20% فقط من اليهود في الدول التي كانت تشكل الإتحاد السوفياتي يتعرضون لمضامين يهودية.
وقد دفعت هذه المعطيات الوكالة اليهودية المسؤولة بشكل مباشر عن تهجير اليهود في العالم إلى إسرائيل إلى إتخاذ قرار غير مسبوق وتاريخي يتمثل بتعديل سلم أولياتها، حيث أن مجلس إدارة الوكالة الذي انعقد في كييف عاصمة أوكرانيا مؤخراً قرر أن يكون على رأس أوليات الوكالة العمل على تعزيز العلاقة بين اليهود في العالم وإسرائيل، بعد أن كان تهجير اليهود لإسرائيل على رأس هذه الأولويات.
مؤتمر لافت
ومما لا شك فيه أن أوضح دلالة على مظاهر فك الإرتباط بين اليهود وإسرائيل هو المؤتمر الذي عقد في موسكو في نيسان الماضي والذي نظمه المئات من الشباب اليهود الروس الذين سبق لهم أن هاجروا لإسرائيل أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وقرروا بعد ذلك مغادرتها والعودة مجدداً إلى روسيا بعد تحسن الأوضاع الاقتصادية والأمنية فيها. وقد كان من اللافت أن أهم استنتاج صدر عن المؤتمرين هو إنه بإمكان اليهود في أرجاء العالم العيش بدون إسرائيل، وذلك بعد أن عددوا مظاهر خيبات الأمل الشخصية التي صدموا بها خلال تجربة وجودهم في إسرائيل. ومن المفارقة أن عدداً من الشخصيات الإسرائيلية البارزة قد لبت الدعوة وحضرت المؤتمر رغم إدراكها إتجاه النقاشات فيه، حيث حضرت النائب السابق داليا رابين، إبنة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، والنائب ياعيل ديان إبنة وزير الدفاع والجنرال الإسرائيلي موشيه ديان.
الشباب اليهودي الأمريكي والاتجاهات الليبرالية
ومن التحولات التي تقلق صناع القرار في إسرائيل هي الاتجاهات الليبرالية التي باتت طاغية على ميول الشباب اليهودي في الولايات المتحدة، والتي تقلص من حدود تضامن اليهود مع إسرائيل. ويقول الأكاديمي اليهودي جاي باخور المحاضر في جامعة " هارفارد " أن معظم الشباب اليهودي في الولايات المتحدة هم من ذوي التوجهات الليبرالية، حيث باتوا يرفضون بشكل مبدأي السياسات الإسرائيلية العدوانية ضد الفلسطينيين، وبل ويوافقون على العمل ضدها داخل الولايات المتحدة. وفي مقال نشره على النسخة العبرية لموقع " جي بلانت " التابعة لإحدى المنظمات اليهودية الأمريكية، يقول باخور أن الحرب الإسرائيلية على غزة أواخر عام 2008 وما تخللها من جرائم أرتكبت ضد المدنيين الفلسطينيين مثلت نقطة تحول فارقة بالنسبة لمعظم الشباب اليهودي الأمريكي. ويجزم باخور بأن معظم الشباب اليهودي في الولايات المتحدة "يخجل من ذكر إسرائيل ويتمنى لو لم تجري هذه الكلمة على لسانه ". وفي مقال نشراه مؤخراً في مجلة " ذي نيشن "، يرجع الباحثان اليهوديان الأمريكيان آدام هورفيتش وفيلفي فايس هذه التحولات التي طرأت على موقف الشباب الأمريكي بشكل عام وتحديداً الطلاب الجامعيين من القضية الفلسطينيين وتحديداً بعد الحرب على غزة، حيث كتبا أن " كل طالب في أي حرم جامعي في الولايات المتحدة لا يعرف نفسه كمتضامن مع الفلسطينيين يتم توصيفه بأنه " عنصري مما جعل الطلاب اليهودي "تواقين للتخلص من العار الذي تلحقه بهم إسرائيل كيهود ".
تهاوي فكرة الملاذ الآمن
إن أحد المسوغات التي عززت مطالبة الحركة الصهيونية بإقامة " وطن قومي " لليهود تتمثل في أن هذا " الوطن " سيكون ملاذاً آمناً لليهود في أعقاب ما تعرض له اليهود في أوروبا، وبشكل خاص على أيدي النازيين، وفي أعقاب تعاظم مظاهر ما يعرف بـ " اللاسامية ". ومما لا شك فيه أن تهاوي معدلات الهجرة اليهودية لإسرائيل وتزايد معدلات الهجرة العكسية منها يدلل ضمن أمور أخرى على تهاوي هذه الفكرة. ويفسر أبراهام تيروش سكرتير الحكومة الإسرائيلية سابقاً هذا التحول قائلاً : أن إسرائيل باتت في نظر معظم اليهود في العام " دولة في خطر ووجودها موضع شك وهي تخيف اليهود أكثر بكثير من اللاسامية في دولهم ". ويروي تيروش ما سمعه كثيراً من بعض قادة اليهود في الولايات المتحدة من أن إسرائيل باتت تحتاج اليهود في " الشتات " أكثر مما يحتاج هؤلاء اليهود إسرائيل. ويقر المحامي دوف فايسغلاس الذي شغل منصب رئيس ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون بتراجع مكانة إسرائيل في نظر اليهود الأمريكيين بشكل واضح، حيث يشير إلى أن مظاهر الوهن أصبحت بادية على العلاقة بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة، حيث أن الشباب اليهودي الأمريكي لم يعد يرى في إسرائيل مكان لعيشه، ولا تمثل بالنسبة لهم مركز روحياً و أيدلوجياً، ولم تعد حتى هدفاً للزيارة.
إسرائيل لم تعد ملاذاً آمناً حتى لعدد كبير من الإسرائيليين الذين ولدوا وعاشوا فيها؛ فحسب المعطيات الإسرائيلية الرسمية فإن 750 ألف إسرائيلي غادروا إسرائيل ويعيشون في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. لكن الظاهرة الأكثر دلالة على تهاوى فكرة الملاذ الآمن تتمثل في تهافت الإسرائيليين حالياً على الحصول على جوازات سفر أجنبية لاستخدامها وقت الضائقة. وقد تعاظمت هذه الظاهرة مؤخراً لدرجة دفعت رئيس الكنيست روفي ريفلين لأن يكتب مقالاً لاذعاً حول الظاهرة وخطورتها وتداعياتها " المأساوية " على إسرائيل.
مخاطر متعددة
أن المخاطر الناجمة عن مظاهر فك الارتباط الواضحة بين إسرائيل ويهود العالم كبيرة وجدية، ولعل أهم هذه المخاطر هي المخاطر الديموغرافية الناجمة عن تدني رغبة اليهود في الهجرة لإسرائيل؛ فالمشروع الصهيوني قام على ركيزتين أساسيتين: السيطرة على الأرض الفلسطينية وجلب المهاجرين اليهود، وعندما تتدنى معدلات الهجرة فإن القدرة على السيطرة على الأرض تتقلص، ليس هذا فحسب، بل إن تدني معدلات الهجرة يعني جعل إسرائيل مرتبطة تحديداً بالجماعات اليهودية غير المنتجة، سيما أتباع التيار الديني الحريدي الذين يتسمون بميزتين أساسيتين، وهما: زيادة معدلات التكاثر الطبيعي، وفي نفس الوقت هجر سوق العمل والعيش على المساعدات التي تخصصها لهم الدولة بفعل الضغوط التي تمارسها أحزابهم التي تشارك في الائتلافات الحاكمة، علاوة على أن معظم هؤلاء لا يؤدون الخدمة العسكرية. من ناحية ثانية فإن ردة الفعل الغاضبة التي تجتاح حالياً يهود الولايات المتحدة بسبب قانون التهود، فضلاً عن التحولات التي طرأت على اتجاهات الشباب اليهودي هناك تنطوي على مخاطر ذات طابع استراتيجي لأنها تؤدي إلى تآكل التأييد والدعم اللامحدود الذي تقدمها المنظمات اليهودية الأمريكية، الذي لا خلاف في إسرائيل على أنه يمثل أهم ضمانات بقاء إسرائيل، بسبب قدرة هذه المنظمات على التأثير على السياسة الخارجية لواشنطن، وتحديداً في الشرق الأوسط. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه المؤشرات تتوالى في وقت بالغ الحساسية والصعوبة بالنسبة لإسرائيل التي تدنت مكانتها الدولية بشكل غير مسبوق، بعد حرب غزة 2008 وفي أعقاب أحداث أسطول الحرية، حيث أن إسرائيل باتت في أمس الحاجة لدعم يهود العالم غير المتحفظ.
أن بروز مظاهر فك الارتباط بين إسرائيل ويهود العالم تستوجب من الفلسطينيين والعرب والمسلمين استغلال هذا التطور والبناء عليه من أجل تكريس هذه الظاهرة وتعميقها، لما لذلك من آثار استراتيجية سلبية على إسرائيل وقدرتها على مواصلة العدوان على الفلسطينيين والعرب. لكن هذا يستوجب استحداث ماكينزمات عمل جديدة، تتمثل في التواصل مع الجاليات اليهودية، سيما الأطر الشبابية فيها، ومحاصرة الدعاية الإسرائيلية وتسليط الضوء على ما تقوم به تل أبيب من جرائم. ومما لا شك فيه أن هذا يتطلب من بعض الأوساط العربية تغيير جذري في خطابها الإعلامي، سيما ضرورة التفريق بين اليهود من جهة، وإسرائيل والصهيونية من جهة أخرى، فتناقضنا كفلسطينيين وكعرب ومسلمين مع إسرائيل ككيان إحلالي ومع الحركة الصهيونية كحركة عنصرية تستهدف الوجود الفلسطيني، وليس مع اليهود كمنتمين لدين سماوي.