بقلم : إياد الحسني ... 11.10.2010
اصطف بعض أطفالهم من كلا الجنسين في طابور طويل على الأبواب المتعددة للمقبرة، وانتشر البعض الآخر بين شواهد القبور، حملوا بين أيديهم جالونات وزجاجات بلاستيكية من مختلف الأحجام والأنواع والألوان المليئة بالماء، كلاً منهم يسارع الخطى نحو القادمين الجدد من المواطنين الذين يحملون على أكتافهم نعشاً يضم بين جنباته جثمان ميت عزيز على أهله، وألسنتهم تلهث بالدعاء له بالمغفرة والرحمة.
يحاولوا جاهدين أكثر من مرة التسلل بين جموع المشيعين للوصول إلى حافة القبر، يُطردوا المرة تلو الأخرى، ويُسحبوا من ياقات قمصانهم البالية إلى الخلف، يُعنَّفوا من البعض إن لم يكن من الجميع، ولكنهم في نهاية المطاف يصلون بشق الأنفس إلى مبتغاهم، فيجلسون عند حافة القبر بالقرب من رأس الميت، وما إن يوارى جثمانه الثرى، حتى تمتد أيديهم بما يحملونه من أوعية مليئة بالماء لترطيب القبر، وسد شقوقه بالطين المخلوط بالماء.
قد يعتقد البعض للوهلة الأولى أن جلب الأطفال للماء ومد المشيعين به، يأتي من باب كسب الحسنات، ولكن ما إن ينتهي الجميع من دفن موتاهم ويهمون بالمغادرة، حتى تتكشف حقيقة الأمر حين تشاهد عشرات الأيدي الصغيرة ممتدة من كل حدب وصوب نحو الجميع دون استثناء، فهدا يُطلب ثمناً لزجاجته، وذاك يطلب ثمناً لجالونه، وتلك تقف على باب المقبرة تستجدي المغادرين للحصول على بعض النقود كونه لم يُسمح لها بالتسلل كأقرانها الأطفال من الذكور بين جموع المشيعين.
هذه المهنة الجديدة القديمة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء ممن يسكنون المقابر ويزاحمون الموتى العيش بجوار قبورهم، أو من يقطنون بمحاذاتها من العائلات الفقيرة في غزة المحاصرة، لجأوا إليها أو أُجبروا على ذلك، كونهم لم يجدوا ما يسدون به رمق جوعهم، ولا ظمأ عطشهم، في ظل مجتمع لم يُعِيرُهم فيه أحد انتباهه، فينتشلهم من براثن الفقر المدقع، وسوط الجهل اللاسع.
هناك حيث لا حياة... حيث السكون دائم... اتخذوا لهم مأوى، أطفال ونساء وشيوخ يعيشون كالأموات، لا يختلفون عنهم إلا بقلوبهم التي لا تزال تنبض... لم يكن ذلك المكان خيارهم، بل لأنهم لم يعرفوا غيره... أجبرتهم عليه الظروف بعد ما ضاقت بهم أرض الأحياء فلجأوا إلى أخرى، أو لربّما كان سهلا أن يحتلوها لأنه لم يشأ سكانها المسالمون الدفاع عنها فلا حول لهم ولا قوه، لكن ضريبة العيش لم تكن أبدا سهله عليهم، فقد تلونت حياتهم بالسواد وامتزجت بنكهة الموت، يتظاهرون بأن الأمر أصبح طبيعيا لديهم، لكن مآسيهم وأوجاعهم وهمومهم تتحدث عن أحلامهم التي لم تتخطَّ أربعة جدران خارج المدافن وجيران غير الموتى...
فهل أصبح السكن في مقابر القطاع ظاهرة فحسب، أم أنها تحولت إلى مأساة داخل المأساة؟، وهل الحصارِ والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سكان القطاع هي التي اضطرت العشراتُ من عائلات غزة إلى مزاحمة الموتى والعيش بجوار قبورهم؟ وهل الحياة بجوار الموتى سهلة، أم أن كل شيء هناك يذكرهم بالموت، ويسرق منهم حتى لُحيظاتِ إحساسهم بالحياة؟ وما هو التأثير النفسي والاجتماعي الذي يترتب على الأطفال لمشاهدتهم اليومية لجنائز الموتى؟ وما هو دور المؤسسات الحكومية والأهلية للحد من هذه الظاهرة في ظل نذرة المساكن وقلة ذات اليد؟.
شعبان: تدمير المنازل سبب في انتشار الظاهرة
وفي هذا السياق يقول المختص في الشئون الاقتصادية، والخبير في التنمية البشرية عمر شعبان إن لانتشار ظاهرة السكن في المقابر ومجاورة الموتى قبورهم عاملين أساسين هما السبب في ازدياد هذه الظاهرة، أولهما حالة الفقر الشديد التي يعيشها معظم سكان غزة، والذي يزيد عددهم عن الثلثين، وبالتالي أصبحت هذه العائلات غير قادرة على توفير أي خدمات لنفسها أو لأبنائها أو إعطائهم الاهتمام الكافي من ناحية الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية، وثانياً زيادة عدد المواليد في القطاع، حيث بلغ نحو 200 ألف مولود جديد منذ بدء الحصار على غزة، الأمر الذي زاد من عدد سكان القطاع ليصل إلى نحو 1.8 مليون نسمة، وهذه الزيادة رافقها تدمير نحو 5 آلاف منزل، و7 آلاف شقة سكنية، الأمر الذي أدى إلى تفاقم أزمة السكن.
وأضاف شعبان، وبالتالي أصبح هناك بيوت مزدحمة بالسكان، حيث أن عائلتين أو أكثر أصبحت تعيش في بيت واحد، وهذا ما جعل البعض يلجئون إلى الهرب إلى المقابر للسكن المجاني بجوار الموتى.
وأشار إلى أن هناك مسئولية كبرى تقع على عاتق المجتمع الدولي الذي لم يحرك ساكناً اتجاه الحصار الجائر المفروض على القطاع منذ أكثر من أربع سنوات، ولم يصرف فلساً واحداً في إعادة إعمار البيوت المدمرة، أو إقامة مشاريع إنتاجية تقضي أو تحد من حالة الفقر المستفحلة، بل انكبوا على دفع الأموال الباهظة للمؤسسات الأهلية ولكن لعمل الدراسات الإستراتيجية، وإقامة المشاريع التشغيلية المؤقتة، كتنظيف الشوارع، وزراعة الأشتال، وبالمقابل إهمال البعد الإنساني لهذه العائلات وأبنائها الذين هم بحاجة إلى بناء البيوت وتأهيل وتجهيز أماكن لجوء يتوافر فيها الحد الأدنى من مقومات الحياة.
وبيَّن شعبان أن العائلات التي تضطر إلى اللجوء للمقابر والعيش فيها، هي من العائلات التي تُصنف بأنها تعيش تحت خط الفقر المدقع، وليس لديها الحد الأدنى من مقومات الحياة، أو من الحقوق وهو البيت، وبالتالي من فقد البيت يفقد القدرة على الاهتمام بتعليم أبنائه أو بصحتهم، كما يفقد القدرة على تربيتهم على قيم وسلوكيات ايجابية، موضحاً أن فئات كبيرة من المجرمين وقطاع الطرق والجانحين، وعمالة الأطفال، هم من الأكثر فقراً والذين يعيش جزء كبير منهم في المقابر.
الحكومة تتحمل المسئولية
وحمَّل شعبان المسئولية الكبرى للحكومة "المقالةّ" في غزه، قائلاً إن أي حكومة يجب أن يكون لها دور أساسي في منع هذه الظاهرة الخطيرة جداً على المجتمع بأسره، ولكن عدم اهتمام الحكومات بهذه الظاهرة، هو محاولة منها لإنكار الواقع المعاش في غزة لهذه الفئة حتى لا تقع عليها مسئولية إخراجهم من الواقع المزري الذين يعيشونه وعائلاتهم، لأن ذلك يترتب عليه تأمين سكن وتوفير خدمات صحية وتعليمية ومنحه كافة حقوق الفرد على الحكومة والمجتمع.
أحلام الناس صغيرة على عكس همومهم
ومن جهته يقول أبو العبد الستيني، الحياة ليست سهلة هنا، هنا كل شيء يذكرنا بالموت، ويسرق منا أي لحظة يمكن أن نحس بها بالحياة، فكلما أرادنا الخروج من المقبرة اصطدمنا بجدران الفقر، والتهديد المباشر بطردنا من مأوى لا يليق بحياة الآدميين.
وأضاف :"نحن لا نحمل إلا حلماً وحيداً على عكس ما نحمله من هموم تعجز الجبال عن حملها، وهو أن يكبر أبناؤنا وأحفادنا خارج أسوار المقبرة، وأن يحلموا بمكانة اجتماعية أفضل، في مكان حتى وإن كان صغيراً، ولو في بيت من طين، المهم أنه يتسع لأبنائهم".
ويتابع أبو العبد الذي يبدو من مظهره الخارجي أنه تعدى التسعين من عمره، "في غزة أحلام الناس صغيرة ولكن همومهم كبيرة، بسبب الفقر والحصار والحرب التي فرضت عليهم ودمرت بيوتهم، وأتت على ممتلكاتهم، فأصبحوا غير قادرين على دفع إيجارات باهظة، فباتوا يزاحمون الأموات السكن بجوارهم، والاستظلال بشواهد قبورهم.
وأشار إلى أن سكان المقابر لم يعودوا كمعظم أهل غزّة يفرّقون كثيراً بين الحياة والموت، لأنهم "أحياء مع وقف التنفيذ"، أي أنهم أحياء ولكن شبه أموات في الوقت نفسه، بفعل الحصار والضائقة المعيشية التي يحيون في كنفها.
د. زقوت: العيش في المقابر يساوي بين الحياة والموت
ومن جهته قال الأخصائي النفسي في برنامج غزة للصحة النفسية الدكتور سمير زقوت، إن عملية التنشئة الاجتماعية من أهم العمليات تأثيراً على الأبناء في مختلف مراحلهم العمرية، لما لها من دور أساسي في تشكيل شخصياتهم وتكاملها، وهي تُعد إحدى عمليات التعلم التي عن طريقها يكتسب الأبناء العادات والتقاليد والاتجاهات والقيم السائدة في بيئتهم الاجتماعية التي يعيشون فيها.
وأشار زقوت إلى أن عملية التنشئة الاجتماعية تتم من خلال وسائط متعددة، حيث تُعد الأسرة أهم هذه الوسائط، فالأبناء يتلقون عنها مختلف المهارات والمعارف الأولية، كما أنها تُعد بمثابة الرقيب على وسائط التنشئة الأخرى، موضحاً أن دور الأسرة يبرز في توجيه وإرشاد الأبناء من خلال عدة أساليب تتبعها في تنشئة الأبناء، وهذه الأساليب قد تكون سوية أو غير سوية، وكلاً منهما ينعكس على شخصية الأبناء وسلوكهم سواء بالإيجاب أو السلب.
ولفت إلى أن المناخ الاجتماعي الذي تعيش فيه الأسرة، سواء في المجتمع المحلي أو الجوار، وما يتسم به من صفات وخصائص، والثقافة الفرعية التي تميزه عن غيره من سائر المجتمعات، ذا تأثير لا يقل أهمية عن دور الأسرة على أفرادها، بمعنى أن المناخ الاجتماعي يُسهم بما لا يدع مجالا للشك في تبني أساليب معينة في التنشئة الاجتماعية تختلف من مكان لآخر باختلاف الثقافة الفرعية للمجتمع، إلى جانب المستوى التعليمي وثقافة الوالدين داخل الأسرة.
يتسمون بخصائص لا تتواجد في مجتمعات أخرى
وأضاف إن سكان المقابر كأحد المناطق العشوائية وإن كانوا خليطاً غير متجانس، إلا أنهم يتسمون ببعض الخصائص التي لا تتواجد في مجتمعات أخرى، فأساليب التنشئة الاجتماعية التي تتبعها الأسرة في تنشئة الأبناء في هذه المناطق، يعتبر مناخاً جيداً لتنامي البؤر الإجرامية والانحرافات بمختلف أشكالها، بما يؤثر بطريقة أو بأخرى على سكان تلك المناطق بصفة عامة، وعلى النشء بصفة خاصة، مما يؤدي بالبعض من الأبناء إلى الانخراط في تلك البؤر الإجرامية، ويُعد ذلك إهداراً للثروة البشرية التي يجب استثمارها لتقدم وازدهار المجتمع.
وقال زقوت إن السلوكيات المنحرفة التي تصدر عن بعض الأبناء، تُعد نتاج للقصور في التنشئة السوية لهم، إلى جانب الظروف المعيشية القاسية التي يُعاني منها معظم سكان المقابر، موضحاً أن من أهم السلوكيات المنحرفة التي تصدر عن الأبناء من سكان المقابر نتيجة المناخ الاجتماعي، المشاجرات، السرقة، التسول، الشتائم البذيئة، المعاكسات، الهروب من المدرسة، التدخين والمخدرات والجنسية المثلية، الهروب من المنزل.
وذكر أن الغالبية العظمي من الأسر التي تقيم في المقابر توفر احتياجات الأبناء من الغذاء والكساء والعلاج، ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يفي باحتياجات الجسم، فمعظم الأسر التي تقيم في المقابر توفر للأبناء الملابس، إلا أن هذه الملابس لا تأتي إلا في الأعياد والمناسبات، وهي ملابس رثة يرثها الصغير عن الكبير، والأسر من سكان المقابر لا زالت تتعامل بالطرق التقليدية في علاج الأبناء في حالة تعرضهم لبعض الأمراض، ويفتقر سكان المقابر إلى العديد من الخدمات كالمؤسسات الثقافية والترفيهية، وتفتقر المقابر إلى المؤسسات الترفيهية التي تقي الأبناء من الشوارع من خلال شغل وقت فراغ الأبناء بشيء مفيد.
وبيَّن أن السكن في المقابر ظاهرة منتشرة في كثير من المجتمعات العربية، ولكن في قطاع غزة تتحول الظاهرة إلى مأساة داخل المأساة، حيث لم يعد أهل غزّة يُفرّقون كثيراً بين الحياة والموت، هم أحياء لكن شبه أموات في الوقت نفسه، بفعل الحصار والضائقة المعيشية التي يحيون في كنفها، مشيراً إلى أن هذه الضائقة دفعت الكثيرين منهم إلى اللجوء إلى المقابر لاتخاذها مسكناً بعد هدم منازلهم جرّاء العدوان الإسرائيلي الأخير، أو جراء عدم قدرتهم على دفع إيجارات باهظة، فبات أحياء غزّة يزاحمون أمواتها، وسكن القبور عملية انتقالية قبل الوصول إلى السكن النهائي في الدار الآخرة.
الحصار اضطرهم لمزاحمة الموتى
وأوضح زقوت أن الحصارِ الإسرائيلي والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سكان القطاع، اضطرت العشرات من عائلات غزة إلى مزاحمة الموتى، والعيش بجوار قبورهم في الفترة الأخيرة، فالحياة ليست سهلة، هنا كل شيء يذكر بالموت، وتُسرق منهم حتى لحظات إحساسهم بالحياة، قائلاً "إن قصة العيش في المقابر، هي دراما اجتماعية، ففي طريقك إلى المقبرة يُلفت انتباهك شواهد القبور المطلة من خلف الأسوار، لتدرك سريعاً أنك في مقبرة حيث يوجد الأموات، لكنك سرعان ما تتوقف عندما ترى الملابس الملونة المرمية على حبلٍ مشدود لتجف، تدقق النظر فترى ألواح متعاضدة تصنع ما يشبه البيت، وبعض الدجاج والبط يقفز من قبر إلى آخر، ولدوا بين الأموات في المقبرة، صور الموتى لا تغادر خيالهم حتى بعد أن يكبروا وأولادهم يرون كل يوم مشاهد الموت من الجنازات إلى العظم والهياكل العظمية التي يرونها في القبور إلى جثث الشهداء المقطعة.
وقال لا يعيشون بين القبور فقط، بل إنه في صالون بيوتهم توجد قبور، وأصحاب العمارات في مدينة غزة يمرون بالمكان ولا ينتبهون إلى الأحياء الذين يولدون ويموتون في مقبرة وتلازمهم جثث وعظام الموتى طيلة حياتهم، في المقابر يفتقر الناس لكل شيء حتى الحياة الكريمة التي هي من حق كل إنسان، الناس هنا يشبهون الأموات، أبناؤهم في الغالب يعانون من حالة نفسية صعبة، فهم محرومون من أبسط الحقوق، وهي الاستمتاع بطفولتهم حيث أنهم يتحملون المسؤولية منذ الصغر، يعرفون معاناة العمل والبحث عن لقمة العيش، معظمهم لا يدخلون المدارس ولم يتعلموا شيء، يعانون حالة نفسية تظل عالقة في أذهانهم، وتؤثر في تصرفاتهم في الحياة الاجتماعية، لأنهم تعودوا الحياة مع الموتى لا مع الأحياء، فهم في حالهم هذه يعتبرون موتى لأنهم لا يملكون بيتاً ولا علماً ولا حياة كريمة.
توفير السكن أحد الحقوق التي تقع على عاتق الحكومة
وأضاف زقوت إن السكن في المقابر يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع الفقر، لأن من يسكنوا هذه الأماكن الموحشة لم يجدوا سكناً بديلاً ملائماً، ولذلك عندما يرتبط الفقر والموت في أذهان الأطفال منذ الصغر، فهذا يدمر نفسيتهم ويخرج منهم المجرمون وقطاع الطرق والمتسولون كما نشاهد بعضهم اليوم، وكما هو موجود في الكثير من البلدان العربية كمصر وغيرها، مشيراً إلى أن علماء النفس يؤكدون بما لا يدع مجالاً للشك، أن السنوات الست الأولى من عمر الطفل، هي التي تُشكل شخصيته، وبالتالي لا يمكن أن تتغير شخصية الطفل فيما بعد حتى وإن تم تغيير مكان سكنه.
وتابع، إن من يعيشون في المقابر سواء من الكبار أو الصغار، تساوت عندهم الحياة مع الموت، ولذلك فإن مشاهدة الأطفال اليومية للجنائز وهي تأتي لتشييع جثامين الموتى، جعل المعنيان، معنى الحياة ومعنى الموت يتساويان عندهم، سيما وأنهم يرون الموت منذ نعومة أظافرهم ولا يدركون معناه، لأن معنى الموت شيء مجرد لا يدركه الطفل إلا بعد أن يصبح في سن متقدم يزيد عن 8 أو 9 سنوات.
وأكد أنه من الضرورة أن يكون للحكومة دور كبير للوقوف بجانب هؤلاء الأطفال وتوفير السكن الملائم لهم ولأسرهم اليوم، بدلاً من اضطرارها غداً إلى توفير السجون والإصلاحيات لهم عندما يصبحوا مجرمين وأصحاب سوابق، مشيراً إلى أن منع الحكومة لهؤلاء السكان من السكن في المقابر، والعمل على توفير السكن المحترم والملائم لهم، هو أحد الحقوق الأساسية التي تقع على عاتقها تجاههم.
في ضيافة الموتى
ولم يختلف حديث أبو علي عن من سبقه، بالقول "إنني وجدت نفسي وعائلتي مجبرين على ما نحن عليه اليوم، فما لنا من خيار، فالمكان يفتقر للكثير من الخدمات ومقومات الحياة الأساسية، فسكان المنطقة الأصليون لا حاجة لهم بها، وهذه المناطق ليست من أولويات البلدية.
ويتحدث أبو علي عن إقامته في منطقة المقابر بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، ويقول: "لقد عشت مع عائلتي هنا منذ سنوات طويلة حتى قبل أن تكتظ المقبرة، سواء بالموتى أو الأحياء... في بداية الأمر كنا نبعد عن مركز المدينة ونُعتبر خارجها، ولهذا غابت عنا الخدمات الأساسية، ومع تطور العمران الذي أحاط بنا من كل جانب، أصبحنا اليوم في منتصف البلد ولا شيء تغير".
المنطقة التي يقطن فيها أبو علي كانت تستخدم كمقبرة لدفن جثث الشهداء المصريين إبان حرب العام 1967، حيث كان للجيش المصري على مقربة من المقبرة معسكراً يقيمون فيه، وبعد أعوام استخدم نفس المكان لدفن أهالي المدينة، ويقول أبو علي: "مع زيادة أعداد الموتى والشهداء وجدنا أنفسنا وسط ازدحام القبور لا نعرف هل نحن في ضيافتهم أم هم الذين في ضيافتنا؟!".
مقابر للهو الأطفال ومرحهم
في العادة يلزم الأطفال متنزهات يلهون فيها، وحدائق يشتَمون عبق زهورها، وفراشات يركضون خلفها، ولكن عند سكان المقابر كل شيء مختلف، فاللعب تتشابه، والمكان يختلف، فهم يلعبون حول القبور ويتخذونها مكانا للاختباء من أقرانهم.
اعتاد هؤلاء الأطفال المكان، حتى أصبح جزءاً منهم، تربوا على مشاهد الحفر ودفن جثث الموتى، فباتت الزيارة اليومية للقبور، والدعاء للأموات هواية بالنسبة للكثيرين منهم، وأضحى المشهد بالنسبة لهم عادياً ترسخ في ذاكرتهم، إلا أن هذا كله لا يؤثر في لهوهم ولعبهم بل يزيد من خيالهم لابتكار ألعاب أخرى كل مرة، كل شيء في حياتهم ارتبط بالموت، حتى ابتسامتهم اختفت لتحل محلها هموم عميقة أكبر من أعمارهم.
الطفل حسام الذي يقف بجوار بعض الجالونات والزجاجات المليئة بالماء التي كان يسندها في ظلال أحد القبور، قال: "إحنا عايشين هان، وما بنعرف غير هذا المكان، بطلنا نخاف من القبور والميتين لأنه كل يوم بنشوفهم، ومرات كثير بنيجي نساعد الناس وبنجيب الهم مية عشان يرشوا على القبر، وبنلعب هان كمان، ولما أكون زهقان من البيت باجي ألعب مع صحابي بين القبور".
وأضاف حسام "ولكن أكثر ما بضايقني ويخليني أخجل، هو أن يسألني أحد زملائي في المدرسة عن عنوان سكني، وأنا أزور أصدقائي وزملائي في منازلهم، حتى لا أضطر إلى دعوتهم لزيارتي في منزلي وسط القبور.
45عائلة تعيش في المقابر تبحث عن مأوى
ويقول مصدر في وزارة الشئون الاجتماعية في الحكومة المقالة، إنها ليست قضية عائلة أو اثنتين يمكن العمل على حلها، بل هي قضية 45 عائلة تعيش في المقابر وجميعها تبحث عن حل من أجل إيجاد مأوى يضمن لهم العيش بكرامة هم وأبنائهم، ولكن الظروف الحالية التي يحياها الجميع بعد الحرب المدمرة، وعدم وجود مواد خام للبناء، جعلت كل شيء صعب المنال.
وبيَّن المصدر ذاته، أنه على الرغم من قسوة العيش في هذه الأمكنة والصمود أمام مستقبل مجهول، في ظل انتشار القوارض والزواحف التي تُهدد حياة البشر، إلا أننا نجد الكثير من الرجال وعائلاتهم يلجئون للعيش في المقابر، وهذا بحد ذاته يحتاج منا الكثير لمنع هذا الخطر.
وأمام هذا المشهد المأساوي الذي ازدادت وتيرته أضعافاً مضاعفة بعد الحرب الأخيرة على غزة، واعتاد الجميع دون استثناء وخاصة من تطأ أقدامهم أرض المقابر لدفن موتاهم، أو من الصحافيين لعمل تقاريرهم الصحافية، على رؤية العشرات من بيوت الصفيح والخيش، ومشهد الأطفال البالية ملابسهم، والممتدة أيديهم للتسول، لابد من وقفة جادة من قبل المسئولين، سواء كانوا في الحكومة، أو المؤسسات الأهلية، لنجدة هذه العائلات وأبنائها من براثن التشرد والفقر الذي يعيشونه، والتي بالتأكيد سيكونون عالة على المجتمع يهدد نسيجه إذا ما تحولوا إلى مجرمين وقطاع طرق.