بقلم : د. منصور النصاصرة ... 13.05.2011
تناولت الصحف المحلية والعالمية في الاونة الاخيرة اخبارا مفادها ان السلطات الاسرائيلية تنوي الاعتراف بملكية اراضي اهل النقب بعد صراعٍ مرير دام سنوات عديدة. حيث نتساءل هل مفاد هذه الاخبار ان هناك بوادر خدعة جديدة لتصفية ما تبقى من أراض تحت سيطرة اهل النقب او انه حان الوقت للبت في هذه القضية بمنتهى الجدية؟ لكن اذا ما تطرقنا بحذر شديد الى هذه الاخبار التي تناولتها الصحف العبرية بالذات سنرى ان الخطة المسماة بوثيقة برافير ما هي الا خطوة التفافية للسيطرة على ما تبقى لاهل النقب من أراضٍِِ، وتصفية قضية القرى غير المعترف بها. فالسلطات الاسرائيلية لم تاخذ عرب النقب وقضية الاعتراف بملكية اراضيهم بمنتهى الجدية منذ عام النكبة فهي متمسكة بقانون الاراضي العثماني لعام 1858 كدليل وحيد لتبرير موقفها. سنتطرق في هذه المقالة إلى قضية مُلكية الأرض في جنوب فلسطين منذ اواخر فترة الدولة العثمانية, الانتداب البريطاني ومن ثمّ تحت ظل السلطة الاسرائيلية لنبيُّن كيف تعاملت هذه الدول على مر العصور مع هذه القضية الشائكة. سنعتمد في تحليلنا على مصادر اولية تضم مقابلات ووثائق من الارشيفات البريطانية والاسرائيلية.
الاتراك وكيفية تعاملهم مع ملكية الارض في القضاء الجنوبي لفلسطين:
انتشرت القبائل والعشائر البدوية السبعاوية في جنوب فلسطين منذ عقود طويلة. حيث كانت شبه مستقلة دون اي تدخل مباشر في شئونها من الحكومة العثمانية. لم يبد الاتراك اهتمام كبير بملكية الاراضي في اقطار امبراطوريتهم الا في نهاية القرن التاسع العشر تزامنا مع فترة التنظيمات. فقد سن الاتراك ما يسمى بقانون الاراضي لعام 1858 كجزء من سياسة التنظيمات التي ضمت جميع مرافق الدولة العثمانية. حيث نص القانون العثماني الى تقسيم الاراضي الى خمسة انواع: الاراضي الملك, الاراضي الاميرية, الوقف, المتروكة واراضي الموات. رغم هذا القانون فيبدو ان الاتراك لم يعملوا جاهدين على تطبيقه في المناطق التي كانت مأهولة باهل البادية او لم تكن تحت سيطرتهم المباشرة كما الحال في جنوب فلسطين. حيث جاء في احد التقارير التي عثرتُ عليها في الارشيفات البريطانية ان الاتراك لم يسعوا جاهدين في تطبيق قانون الاراضي بشكل منتظم في جميع انحاء سيطرتهم. رغم ذلك فنجد ان الكثير من البدو في جنوب فلسطين وشرقي الاردن قاموا بتسجيل اراضيهم في الطابو العثماني وما زالوا يحملون صكوك عثمانية حتى يومنا هذا.
يشار الى ان السلطة الاسرائيلية تعتمد في رفضها الاعتراف بملكية اراضي البدو في النقب بإدعائها أنها أراضي موات أو أراضي دولة وهذا ادعاء عارعن الصحة. سنرى ان الارشيفات البريطانية تبين ضعف الادعاء الاسرائيلي في هذا المجال حيث اثارت بعض وثائقها ان عدد لا يستهان فيه من بدو بئر السبع سجلوا اراضيهم في الطابو وقاموا ايضا بدفع الضرائب بشكل منتظم للحكومة العثمانية. ذكر تقرير ارشيفي عثماني من عام 1907 (وجد في مركز المحفوظات البريطاني) ان بدو بئر السبع في تلك السنة (1906-1907) دفعوا ضريبة العُشر على أراضيهم ومواشيهم وقدرت ب 30000 ليرة. هذا التقرير ُيناقض بكل وضوح الرواية الاسرائيلية ان لا ملكية قانونية لاهل النقب على أراضيهم. فقد دفع البدو ضريبة العشر على مواشيهم واراضيهم وهذا يظهر حالياً في تلك التقارير الارشيفية.
احد الادلة على ملكية اراضي بئر السبع ذكرته حديثاَ الكاتبة التركية ياسمين افتشي اتية بالدليل من ارشيفات اسطنبول. فقد ذكرت الكاتبة ان الحكومة العثمانية اقتنت 2000 دونم في عام 1900 من شيخ قبيلة العزازمة حسن الملطعة من اجل اعادة بناء مدينة بئر السبع (انظر الصورة المرفقة لبئر السبع من عام 1901). وهذا بالطبع ما اكده عارف العارف في كتاباته الكثيره وبالذات في يومياته الموجودة في جامعة اكسفورد.
ُتبين وثيقة عثمانية اخرى من العام 1913 ان الشيخ حماد الصوفي شيخ قبيلة الترابين- ورئيس بلدية بئر السبع انذاك- قام بارسال برقية الى الوالي العثماني نديم باشا يحذره فيها من اي مس بملكية الاراضي البدوية في بئر السبع. فقد حذر حماد الصوفي في التقرير الحكومة العثمانية من المس بملكية اراضي البدو في الجنوب الفلسطيني والا سوف يتم اعلان الثورة ضدهم. فبعد تحذير حماد الصوفي للقائم مقام نديم باشا اتفق الطرفان على ان تعترف الحكومة العثمانية بملكية ارض قبيلة الترابين كما هو متعارف عليها. ذكر التقرر ان الاختلاف بين حماد الصوفي والحكومة العثمانية على ملكية الارض ادى الى ارسال حملة تاديبية مكونة من بعض الجندرمة التركية لإرغام قبيلة الترابين للانصياع لأوامر الحكومة دون نجاح يذكر. يشار الى انه وفي نفس العام قام الاتراك بمسح فريد من نوعة لاراضي قضاء بئر السبع وإصدار خريطة تضُم كل قبائل جنوب فلسطين ومكان انتشارها واراضيها. بذلك فقد اصدر الأتراك اول خريطة مفصلة تضم غالبية قبائل قضاء بئر السبع وتبين مكان انتشارها وملكيتها للاراضي بشكل واضح. دلت الخريطة بكل وضوح مكان انتشار القبائل في الجنوب الفلسطيني مما يُبرز دون شك سيطرة القبائل على المنطقة.
فبموجب ما ذكرنا من وثائق وأدله فقد كان هناك كما يبدو صراع مستمر بين الاتراك والبدو حول ملكية الارض لكنهم لم يمسوا بملكية اراضي قضاء بئر السبع ويبدو إنهم حسبوا حساب للمشايخ واخذوا بنصيحتهم في هذا المضمار.
الانتداب البريطاني يعترف بملكية بدو قضاء بئر السبع على اراضيهم!!!
احتل الانجليز جنوب فلسطين عام 1917 واخذوا من بئر السبع مركزا استراتيجيا لهم. حرص الانجليز كثيرا على ان لا يتدخلوا في شؤون البدو الداخلية وبالذات في ما تعلق في قضية الارض. فقد قام الانجليز بالاعتراف بملكية اراضي بدو جنوب فلسطين دون الطلب منهم تسجيلها. جاء على لسان اللورد اكسفورد حاكم بئر السبع في الاربعينات من القرن الماضي اثناء مقابلة اجريتها معه ان الانجليز لم يقوموا بفتح اي مكاتب لتسجيل الاراضي في بئر السبع على غرار ما فعله الأتراك من قبل. من الواضح ان الانجليز لم يقوموا بتطبيق قانون الاراضي العثماني بعدم سعيهم لفتح اي مكتب لتسجيل الاراضي في قضاء بئر السبع. وهذا واضح كل الوضوح حيث تذكر مستندات مركز المحفوظات البريطاني ان ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني قام بزيارة الى النقب واجتمع مع المشايخ في بئر السبع عام 1921 واعترف بملكية اراضيهم دون ان يطلب منهم تسجيلها في الطابو. فهل اعتراف تشرتشل لا يكفي لاقناع المحاكم الاسرائيلية بملكية البدو لاراضيهم في النقب؟ هذا فبالاضافة الى وثيقة تشرتشل هناك عدة وثائق تدل ان عرب النقب طالبوا بالاعتراف بملكية اراضيهم دون اي كلل. ففي عام 1937 بُعثت برقية من مشايخ قضاء بئر السبع (مذيلة باسم الشيخ عزت العطاونة) الى لندن مطالبين الانجليز بالاعتراف بمكلية اراضيهم وبتخفيض الضرائب المستحقة عليهم نتيجة الاوضاع الاقتصادية الصعبة في جنوب فلسطين.
يذكر ان عرب النقب قاموا بعمل مماثل في مؤتمر الشريعة عام 1935 ( في مضارب عشيرة الشيخ الحاج ابراهيم الصانع) حين التقوا بالحاج امين الحسيني وتم اخذ عهد على ان اراضي جنوب فلسطين هي اراضي وقف اسلامي ويمنع المساومة عليها مهما كلف الامر.
لم يتوقف نشاط البدو في سبيل الاعتراف باراضيهم حيث التقوا بالمندوب السامي البريطاني عام 1937 في القدس كما ذكرت صحيفة فلسطين بوست من تاريخ 01-05-1937. فقد ضم وفد مشايخ بئر السبع الذين التقوا بالمندوب السامي البريطاني كل من: الشيخ فريح ابو مدين, حسين ابو ستة, حمد الصانع, عبد ربه ابو الحسين, حسن ابو جابر, حسن الوحيدي, موسى ابو معيلق, عيد ابن ربيعة, سلامة ابن سعيد, عديسان ابو عبدون’ عبد الله ابو ستة, حسن العطاونة, وموسى ابو شنار. فقد حمل المشايخ رسالة واضحة للمندوب السامي البريطاني مطالبين بالاعتراف بملكية اراضيهم كما هو متعارف عليها عند البدو وعدم المس بملكية الارض في قضاء بئر السبع. يظهر جليا بان بدو جنوب فلسطين في هذه الفترة انتزعوا اعتراف الحكومة الانتدابية باراضيهم ولم يساوموا عليها كما اتهمهم البعض, فكل هذه الامثلة تدل على انهم قاموا بجهود جبارة وموفقة للحفاظ على ملكيتهم للارض وهذا واضح جدا من طلباتهم العديدة الذي بعثوها لحكومة الانتداب.
السلطات الاسرائيلية تتمسك بقانون الاراضي العثماني لتبرير رفضها ملكية بدو النقب للارض ؟
سنتطرق الان الى كيفية تعامل السلطات الاسرائيلية مع هذا القضية بعد 63 عام من النكبة وهل يوجد هناك حل في الافق او ان وثيقة برافير هي الوثيقة الرسمية لتصفية ادعاءات الملكية في الجنوب النقباوي؟ منذ النكبة وقيام دولة اسرائيل لم يتبقى الا القليل من الاراضي تحت سيطرة قبائل بئر السبع. كما ذكرت الكثير من الابحاث الاكاديمية فقد نزح وهجّر غالبية البدو الذين قطنوا قضاء بئر السبع ولم يتبقى منهم الا نسبة لم تتعدى ال 10 بالمائة. فقد واجه البدو المتبقيين عمليات تهجير من النقب الغربي الى منطقة السياج المغلقة وبهذا فقد خسروا غالبية اراضيهم الخصبة وملكيتهم عليها. منذ عام النكبة لم تعترف اسرائيل بملكية البدو للارض رغم احتفاظ الكثيرين منهم بصكوك بريطانية وعثمانية التي تحدد بعبارات قانونية تلك الملكية وتستند الى قانون الاراضي العثماني للعام 1858, والمرسوم البريطاني بشأن الارض البور للعام 1921. لكن يبدو ان السلطات الاسرائيلية لم تعير تلك القوانين اي اعتبار حيث ان الارض المسجلة او الغير مسجلة التي يمتلك اصحابها وثائق او لا يملكون صودرت جميعها بموجب قوانين سُنت خصيصا لهذا الغرض. يملك الكثير من البدو في هذه الايام صكوكا عثمانية وانتدابية تثبت دفعهم للضرائب وتبين ملكيتهم للارض. لكن السلطات الاسرائيلية تدّعي أن هذه الوثائق التي يحملها البدو تعود الى العهد التركي وهي ليست دليلا للملكية لان اراضي البدو هي اراضي دولة, هذا بالاضافة الى محاولة اسرائيل الربط بين ملكية الارض واملاك الغائبين.
لم يستسلم البدو لهذا القدر الذي رسمته السلطات الاسرائيلية حين قاموا بتقديم الالاف من ادعاءات الملكية منذ سنوات الخمسينات (اخرها كانت قضية اراضي قرية العراقيب التي هدمت مرارا وتكرارا). فمنذ ايام الحكم العسكري قام البدو ممثلين بمشايخهم بطرق ابواب السلطات والمحاكم الاسرائيلية للاعتراف بملكيتهم للارض دون جدوى. تشير الارشيفات الاسرائيلية ان البدو حصلوا على وعود بعدم المس بملكية ارضهم خصوصا بعد عام 1948. هذا بالاضافة الى ان البدو الذي تم ترحيلهم من المنطقة الغربية في النقب حصلوا على وعود بالعودة الى اراضيهم, لكنهم سرعان ما اكتشفوا ان عودتهم الى ارضهم هي مسألة شائكة وستاخذ سنوات طويلة. تثير وثائق ارشيفية اسرائيلية بوضوح ان البدو الذين هُجروا من المنطقة الغربية الى منطقة السياج (السياج او المعزل هو اسم اطلق على المنطقة التي تم تركيز البدو فيها تحت الحكم العسكري في شمال شرق النقب ولا تمثل هذه المنطقة سوى 10% من الاراضي التي كانت تحت سيطرة القبائل البدوية قبل عام النكبة) ارسلوا طلبات مختلفة للحكومة الاسرائيلية للسماح لهم بالعودة لاراضيهم الذي استولى عليها الوصي على اموال الغائب لكن دون جدوى. فعلى سبيل المثال فقد بعث بعض مشايخ النقب في عام 1950 برقية للحاكم العسكري ميخائيل نيقبي مطالبين السماح لهم بالعودة لاراضهم التي اصبحت منطقة مغلقة او بالاحرى كما يطلق عليها اهل النقب بالمنطقة المحرمة. هذا ولم يسمح ايضا للبدو بالعودة الى اراضيهم في النقب الغربي لجمع ما تركوا من متاع وتمت السيطرة عليها من قبل الوصي على املاك الغائب.
ازدادت محاولات عرب النقب بالضغط على السلطات الاسرائيلية بالاعتراف بملكية اراضيهم في بداية الستينات عندما وضعت خطط الاستيطان القسري. فقد راى البدو ان توطينهم القسري سيكون بمثابة دق المسمار الاخير في نعش ملكية اراضيهم. ففي حزيران من العام 1965 وقع 18 من مشايخ النقب على عريضة للاعتراف باراضيهم بعثوا بها لرئيس الحكومة انذاك ليفي اشكول. ذكر المشايخ في العريضة ان البدو حصلوا على وعود بعد عام 1948 بعدم المس باراضيهم لكن يبدو ان هذا لم يتحقق بعد. وكما بين المشايخ في العريضة ان البدو اصبحوا لاجئين في ديارهم كون الحكومة لم تسمح لهم بالعدوة الى اراضيهم او حتى بفلاحتها. لذلك فقد الح مشايخ بئر السبع على تسوية ملكية الارض قبل ان يتم تطبيق خطط الاستيطان القسري. ردت الحكومة على هذا العريضة بالاجتماع مع مشايخ عرب النقب وما يقارب 60 من ممثليهم في بئر السبع بحضور مستشار رئيس الحكومة للاقليات شموئيل توليدانو وشلومو شامير مدير دائرة اراضي اسرائيل انذاك. اما نتيجة الاجتماع فكانت اقامة لجنة وزارية (لم تختلف كثيرا عن لجنة غولدبيرغ او برافير الحالية) للبت في ادعاءات ملكية البدو لكن دون تقدم ملموس.
يبدو ان الحكومة الاسرائيلية وبعد بعد 63 عاما لم تكن جادة في تعاملها مع قضية الارض ولم تكن لتعترف باي ملكية لعرب النقب على ارضهم. فهي ما زالت تماطل في هذا الموضوع منذ النكبة رغم مطالبة البدو بحقهم التاريخي دون كلل. لذا فوثيقة برافير ما هي الا اطار جديد لصورة قديمة, حيث اثبتت السنين الزائفة ان اسرائيل لم تعترف بملكية حتى جزئية لاهل النقب. من الواضح ان وثيقة برافير أتت لتصفية قضية ملكية الارض وتهويد صراع اهل النقب ورفض الاعتراف بقراهم ال غير معترف بها. فقبول مخطط برافير هو بمثابة الاعتراف بان البدو لم يكونوا اصحاب ملكية يوما ما. فلو كانت السلطات جادة في هذا المجال لاعترفت بملكية ارض اهل النقب كما فعل الاتراك والانجليز من قبل دون اللجوء الى طرق التفافية او تبرير موقفها بقوانين الأراضي العثمانية الذي لم يطبقه العثمانيين انفسهم اصلا.
*الصورةالمرفقه :هذه الصورة التقطت عام ال 1901مباشرة بعد اتمام بناء سرايا بئر السبع واقتناء الارض من قبيلة العزازمة (نقلت مركز المحفوظات البريطاني- لندن).
الهوامش:
1. PRO, FO 195/2255وثيقة نقلت عن مركز المحفوظات البريطاني-لندن
2. (PRO, FO 195/2452/1153)وثيقة نقلت عن مركز المحفوظات البريطاني-لندن
3. PRO/337/20وثيقة نقلت عن مركز المحفوظات البريطاني- لندن
4. PRO, CO 733/344/4وثيقة نقلت عن مركز المحفوظات البريطاني- لندن
5. Palestine Post 01-05-1937
6. وثائق الارشيف الاسرائيلي- القدس