بقلم : د.فيصل القاسم ... 10.04.2011
سيادة الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، سيادة الرئيس المخلوع حسني مبارك. أعتذر منكما أولاً على مخاطبتكما بلقبي "الهارب" و"المخلوع"، فهذان اللقبان، على علاتهما، يبقيان معقولين مقارنة بالألقاب التي سيغدقها التاريخ على بقية الحكام العرب الذين سيلحقون بكما قريباً إن شاء الله.
لا يسعنا يا سيادتي الرئيسين إلا أن نقف لكما إجلالاً وإكباراً على الطريقة التي هربتما وخلعتما بها، فمن نكد الدنيا على العرب أنهم أصبحوا مضطرين للمفاضلة بين حكامهم السيئين جداً أولاد الستين ألف.....من أمثالكما، وحكامهم السيئين جداً جداً جداً أولاد المائة وستين ألف...من أمثال الذين تريدهم شعوبهم أن يرحلوا، وهم يصرون على البقاء في عروشهم حتى لو أبادوا الملايين من مواطنيهم، وحوّلوا بلادهم عصفاً مأكولاً.
قد يبدو الأمر نكتة سمجة أن نقارن بين السيئ جداً والأسوأ منه بقناطير في عالمنا العربي، لكن، لا حول ولا قوة إلا بالله، فنحن غدونا مضطرين لأن نتبارك بحضرتي مبارك وزين العابدين، لا لشيء إلا لأنهما تركا الحكم بأقل قدر ممكن من الدماء.
يا الله كم كان هروب زين العابدين سلساً وطيباً. لقد قاوم الرجل لأربعة أسابيع تقريباً في مواجهة المنتفضين التونسيين، لكنه سرعان ما عبر عن تفهمه الكامل لكل شرائح شعبه قائلاً بلهجته التونسية "أنا فهمتكم.. فهمت الجميع: البطال والمحتاج والسياسي واللي طالب بمزيد من الحريات، فهمتكم، فهمتكم الكل". ولم يكتف الرجل باعترافه بتفهم متطلبات شعبه كاملة، بل شعر بتأنيب ضمير عالي التوتر بعد ذلك بأيام قليلة، ففر هارباً من البلاد بعد أن وجد أنه لم يعد مرغوباً به أبداً من قبل الشعب التونسي الثائر. والشكر موصول هنا للجيش التونسي العظيم الذي نصح بن علي بأن الخروج من البلاد هو الحل الأمثل، لأن الجيش ليس مستعداً لإطلاق رصاصة واحدة على الشعب التونسي. وعندها هرع الرئيس إلى المطار بمساعدة شركة أمن إيطالية استأجرها بعد يوم من استيلائه على السلطة قبل ثلاثة وعشرين عاماً كي تهربه خارج البلاد في حال حدوث ثورة أو انقلاب عليه.
صحيح أن جماعة بن علي حاولوا القيام ببعض أعمال التخريب بعد رحيله بمساعدة زعران القذافي ومرتزقته، لكن الشعب التونسي وضع حداً سريعاً لحالة الفوضى لتعود البلاد إلى طبيعتها خلال أيام قليلة بأقل قدر من التخريب وسفك الدماء. والأجمل من ذلك، أن عملية الإصلاح بدأت بوتيرة عالية، وقطعت شوطاً كبيراً لتتحول تونس إلى مثل عربي رائع في التحول الديموقراطي الحقيقي.
صحيح أن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أحرق أعصاب المصريين والشعب العربي عموماً بخطاباته التي كان يصر فيها على التمسك بالسلطة رغماً عن صيحات ملايين المحتجين في ميدان التحرير وغيره من المناطق المصرية، إلا أن الرجل، وبعد أن رفض الجيش المصري بدوره، أن يتحول إلى عصابة قتل تحت إمرة الرئيس، قرر مبارك التنحي. وصحيح أيضاً أن بلطجية الرئيس وحزبه عاثوا خراباً ودماراً في مصر أثناء الثورة، وصحيح أن المئات من المصريين قضوا نحبهم في خضم الاحتجاجات على أيدي أجهزة الأمن وبلطجيتها، إلا أن الأمر لم يطل كثيراً حتى بدأت الأوضاع تستقر شيئاً فشيئاً بأقل الخسائر. إنه شيء طيب للغاية أن لا يسقط من المصريين سوى بضعة مئات من الشهداء إذا ما قسنا الضحايا على عدد الشعب المصري الهائل. وها هي مصر العظيمة بعد مبارك تتحول إلى دولة ديموقراطية حديثة بسرعة البرق.
يا الله كم أنتما رائعان يا زين العابدين ومبارك مقارنة بالقذافي مثلاً، فبدلاً من أن يستمع هذا الطاغية إلى أصوات شعبه الثائر، راح يصف الثوار بالمهلوسين والجرذان والحشرات، وتوعد بملاحقتهم وسحقهم في كل زنقة فرداً فرداً. ولما وجد أن جيشه غير قادر تماماً على القيام بتلك المهمة القذرة، بدأ يستعين بألوف المرتزقة والمجرمين من إفريقيا كي يساعدوه على سحق شعبه والتنكيل به. لقد حاول الشعب الليبي أن يتشبه بالشعبين التونسي والمصري بأن تكون انتفاضته سلمية تماماً، لكن القذافي أبا إلا أن يحولها إلى انتفاضة عسكرية، فوجد الشعب الليبي نفسه مضطراً لحمل السلاح لمواجهة ذلك المجنون. وقد كانت النتيجة ألوفاً من القتلى والجرحى ودماراً رهيباً للمدن والقرى الليبية التي دفع عليها الشعب الليبي مليارات الدولارات كي يبنيها. لقد حوّل القذافي بلده إلى اثر بعد عين بترسانته العسكرية الرهيبة كي يبقى جاثماً على صدور الليبيين هو وعائلته. وليت الأمر بقي في إطار الدمار والخراب، بل ها هي ليبيا وقد أصبحت تحت انتداب عسكري دولي بسبب تعنت القذافي ومغامراته الطائشة، ويمكن أن تتفتت إلى دويلات. تصوروا أن ذلك النيرون توعد بتحويل بلاده إلى جهنم إذا لم يبق في السلطة، على مبدأ: أنا أو الدمار.
وها هو علي عبد الله صالح يسير على خطا صديقه اللدود القذافي، فبالرغم من أن الثورة اليمنية استنزفت البلاد مالاً وعتاداً ودماً واقتصاداً، إلا أن طالح ما زال يتمسك بزمام السلطة بأسنانه. وبدل أن ينفق على شعبه المنكوب راح ينفق الميزانية على تسيير مسيرات مؤيدة له، إذا أفادت التقارير بأنه كان يدفع ملايين الدولارات يومياً من أجل دفع الناس للخروج في مظاهرات تأييداً له. لا شك أن طالح حاول أن يورط شعبه في حرب أهلية كما فعل القذافي، لكن الشعب اليمني العظيم كان يترك أسلحته في المنازل ثم يخرج إلى المظاهرات كي تكون ثورته سلمية تماماً كما في تونس ومصر، وبذلك قطع الطريق على محاولات الرئيس طالح الزج بالبلاد في أتون حرب تأتي على الأخضر واليابس كي تمكنه البقاء في السلطة.
ويبدو أن بقية الحكام العرب يفضلون الطريقة القذافية في التعامل مع الثورات الشعبية، فبدل أن يستجيبوا لمطالب الجماهير العادلة بالحرية والكرامة والعيش الكريم، فإنهم يخططون لإشعال البلاد ناراً ودماراً وخراباً انتقاماً من الشعوب التي ثارت على طغيانهم وفسادهم. فها هي جيوشهم وكلاب صيدهم التي استنزفت ثروات البلاد، ها هي وقد بدأت تتحضر لمواجهة كسر عظم مع الشعوب بكل أنواع الأسلحة. لا بل إن البعض مستعد لأن يحرق البلاد، ويقسمها إلى دويلات طائفية وقبلية وعشائرية من أجل البقاء في السلطة أو الثأر من شعبه الثائر. بعبارة أخرى هناك من هو جاهز للبقاء في الحكم على جبال من جماجم شعبه مردداً مقولة القذافي: "أنا أو جهنم"
لا أدري لماذا لا يحذو بقية الحكام العرب حذو تونس ومصر،أم إن قدر شعوبهم أن تجرب كل شيء على جلودها.
ألم يكن أفضل للقذافي ومن يسير في ركبه ألف مرة أن يخرج من ليبيا كما فعل مبارك وزين العابدين؟ ألم يكن أحرى بالرئيس اليمني طالح أن يتنازل لشعبه الثائر؟ أليس من الأفضل بالنسبة للبقية أن يتقاسموا السلطة مع شعوبهم بدل حرق بلادهم انتقاماً وصلفاً؟ إن من يلجأ إلى الثأر والانتقام يجب أن يحفر قبرين أحدهما له وآخر لخصمه، كما يقول اليابانيون، فما بالك إذا كان ذلك الخصم الشعب بأكمله.
قد تطول وحشية القذافي وطالح وكل من لف لفهما بحق شعوبهم، لكن الشعوب ستنتصر في نهاية المطاف في القريب العاجل. وحتى لو لم تنتصر تماماً فإنها وضعت أساساً متيناً لثوراتها اللاحقة، خاصة وأنها تخلصت من أخطر قيودها ألا وهو الخوف، فأصبحت في غاية الشجاعة. وكما يقول أحد الفلاسفة فإن الشجاعة أعظم الفضائل، لأنه من دونها لا يمكن للمرء أن يستغل الفضائل الأخرى.
طوبى للشعوب الباسلة، مرحى لزين العابدين بن علي وحسني مبارك، تحية إجلال للجيوش وأجهزة الأمن العربية التي انحازت لشعوبها، ورفضت أن تكون رأس حربة في أيدي الطغاة، وسحقاً للذين يريدون أن يحرقوا أوطانهم من أجل البقاء على العروش. نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل.