بقلم : رشاد أبوشاور ... 27.6.07
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قتله، ومتي قتله
ورؤوس الناس علي جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات علي جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك
هذا مقطع الختام في قصيدة الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور (الظل والصليب)، استعدته من الذاكرة، ثم عدت وقرأت القصيدة، ووجدتني أردده لنفسي في الأيام الأخيرة ثقيلة الوطء:
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك
وكم وددت لو أستطيع إيصال صوتي حاملا هذه الكلمات التحذيرية، لكل كاتب، ومثقف، وصحافي، وإنسان عادي فلسطيني:
تحسس رأسك
لستُ أُحذر من خطر يتهددنا كأفراد، كما قد يتبادر إلي الأذهان، ولا خوفا من رصاصة أحمق مجنون محقون الرأس بفكرة واحدة، تغلق رأسه وتحيله قنبلة جاهزة للانفجار في من يؤمر بتصفيته، أو يستشم من كلامه أنه نقيض لتلك الفكرة التي حقنت بها رأسه.
فتحسس رأسك هي دعوة للاحتفاظ بالعقل مفكرا، متسائلا، مجادلا، متشككا، ساعيا لبلوغ الحق، ومعرفة الحقيقة.
في حالتنا الفلسطينية، التي بات يسيطر عليها الجنون والطيش والعصبية، لا بد لمن يحترم آدميته من الاحتفاظ برأسه يقظا، لا برأس حيوان علي جسد بشر، يمسخه الجهل حيوانا، والجهل ليس وقفا علي بشر بعينهم، وخطاب سياسي بعينه.
من خبرتي في الحياة، بت لا أستغرب كيف يتحول معتنق الفكرة بعصبية إلي وحش يتصرف غريزيا، يفترس، يتهم، يحقد علي من يختلف معه في الرأي، ولو في تفصيلة صغيرة.
سأدخل في الموضوع بعد هذا التقديم.
الكاتب الفلسطيني، المنخرط في الشأن الوطني الفلسطيني ـ هناك كتاب، وصحافيون، وأكاديميون ومثقفون فلسطينيون، فلسطين لا تعنيهم كثيرا، ولا تأخذ من (وقتهم) سوي القليل القليل، ترفعا منهم عن (السياسة)! انطلاقا من مصالحهم الضيقة في كل الأحوال! ـ يخسر كثيرا، فهو لا يرضي الفصائل الكثيرة، المتباينة، المتناقضة، وبخاصة في هذه المرحلة، وتحديدا أتباع (حماس) و(فتح) ومشايعيهما.
سأعيد إلي ذاكرة القراء بعض مواقفنا في السنوات الأخيرة.
بعضنا حذر من اتفاقات (أوسلو) ورأي فيها فخا محكما، وكمينا أمريكيا، اسرائيليا، وعربيا رسميا، ولهذا لم يزاحم علي مكسب شخصي في حميا السباق الذي أعقب تأسيس السلطة.
عندما انقضت أجهزة أمن السلطة علي قيادات (حماس) أدنا هذه الممارسات، ودافعنا عن (مجاهدي) حماس، من منطلق رفضنا للقمع، وتكميم الأفواه، وقمع حرية الرأي، والاجتهاد في اختيار الأسلوب الأنسب للمقاومة.
لما فازت (حماس) في الانتخابات الديمقراطية ـ تحت الاحتلال، وفي ظل سلطة أوسلو ـ تفاءلنا بأنها ستنجز المهمات التي انتخبت لها، وتفهمنا العقاب الذي أنزلته جماهيرنا في الضفة والقطاع والقدس الشرقية بمن اثروا، ونهبوا، وفسقوا، وفسدوا.
لم ننطلق من كراهية لفتح، فالعلاقة بين الكاتب وحزب ما، أو فصيل ما، أو اتجاه سياسي ما، لا يحكمها الحب والكراهية، ولكن القناعة بما تطرحه من أفكار، وتمارسه علي الأرض.
لم نكن قريبين من حماس، فأنا ـ ولأتحدث عن نفسي مباشرة ـ لا ألتقي مع حماس إلا في خيار المقاومة، وليس سرا أنني أنتمي لتيار قومي يؤمن بوحدة الأمة، وبأن فلسطين هي صراع وجود لا صراع حدود، وأن حرية الإنسان وكرامته هي فوق كل اعتبار.
نحن نلتقي إذا ما دامت تجمعنا (المقاومة)، ولذا حين تشبثت (حماس) بالسلطة وصار خيار المقاومة (علي الريحة) افترقنا، ورأيت في الصراع مع الأجهزة و(الأسلويين) صراعا علي السلطة، وكأن السلطة هي نهاية المطاف، وغاية الأمل ومنتهاه.
ليس غريبا أن أتلقي من الاتجاهين المشايعين لحماس وفتح تهما، بحيث أجدني في تقاطع نيران، أو اتهامات، لأنني أنتقد الطرفين، فكل طرف لا يرضي بأقل من تمجيده، والتسبيح بحمد أفعاله، والتغني بتكتيكاته السياسية، وممارساته التي لا يأتيها الباطل.
أيها السادة: لنا عقول نميز بها، ولنا عمر في النضال الوطني، نحن لسنا وافدين، ولا تابعين، ولسنا موظفين عند أي طرف، وهذه مناسبة أن نتحدي أي جهة علي هذه الأرض مددنا يدنا لها، والتمسنا رشوتها، أو دعمها، أو رعايتها.
هناك صحافيون معروفون بكتاباتهم المأجورة، ومقالاتهم التي تمجد بحسب المبلغ المرسل لهم، وهؤلاء يشترون ويباعون، وهم مرتاحو الضمائر لسبب بسيط أنهم استأصلوها كما تستأصل الزائدة الدودية!
هل دافع أحد عن حماس أكثر من عبد الباري عطوان، أو كاتب هذه السطور، عندما تعرضت للملاحقة والمطاردة وسجون السلطة؟!
مع ذلك انظروا إلي مواقع الإنترنت.
أحزنني أن أحدهم يكتب: كنت أقرأك (إنجيليا، ولكنني لن اقرأ لك بعد اليوم!.. ول : أين: وجادلهم بالتي هي أحسن؟!)
قارئ يكتب: هذا يقبض من (حماس) فيرد عليه واحد من حماس: هذا يقبض من فتح!
سذاجة، وسطحية، ورثاثة تفكير، فكأن القوم وجهان لعملة واحدة في ردود الفعل، فلا محاكمة عقلية، بل عصبية قبلية.. لقد تحولت التنظيمات إلي عشائر بعصبية جاهلية جهول!
ازداد شتمنا في الأيام الأخيرة لأننا رفضنا خطيئة (حماس) في غزة، ورأينا فيها عملا طائشا،غير محسوب، وأدنا جرائم القتل والإعدامات بدون محاكمات، ولا قضاء، ولا قانون، وتشويه سمعة المناضلين بدون إثباتات، ولأننا قلنا: ما دمتم تحكمون بالإعدام علي من يختلفون معكم، ألا يكون من حق غيركم أن يعدمكم ؟!
وقلنا: التخلص من عسف الأجهزة لا يكون هكذا.. وأدنا حرق بيت الدكتور عزيزالدويك، واختطاف أعضاء حماس من بين ذويهم في الضفة، و..الحملات المتبادلة علي فضائيتي (الأقصي) و(فلسطين)... أهذا هو الإعلام الفلسطيني؟ أهذه خبراته؟ أهذه نزاهته ومصداقيته؟ أم تراه الحقن، والحقد، والبروبوغندا الموجهة المليئة بالأكاذيب، وبث الفرقة؟
حقا:
فتحسس رأسك
لا،لا يمكن أن نكون مع أو ضد.. نحن مع فلسطين، لا معكم، معها قبلكم، وبعدكم لأنها هي الباقية قضية ووطنا.
عندما انقسمت فتح عام 83 وقفت مع وحدة فتح، وقلت للمنشقين مع كثيرين: الشعارات الصحيحة لا تمنحكم مبررا للانشقاق. أنتم لن تغيروا، ولكنكم تدمرون. حوصر بيتي، ولوحقت و..اضطررت للرحيل عام 88 والاستقرار في تونس.. ومن بعد رحلت إلي ليبيا ـ لم أجد مكانا يستقبلني غيرها، احتجاجا علي اغتيال فنان الشعب والقضية الصديق ناجي العلي ـ أين ذهب المنشقون؟ وما هي نهايتهم.
واليوم ندافع عن فلسطين: لا عن حماس، ولا عن فتح .. لأن لنا رؤوسا تفكر، وترتفع بكرامة ...
فلسطين ليست لكم.. غزة لا يجوز أن تختطف كما لو أنها طائرة وليست جزءا من وطن. الضفة لا يجب أن تدار علي مقاس منتفعي (أوسلو) السعداء بما اقترفته حماس في غزة.
بين أكتافنا رؤوس فيها عقول لا مقولات جاهزة، لذا نقول لكم: ما تفعلونه في (غزة) و(الضفة) غير شرعي، فالشرعية تمنحها، فلسطين، وفلسطين محتلة، أسيرة، محاصر شعبها .. وأنتم والله بتم سبب محنتها، ومجلبة عارها.. أنتم تُحَيونُون أتبعاكم، تبدلون رؤوسهم البشرية و..تطلقونهم علينا .. أقصد علي شعبنا الفلسطيني، في غزة والضفة، وفي المنافي والشتات، أنتم فجعتمونا بكم.
ولأن لنا رؤوسا، فإننا ندعو كل أبناء وبنات شعبنا لرفض الاستجابة لشق شعبنا، وتوحيد الطاقات بالكلمة، والفعل.. للخروج من هذا الكابوس، والإطلالة علي العالم بوجه الفلسطيني الفدائي، المقاوم.. فلسطيني الانتفاضة.. لا فلسطيني الفضائيات الحاقد الذي يطل عبر الشاشة برأس ووجه وحش بشع الكلام والملامح مهما تمكيج.