أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
هل مات الشعور القومي بعد هزيمة حزيران !

بقلم :  د. فيصل القاسم ... 1.7.07

من المعلوم أن الروح العربية القومية تتعرض منذ ظهورها في بداية القرن الماضي لمؤامرة تلو الأخرى. وقد جاءت اتفاقية (سايكس-بيكو) التي شرذمت العرب إلى كيانات هزيلة، جاءت للقضاء على الشعور القومي العربي وقتله في مهده. ثم تلاها (وعد بلفور) الذي زرع إسرائيل في فلسطين كمحاولة لدق إسفين بين المغرب والمشرق العربيين والحيلولة دون التقائهما لا جغرافياً ولا شعبياً. وعندما حاول جمال عبد الناصر لم شمل العرب تحت لواء واحد شنـّوا عليه عام 1956 "العدوان الثلاثي" الذي اشتركت فيه إسرائيل وبريطانيا وفرنسا. ثم تلته حرب سبعة وستين لدق المسمار الأخير في أي محاولة لإحياء الشعور القومي. وقد ساهمت بعض الدول العربية وقتها في تمويل المؤامرات التي تعرضت لها العروبة بحجة أن الإسلام مقدّم عليها.
لكن يبدو أن كل تلك المؤامرات لم تأت أوكلها، فكان لا بد من تحريض العراق على الكويت لتعميق الشرخ بين أبناء الأمة الواحدة، فجاء الغزو العراقي للكويت لينتج عنه مزيد من التمزق القومي. صحيح أن هذه المحاولة كادت أن تنجح قليلاً، لكنها، كسابقاتها، باءت بالفشل، فلم يكن هناك بد من غزو العراق هذه المرة ليكون نواة "شرق أوسط جديد" يعيد تركيب هذه المنطقة وتقسيمها حسب نظرية شمعون بيريز، لعل وعسى ينجح مشروع التفتيت القومي الذي ترعاه القوى الاستعمارية منذ بداية القرن الماضي. لكن الرياح مرة أخرى جرت بما لا تشتهي سفن الاستعمار الجديد، فها هم يحاولون الآن خلق "شرق أوسط كبير" بدءاً بلبنان بعدما غرق مخططهم في رمال العراق، وقد سمعنا وزيرة الخارجية الأمريكية غوندوليزا رايس في عز العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان تعلن بكل صفاقة بأن "الضربة الإسرائيلية" لبلاد الأرز ستكون بداية "شرق أوسط جديد". لكن سعيهم خاب ثانية بعد أن صدت المقاومة اللبنانية الهمجية الفاشية الإسرائيلية وانتصرت عليها، فالتف الشارع العربي حول المقاومة من نواكشوط حتى دمشق ليزداد الشعور العربي قوة ورسوخاً.
وأعتقد أن المراهنين على موت القومية العربية تلقوا ضربة قاصمة بمناسبة الذكرى الأربعين لنكسة حزيران. فلو تابع أعداء القومية العربية من "الناطقين بالعربية" ورعاتهم الغربيين المقابلات التي أجرتها القنوات العربية مع الشارع العربي الذي يُعتبر أفضل ثيرمومتر لقياس مدى عمق الانتماء العروبي، من المحيط إلى الخليج، لأصيبوا بخيبة أمل كبرى. فقد جالت ميكروفونات بعض الفضائيات في الشوارع العربية دون استثناء للتعرف على مدى الانتماء العربي والشعور القومي، وفيما إذا مازال متقداً كما كان عليه الحال أيام النكسة قبل أربعة عقود، أم أن العرب كفروا بعروبتهم بسبب الهزائم والنكسات. فجاءت الردود صاعقة بكل المقاييس، وخاصة في أوساط الشباب الذين ظن الكثيرون أنهم تخلوا عن انتمائهم القومي، فإذ بهم متمسكون بها أكثر من أسلافهم رغم كل الهزات التي تعرضت لها العروبة، تماماً كما حصل مع جيل الانتفاضات الفلسطينية الذي كان الإسرائيليون يراهنون على أنه سينسى القضية مع مرور الزمن، فإذا به يعضّ عليها بالنواجذ أكثر من آبائه وأجداده.
وكم ضحكت وأنا أرى أحد المراسلين العرب "الناطقين بالعربية" والمنتمي لنظام عربي متورط حتى أذنيه في التآمر على العروبة وهو مستاء جداً من ردود فعل الشابات والشباب الذين كان يحاورهم في الشارع. فقد كان صاحبنا يريد منهم،من خلال أسئلته المسمومة، أن يلعنوا العروبة، وأن يتمسكوا بانتمائهم القطري، وأن يتركوا القضايا العربية الأخرى وشأنها، ويركزوا على أقطارهم على مبدأ: نحن أولاً، فإذا بهم يفاجئونه بأجوبة مفعمة بالروح القومية، فهذا يتبرع بالذهاب إلى العراق للانضمام إلى صفوف المقاومة العراقية، وذاك يعبر عن تضامن كامل مع "الأخوة" في فلسطين ولبنان والصومال. فعلى الرغم من صغر سنهم فإن أولئك الشباب الذين التقتهم الكاميرات في الأردن وفلسطين ومصر وسوريا والسودان ولبنان والخليج والمغرب العربي عبروا عن شعور أخوي عارم تعاطفاً مع أشقائهم في فلسطين والعراق، كما لو أن القضية قضيتهم. لم تنجح كل الأسافين التي حاول أعداء العروبة دقها بين الشعوب العربية في فك عرى الشعور القومي. وقد شعرت وأنا أتابع إجابات الشبان الذين التقاهم مراسلو بعض الفضائيات العربية بأنهم في واقع الأمر لا ينتمون إلى شعوب مختلفة بل هم في الحقيقة شعب واحد في بلدان مختلفة. لا بل إن بعضهم كاد أن يتف على الحكومات العربية التي لا تفتح الحدود كي يشارك الشباب العربي في تحرير فلسطين والعراق. وتساءل أحد الشبان: "ألا ترون كيف يتقاطر المغاربة والتوانسة والليبيون والموريتانيون والسوريون والسعوديون والمصريون والسودانيون على العراق لمساعدة أشقائهم في تحرير البلاد من رجس الاحتلال الأمريكي؟ أليس ذلك مؤشراً قوياً على أننا، كشعب، أمة واحدة ذات انتماء واحد ومصير واحد وعلى قلب رجل واحد؟"
لقد بدا الجيل الصاعد مسكوناً بقضايا الأمة من بغداد حتى دارفور بشكل مذهل، رغم كل المؤامرات والمحاولات الرامية إلى تنفيره من انتمائه العربي والتشكيك بعروبته والنيل منها.
لهذا السبب أطلب من "الليبراليين العرب المزعومين الجدد" تحديداً أن يعيدوا حساباتهم في تقييمهم لتوجهات الشارع العربي وانتمائه، فالشارع عروبي إسلامي حتى النخاع، شاء من شاء وأبا من أبا، مهما حاول البعض السخرية من العروبة وشيطنتها وإلصاق التعابير التهكمية بها.
قد يكون بإمكان أعداء القومية العربية أن يسخروا من الأحزاب والشخصيات التي حملت مشعل العروبة لأغراض سياسية دنيئة، وأن ينعتوها بـ"القومجية"، لأنها ربما أساءت إلى العروبة أكثر من أعدائها، لكنه ليس باستطاعتهم أبداً أن يشككوا في صلابة الشعور القومي الذي يسكن، وبقوة منقطعة النظير، مهج وأفئدة السواد الأعظم الذي مازال يؤمن بـ"الوطن العربي الكبير" وبأن "بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان، ومن نجد إلى يمن، إلى مصر، فتطوانِ".
ربما قد ماتت القومية العربية سياسياً وحزبياً، لكنها حية تـُرزق وجدانياًً وشعبياً رغم كل المآسي، فمن المستحيل القضاء على الأمم بهذه السهولة، كما يجادل المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، فالثقافات القومية تموت بصعوبة كبرى، die-hard) )، لا بل تقاوم الاندثار بصلابة عز نظيرها. فبشرى للقابضين على جمر هويتهم، والخيبة للمناديل الورقية!