أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
مصراته غراد مدينة البطولة والشهادة!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 20.04.2011

هناك وحش يُنشب مخالبه في عنق مصراتة ، يحاصرها، يلتف حولها مرسلاً الحمم على ناسها المدينة الجميلة كعروس حزينة نازفة، والموت يطوف بها ليل نهار.
المدينة التي تنام على الشاطئ اللطيف المنساب بسلاسة.. بحرها الأزرق يسافر إلى مدن نائية، يمتد إلى البعيد حيث يتحد بالأفق، ومعا، البحر والسماء يصيران فضاءً واحدا لا تكف مصراتة عن السرحان به.
المدينة تلعب على الشاطئ، فالساحل الرملي بلا نتوءات، رمال تعانقها الأقدام العارية فتنتعش...
رمل وماء وسماء وأفق..ومدينة مصراتة تسترخي منذ أيّام الفينيقيين، تستقبل البحّارة اللائذين بها، والتجّار الحاملين إليها بضائعهم من مدن المتوسط الجارة، وتودع أبناءها المبحرين لاستكشاف ما وراء الأفق.
تلك هي مصراتة التي لا تغيب عن بالي، المدينة التي أحببتها، وسأذكر دائما كرم أهلها، وخفّة دمهم، وميلهم للدعابة، كونهم جيران البحر الذي يمنحهم سماحته، ويثير فيهم الحنين للسفر، هُم الذين ابتلوا بمن حرمهم من السفر، وأغلق على مخيلتهم الفضاء، ودفن أحلامهم طيلة عقود من الرعب والمهانة.
زرتها مرتين، وأحببتها دفعة واحدة ونهائية، فهي عندي خير تعبير عن(روح) ليبيا، وصفحات تاريخها الحضارية والثورية المشرقة. فيها عرفت سّر ثورات ليبيا على الطليان، وكيف يخرج الثائر من بين صفوف الشعب ليكون تعبيرهم الأشجع والأنبل، فحفظت اسم رمضان ..مقرونا باسم مدينته الشجاعة الباسلة: مصراتة، فمصراتة عائلته، وأهله، ووطنه و..ليبياه، تماما كما عرفت من بعد شيخ الأدباء الليبيين ـ (الشيخ) هكذا يناديه كتاب وأدباء وشعراء وفنانو ليبيا تكريما ـ على المصراتي القاص والروائي والشاعر والباحث والخطيب والمحدّث الذي لا يُمّل كلامه، هو الذي جمع المزاج المصري وخفة الدم المصرية، كونه تعلّم وعاش في الإسكندرية، مع حدّة الذكاء الليبيّة التي ينشطها بحر مصراتة البكر!
استضافتني مصراتة، وكتابها، ومثقفوها ..لأحكي لهم عن ناجي العلي، فحكيت..فصفقوا لناجي، ورفعوا لوحة (محمد الزواوي) فنان الكاريكاتور الليبي الكبير، التي يولد فيها حناظلة كثيرون، ينبثقون من عمق الأرض، رغم رصاص الغدر.
في زيارتيّ إليها دهشت لجمال الساحل الممتّد من طرابلس (العاصمة) حتى خاصرتها التي تتزنّر بزرقته، وتتدلل عليه بسعف نخيلها الأخضر الوارف الأنيق الذي يظلل مصنع الصلب والحديد، ويكحّل عيونها، وساحاتها، ويؤنس ليالي سمّارها.
مصراتة هذه، العريقة، تحترق، وحارقها وحش يوقع عليها العقاب لأنها لا تعبده وتمنحه نفسها عبدةً له، لأنها تُجّّل الحريّة التي اقتبستها من بحر يأخذ النظر والمخيلة والنفس بعيدا، يوسّع مساحة الحلم، ويزرع الرغبة بالسفر والشوق إلى أماكن مجهولة، وحش ُيجن لأن المدينة لا تتمسح عند قدميه وهو يتلو (كتابه) الأبله، وأفكاره الخرقاء الساذجة.
مصراتة لا تعبد الأصنام، ولا تنحني للطاغية، هي التي أذاقت الطليان كؤوس الردى، وتجرعت واقفة كؤوس الموت والشهادة عشقا للحريّة.
تُقصف مصراتة بصواريخ غراد ـ يسميها الليبيون: الجراد..وفيها من الجراد صفة الكثرة، والتخريب، وحرق الخصب، وترك الخُضرة يباسا. والقذافي هو سيّد صواريخ الجراد التي تدكها في غبش الفجر، فتحرق وتهدم بيوتا مع كل دفعة تتكوّن من خمسين (جرادة) معدنية محشوة بالمتفجرات المُبيدة ، ترّج الأرض فتوقظ الأطفال من نوم مختلس بين موتين قذافيين، وتسلمهم للهلع، أو ..أشلاء في بيوت سقوفها بنيت لتكون سترا وغطاء، وليس ملاجئ نووية كمدينة العزيزية تحت الأرضية التي وضعت فيها خبرات بناة الملاجئ والأنفاق وتكلفت ملايين الدولارات.
مّمن يحتمي القذافي وزبانيته في ملاجئهم النووية؟!
أهل مصراتة ما كانوا يتوقعون أن القذافي يحتاط ويحترس ويترصّد أشواقهم للحريّة، بكتائب جيش بقيادة أبنائه، وخزن المليارات ليشتري بها السلاح والذمم في اللحظة الحاسمة، (فدولارك) الأخضر ليومك الأسود، واليوم الأسود هو يوم ينقلب الشعب ويخرج على الطاعة والولاء..والشعوب لا تُضمن طاعتها، فهي نزّاعة للخروج على ولاة الأمور، وهي تقدّس الحريّة إلى حد التضحية بالنفس، وهي تفتك بمغتصبي حريتها حين تغضب وتثور.
مصراتة مدينة تحرج القذافي، فهي توحّد ليبيا ثوريا، وهي تفسد عليه ادعاءه بأن المنطقة الشرقية وحدها تثور، فمصراتة على مسافة ساعة ونصف بالسيّارة من طرابلس، وهي بصمودها تنذر القذافي بأن الثوار قادمون، وأن نار الثورة والغضب زاحفة إلى العزيزية غدا، أو بعد غد، أو بعد بعد غد.
لن يجد القذافي وأبناؤه، وكتائب جنده أية حارة، أو دار، أو زنقة..تؤويهم، وترّد عنهم الكأس التي سيشربونها حتى الثمالة، بعد أن أحرقوا مدن ليبيا، وقلوب الأمهات الليبيات الصارخات الضارعات المستغيثات من بنغازي إلى الزاوية، والزنتان، والبريقة، مرورا بمصراتة ..وحتى طرابلس المحكومة بالحديد والنار، والتي نكّل فيها قائد الثورة الأممية، عميد الحكّام العرب الذي يدّعي أنه ليس حاكما، ملك ملوك الزولو وعموم أفريقيا، منافس بيدل بوكاسا، المتفوّق على جنون عيدي أمين دادا.
مصراتة بصمودها واستبسالها تنضم إلى مخيّم جنين البطل الذي ظلّ يقاوم قوّات جيش الاحتلال من تحت الدمار.
مصراتة تدخل سجّل البطولة للمدن العربيّة مع بيروت عام 82، وضاحيتها الجنوبية عام 2006، وغزة المصبوب عليها الفوسفور الأبيض.
هذه الأيّام تتضاعف خسائر مصراتة البشرية، والنار تأكل بيوتها، ونساؤها وأطفالها يهيمون بين الحطام وهم يرتجفون ويصرخون مناشدين (العرب) و..العالم.
أكثر من 1000 شهيد، وألوف الجرحى..ولا من مغيث!
ومع ذلك، تخرج (المحامية) عايشة القذافي لتصرّح للفضائيات متباهية بوالدها الطاغية، مباركة لما تقترفه مدافع وصواريخ جيوش أشقائها، بأمرة الأب ( القايد): من لا يحب القذافي لا يستحق الحياة.
عايشة القذافي تريد من شعب دمّرت حياته على امتداد 42 عاما أن يحب القذافي ويذوب فيه عشقا!
من لا يحب القذافي يستحّق الموت..يعني كل الشعب الليبي محكوم عليه من المحامية عايشة القذافي.. بالموت!
محامية نزيهة حقا، تحكم وفقا لقانون أبيها المطلق الصلاحية، وقانون رجاله الذين طبقوا تعاليمه الاغتصابية باغتصاب ( المحامية ) الليبية الشابة (إيمان العبيدي)، التي لم تهز مأساتها ضمير المحامية عايشة القذافي!
يرى العالم بعض الصور لكارثة مصراتة، ويسمع عن أرقام شهدائها ـ على سبيل المثال يوم الأحد الماضي سقط 17 شهيدا! ـ والمدينة محرومة من الكهرباء والماء والهاتف، ومستشفاها عاجز عن استقبال الجرحى لنقص الدواء.. فالقايد لم يعتن بالمستشفيات قدر اهتمامه بالترويج للكتاب- كُتيّب صغير بحجم دفتر السكائر(اللّف) ـ ونقله للغات الحيّة والميتة خدمة للبشرية التي طال انتظارها(للمفكّر) الُمنتظر الذي نقض كل العقائد والأيديولوجيات وتمخض عقله عن النظرية الثالثة و..الأخيرة، فلا نظرية بعد نظريته!
مصراتة العصيّة على جيوش القذافي وأبنائه تدمّر وتستباح ويقتل أهلها، وهي صابرة صامدة مقاومة..فاحفظوا اسمها، ولينتظر القذافي وزبانيته عقابها. ستجعله مصراتة سبّة في التاريخ، بينما تختال بكبرياء وهي تدخل التاريخ بطلة.. جبينها المدمّى شامخ متوّج بالبطولة والعّز والكبرياء