بقلم : سهيل كيوان ... 05.05.2011
يستحيل حصر الخراب الذي سببته ألانظمة الأسنة خلال هذه الحقبة الطويلة السوداء من تاريخ الأمة إلا بعد تنظيف المنطقة العربية كلها من هذه الغابة المتوحشة من الطفيليات المفترسة لمعرفة ما تخفيه من حكايات دموية في أجوافها المظلمة، لقد لوثت الأنظمة بجراثيمها كل أشكال الحياة ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولم تبق تنظيمات معارضة بغض النظر عن موقعها الفكري إلا وفتتتها أو أذابتها ولم تبق إلا قلة قليلة لاستخدامها كورق نشاف لمسح دماء الضحايا بها من البشر وغير البشر.
منهم من اختصر القومية العربية بقبيلته، ومنهم من اختصرها في حزبه ومنهم من قصقص أجنحتها وحشرها في مذهبه، بل أن منهم من جعل سكسوكته أو شاربيه مقياساً للعروبة، فأنكر عروبة لحى وشوارب الآخرين، حتى الأحزاب القومية نفسها لم تطق وحدتها فانقسمت على ذاتها عند أول مفترق مصالح للطغم الحاكمة، بل أن منهم من رفع لواء الاشتراكية وترك شرائح الشعب الواسعة في مقلاة البطالة والعوز، بينما تمرغ هو في ثروات أين منها ثروات قارون وبيل غيتس، وكل هذا باسم مواجهة الأعداء والمؤامرات من كوكب عطارد. هكذا احتكرهؤلاء القبيحون كل ما هو جميل في الوطن أو ما تبقى فيه من جمال ونسبوا القباحة دائما للآخرين، وقد نشأ بينهم اتفاق غير معلن بأن أقصى درجات الحرية التي يمكن للمواطن بلوغها هي السماح له بالتذمر مما هو هامشي مثل أداء موظف هنا وآخر هناك ونقل القصة إلى حلقة كوميدية في مسلسل، ولكن الاقتراب من الجوهر ممنوع، والجوهر هو الحاكم نفسه، فإذا تعرض له المواطن بمثقال ذرة من نقد أو شك فكأنما أشرك بالذات الإلهية وسيحتاج إلى شفعاء من وجوه قومه والتعبير عن الندم الشديد لأنه عض اليد التي أحسنت إليه بمنحه شرف المواطنة والانتماء لبلد كل ما فيه ملك للحاكم وأولاده، بل أن هناك أنظمة لديها هفوات وزلات ليبرالية اعتبرت الشرك بالله مسألة شخصية ولكن الشرك بالحاكم هو الكفر بعينه.
لم ينج من احتكار الحاكم العربي سوى الله عز وجل رغم أن المحاولات المستميتة لم تتوقف لاحتكاره بالضبط مثلما يحتكرون النفط والمعادن وحق تغييرالدساتير، ومن حسن الحظ أن لله سبحانه صفات لا يستطيع حتى أكبر منافقي النظام حصره فيها، وإلا لرأينا أمورا عجيبة أكثر مما رأينا حتى الآن.
حاول بعض العرب تعريب الذات الإلهية، وإعلان انحيازها لجنسهم، فقرروا أن لغة أهل الجنة هي لغتهم، وعلى الشعوب الأخرى أن تتعلمها رغماً عنها، هذا في حال دخلت شعوب أخرى إلى الجنة، وهذا رغم أنف النصوص التي تؤكد على المساواة التامة بين أبناء البشر بين يدي بارئهم بغض النظر عن شكل وحجم سكسوكاتهم ومعنى الطهارة وتفاوته من قوم إلى قوم.
لم يستطع الحاكم العربي بحكم ظروف خارجة عن إرادته أن يكون إلهاً، ولكنه حاول بلا كلل إقناع الشعب بأن حُكمه هو إرادة إلهية مقدسة، وقد اختارته العناية الإلهية دون غيره لحكمة ما، وكل الدماء التي سالت والتي سوف تسيل لأجل سلطته إنما سالت وتسيل بإرادة إلهية كي يتولى هو وليس غيره أمور الناس، ولأجل هذا الغرض احتاج الحكام إلى عمائم إفتاء توافق أمزجتهم ومصالحهم، وهكذا غدت المعارضة تمردا على أمر الله وحكمته وخروجا على طاعة أولي الأمر وفتنة وفساداً في الأرض وحسداً وضيقة عين، ويصبح قمعها حلالا زلالا، حتى قطع رؤوس رؤوسها إذا لزم الأمر، ومن سخرية الحياة واللغة أن التوصيفات التي اطلقتها الحركة الصهيونية على المقاومين العرب لطغيانها هي نفسها التوصيفات التي يطلقها الحكام العرب على معارضي طغيانهم والثائرين عليه من مواطنيهم.
أما حيث لم يستطع الحاكم الاحتماء بظلال المقدس فيحتمي بالأعداء المتربصين للبلاد واستقرارها، فلا هدف للأعداء سوى التخلص من هذا الحاكم الغيور على بلده وقوميته ودينه، وبناء عليه يُفترض بالشعب الأصيل تحمّل الفقر والكبت والذل والبطالة والفساد ليكون إلى جانب النظام في المواجهة المصيرية ضد المتآمرين وفلول الحاقدين وإلا فتهمة الخيانة. وهكذا فما أن يفتح معارض فمه حتى تقوم أبواق النظام بطرح التساؤل السخيف والممجوج في وسائل إعلامها...'لماذا الآن بالذات....وهل نستطيع فصل ما تقوم به المعارضة الهدامة عن المؤامرات الخارجية...وهل يستطيع أن يفهمنا هؤلاء المخربون من أين يتلقون دعمهم وتمويلهم...وكيف يلتقي هؤلاء في عدائهم للنظام القومي مع عتاة المحتلين وقتلة الأبرياء في فلسطين والعراق؟' ويختلط حابل المؤامرات بنابلها فتجتمع طهران وتل أبيب وواشنطن والقاعدة ضد نظام ما، أو إيران مع الأردن وتركيا والسلفية المصرية في موضع آخر، وقد نجد القاعدة مع أمريكا واسرائيل والسودان والحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الله ومحمود عباس في خندق واحد، ثم نجد نتنياهو وبن لادن ومحمد دحلان والجهاد الإسلامي واللورد بلفور في الفريق نفسه، وبما أن الحاكم قد يكون الوحيد أو الأبرز في عدائه اللفظي للإمبريالية يصبح من حق نظامه تجريد مواطنيه من إنسانينهم لإفشال المؤامرات الإمبريالية.
وهكذا نجد أن فدائي ومجاهد الأمس هو إرهابي الغد، والبطل الذي يكلل بالغار اليوم هو الذي سيتكلل بالعار عما قريب، والتجييش الى جانب الأعداء وتقديم العون لهم قد يكون في بقعة ما خدمة للعروبة والمسلمين وفي بقعة أخرى يكون خيانة واستقواءً بالأجنبي.
هكذا لم تجد بعض المعارضات ما تنافس به الحاكم سوى المسافة التي يدعيها بينه وبين الله، فهي لا تملك نفوذاً لتوظف وتشغل وترشو أو تأمر بحبس هذا واعتقال وتعذيب ذاك حتى يعترف بالتهم الموجهة إليه في الماضي وفي المستقبل، لأن معظم النظريات والأفكار المطروحة للتداول مراقبة وتودي بصاحبها إلى التهلكة والسمعة السيئة، لهذا لجأ البعض إلى محاولة إثبات قربه للذات الإلهية في منافسة مع السلطان، هكذا نشأت الحركات الأصولية والسلفية والجهادية بغياب وضعف المعارضات العلمانية التي سحقتها الأنظمة تماما بين ترويع وسجن ورشوة.لهذا فإن محراث الثورة العربية الحديثة سيقلب الأرض التي نشأت عليها وبها الأنظمة وإفرازاتها، بما في ذلك حركات أصولية وسلفية بغض النظر عن تسمياتها. في فضاء تحرر الإنسان العربي يصبح الله نوراً ومحبة، ويغدو خارج الحسابات القبلية والحزبية وجمع الثروات وتجارة السلاح، ولا شأن له بتعيين هذا الحاكم أو ذاك، ولا يتحمل مسؤولية موبقاتهم، ويصبح الناس كلهم كأسنان المشط أمام القوانين الوضعية والإلهية، ويكون الله رباً للجميع وليس حكراً على حاكم أو حزب أو حركة أو مذهب دون غيره، بعدما يتحرر الإنسان العربي من القمع والكبت والمفسدين يصبح قادرا على تحرير الأرض وثرواتها لخير كل الناس. بانتصار الثورة العربية ينتهي غذاء وهواء التطرف بنهاية أنظمة الفساد التي أفرزته كردة فعل عنيفة لظلمها، لا مكان لقاعدة أو لسلفية على أرض يعيش فيها الإنسان متحرراً وكريماً، هناك قيمة اسمها الحياة الحرة الكريمة للفرد وللوطن، للعقل وللروح، للجسد وللغة داسها الحكام بلؤمهم، لقد أزهرالربيع العربي ولن تبقى نخلة في الوطن الكبير إلا وسوف يصلها الطلع ونحن بانتظار الثمار والقطاف..