بقلم : د.فيصل القاسم ... 08.05.2011
لا يمكننا أن ننكر القدرة التنظيمية الرهيبة التي امتاز بها شباب الثورات العربية عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت مثل "تويتر" و "فيس بوك" وغيرهما من المواقع، فقد تمكنوا من حشد مئات الألوف من المتظاهرين في الشوارع العربية من خلال تجمعات وخطط إلكترونية فريدة من نوعها. لكن، للأسف الشديد، ليس هناك غير هذه المأثرة يمكن أن يتباهى بها عُربان الإنترنت.
صحيح أن هناك بعض الشخصيات العربية الرائعة من إعلاميين وصحافيين ومفكرين ورسامين وأكاديميين وأساتذة تـغني مواقع التواصل الإلكترونية بمساهماتها الفكرية يومياً، لكن هؤلاء يظلون قلة قليلة إذا ما قارناهم بالملايين ممن يمارسون ما يمكن تسميته بالتسكع أو التنابذ الإلكتروني. فكما أن الكثير من العرب يمضي جل وقته متسكعاً بلا هدف لقتل الزمن في حياته اليومية، فإنه نقل أسلوب حياته البائس بما ينطوي عليه من تفاهة وسفاهة وعبث إلى الشبكة العنكبوتية، مما جعل تسكعه على الشبكة يبدو متناقضاً تماماً مع طبيعة تلك الشبكة وديناميكيتها وحداثتها الرائعة.
لا شك أن الكثيرين لمسوا كيف تحول موقع "تويتر" مثلاً إلى ساحة لتبادل الشتائم والسباب الثقيل بين العربان بدل أن يكون ميداناً لتبادل الأفكار والتثقف والصراعات العقلية المفيدة. وأركز على كلمة صراعات، فليس هناك مشكلة أبداً أن يتحول هذا الموقع وغيره إلى حلبة صراع فكرية وإعلامية وثقافية صاخبة لعلنا نعوّض من خلالها جوعنا التاريخي للنقاش الحر والمناظرات المفتوحة الساخنة. لكن بدل أن يتناقش "العُربان" على "تويتر" تراهم يسفهّون بعضهم البعض لأتفه الأسباب. وأكثر ما يجعل المرء يُصاب بخيبة أمل كبيرة أن الكثير ممن يرتادون موقع "تويتر" يقدمون أنفسهم على أنهم محامون، أو قضاة، أو صحافيون، أو إستراتيجيون، أو أشخاص ذوو مكانات اجتماعية مرموقة. ومما يزيد الطين بلة أن معظمهم يضع شعارات جميلة لبروفايله أو حسابه من الشعر أو الأقوال المأثورة أو الأحاديث الشريفة. لكن ما إن يبدأوا بالتعليق على تغريدات الآخرين، حتى يتحولوا إلى أولاد شوارع بامتياز، إن لم نقل إلى "بلطجية" كلام. فبدل أن يناقشوا الأفكار المطروحة، يبدأون على الفور بالنيل من المغردين شخصياً بلغة غاية في البذاءة والصفاقة والسقوط الأخلاقي، وكأن مهمتهم إخلاء هذا الحيز الإلكتروني الجميل من الفكر والثقافة وتحويله إلى منتدى للتنابذ بالألقاب والسخافات والترهات والتفاهات.
ولا ألوم بعض المغردين المحترمين أبداً إن انسحبوا من مثل هذه المواقع، أو حجبوا تغريداتهم عن هؤلاء الرعاع والغوغائيين الإلكترونيين الساقطين الذين يلوثون منتجات الحضارة الإعلامية الحديثة بوساخاتهم وقلة تربيتهم، ويحولونها إلى مرتع للسخافات والسفاهات. ومن منغصات موقع تويتر، على عكس، "فيس بوك"، أنه لا يتيح للمغردين آلية ناجعة لحجب التافهين وحذف إساءاتهم وردودهم البائسة التي تجعل المغردين الجادين يتركون الساحة، وكأن شعار "تويتر" أصبح: "البضاعة الفاسدة تطرد البضاعة الجيدة". صحيح أن عظيماً كالرئيس الأمريكي الراحل أبراهام لينكولن قال يوماً: "أنا لا أقرأ رسائل الشتم والإهانة التي توجه إليّ، لا أفتح مظروفها، فضلا عن الرد عليها، لأنني لو انشغلت بها لما قدمت شيئاً لشعبي". لكن المشكلة في "تويتر" أنه لا يتيح خاصية رمي المظاريف الوسخة في سلة المهملات قبل أو بعد فتحها، فتضطر لقراءتها مرغماً.
محزن جداً أن يختبئ ملايين العرب خلف الماوس والكيبورد ليمارسوا بأسماء وهمية هواياتهم التافهة في التجريح والقذف والقدح والافتراء والطعن والتخوين المجاني وكيل الاتهامات جزافاً بلغة ركيكة وهزيلة لا تحمل من العربية إلا اسمها. وكم سمعت بعض المغردين المحترمين يتأسفون على الحرية التي أتاحها الفضاء الإلكتروني للعربان. فالحرية مسؤولية كبيرة يحاول الكثيرون من الجبناء المختفين وراء ألقاب مصطنعة تعهيرها وتسخيرها للافتراءات والبذاءات والاتهامات المجانية.
كم كان أحد المعلقين مصيباً عندما وجه الدعوة التالية إلى حشود الشتامين على موقع "تويتر": "يا شعب "تويتر": والنبي عشان خاطر النبي، انزلوا الشارع اعملوا حاجة بدل مجرد الشتم على تويتر.. البلد محتاج لكم أكثر من "تويتر"!!"
للأسف الشديد، فقد فهم الكثيرون من الجيل الصاعد الحرية على أنها تخلص وانفلات من كل القيود والتعبير بأي طريقة، وهذا طبعاً هراء، فالشعوب الغربية حرة ومتحررة، لكنها شعوب مؤدبة ومهذبة ودمثة في خطابها اليومي. ولو قارنا صفحات التواصل الإلكترونية الغربية بالعربية لوجدنا الأولى منضبطة ومحترمة، بينما الثانية عبارة عن سوق عكاظ للردح وقلة الأدب والتجريح والاستفزاز.
وكم أشعر برغبة شديدة للضحك عندما يكتب بعض المغردين على "تويتر" فكرة ما، فيأتي معظم الردود عليها بعيدة كل البعد عن موضوعها، فمثلاً ترى كاتباً يعلق باحترام على إحدى الثورات العربية، فيدخل عليه مغرد متسكع، ليهاجمه على لباسه الذي يظهر فيه على شاشات التلفزيون، أو على أمر لا علاقة له بالموضوع المطروح لا من قريب ولا من بعيد. قلما تجد مغرداً عربياً في "تويتر" يرد ويعلق مباشرة على الموضوعات المكتوبة، بل يذهب باتجاه آخر لمجرد الإزعاج وتفريغ مكبوتاته وأحقاده وتفاهاته الصغيرة على الآخرين. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن غالبية المشتركين في "تويتر" الذين من المفترض أن يتمتعوا بقدر من الثقافة، لا يمتلكون العقول القادرة على النقاش والأخذ والرد، فيعوضون عن جهلهم ونزقهم بالنيل من الآخرين، خاصة أن الشتم سلاح من ليس له حجة.
وحتى لو امتلك البعض من جيل الإنترنت الحجة، فإنه قلما يختلف عن الأجيال السابقة في التعصب والتزمت، فهو لا يقل استبداداً بالرأي عمن سبقوه. لا أدري لماذا نطالب بالتغيير في العالم العربي إذا كان الجيل الجديد تكفيري تخويني بامتياز كما يظهر من مشاركاته وتعليقاته على صفحات الشبكة العنكبوتية؟
وأرجو ألا يتنطع أحد ليقول إن برامج الحوار في التلفزيونات العربية مصابة بمتلازمة "تويتر"، لا أبداً، فعلى الأقل فإن المتحاورين في البرامج التلفزيونية يتصارعون ويتصارخون من أجل قضية. أما متسكعو "تويتر" فلا قضية لهم سوى التهريج واللعن وتقيؤ عقدهم الشخصية والاجتماعية على بقية المغردين.
هناك مثل صيني رائع يقول:" العقول الكبيرة تناقش في المبادئ، والعقول المتوسطة تناقش في الأشياء، والعقول الصغيرة تناقش في الأشخاص". فما أقل العرب الذين يتناقشون في الأشياء والمبادئ على "تويتر"، وما أكثر العربان الذين يُهملون القضايا الكبرى، ويغرقون في البذاءات والأحقاد والتفاهات والمسائل الشخصية الرخيصة!