بقلم : رشاد أبوشاور ... 24.02.2011
قبل سنوات بعيدة قرأت رواية ما زلت أحتفظ بها في مكتبتي، للروائي ( الصربي) ـ اليوغسلافي أيام زمان قبل تفكك تلك الدولة، وتشظيها ـ إيفو أندرتش، وهي بعنوان ' جسر على نهر الدرينا'.
ثمّة مشهد ينطبق على حكّام العرب في زمننا، بطله شخص اسمه الحاج علي.
الرواية رهيبة، وهي تدور في زمن الحكم العثماني لتلك البلاد، ومشاهد ( الخوزقة) للمقاومين الصرب تثير الذعر بوحشيتها.
يفيض نهر الدرينا، ويبدأ في غمر السهول حوله، والمدن، والقرى، وتندفع مياهه إلى حيث الحاج علي المتحكم بتلك النواحي، والذي رغم تنبيهه إلى الطوفان، فإنه يواصل تدخين شيشته غير عابئ، إلى أن تبدأ المياه في الارتفاع، وغمر المكان حوله، وهو يواصل بعناد ولامبالاة تدخين الشيشة!
مع بدء الطوفان في تونس، وغمره لبن علي، ارتفعت أصوات حكّّام عرب مطمئنين إلى بقائهم في الحكم مدى الحياة، بما يملكون من أجهزة قمع: نحن نختلف عن تونس!
لم يفسروا كيف أنهم يختلفون عن تونس، فهل شعوبهم أكثر سعادة، وحريةً؟ هل المؤسسات في بلادهم ديمقراطية، والقضاء مستقل وعادل؟ هل هم منتخبون بعكس بن علي الذي جثم على صدر التوانسة منذ العام 88؟! هل هم مع التناوب على السلطة؟ هل في بلادهم حرية أحزاب؟!
تلك التصريحات كانت تعني أنهم يقبضون على مصائر شعوبهم، وأنهم أكثر دراية، وقوّة، وقدرة على سحق أي تحرّك شعبي.
لكن الطوفان اندفع إلى مصر، فرأينا ميدان التحرير يتحوّل إلى بؤرة ثورية، تنداح منه الثورة إلى كافة مدن مصر، وتجتذب كل فئات الشعب المصري، وترفع أهدافا هي في الجوهر ما تحتاجه الشعوب العربيّة في كل أقطارها، كونها تعاني من نفس الأمراض التي تسبب بها طغاة مستنسخون.
قللوا من ثورة شباب مصر، وشعب مصر، حين وصفوها بثورة شباب الفيس بوك..رغم انتشارها بين كافة شرائح الشعب المصري، من كافة الأعمار نساءً ورجالاً.
عاند ( الحاج ) حسني مبارك الطوفان، ولكنه انهار وانتقل إلى شرم الشيخ..مؤقتا!..لعله يحلم بالعودة للحكم ولو عبر عمر سليمان، بعد أن فقد الأمل بترئيس المحروس ابنه ضمانا لديمومة سلطة العائلة وصونا لمنهوباتها المليارديرية الفلكية من دم شعب مصر!
الحجّاج( علي) في بلاد العرب انتصروا لزميلهم الكبير، فادعى قائد الثورة الأممية ملك ملوك أفريقيا أن مبارك فقير، وأنه كان يرسل له بعض المال ليتمكن من الصرف على أسرته!
أما حكام السعودية فقد التقوا في رجائهم لأمريكا، مع قادة الكيان الصهيوني، في أن لا تتخلّى الإدارة الأمريكية عمّن خدمها طيلة ثلاثة عقود!
الحاج علي، الحاكم العربي المستنسخ، يتميّز بالجهل، واللؤم، والقسوة، والسفاهة، وقلة الحياء، والكذب، والتزوير، واللصوصيّة..وصفات أُخرى يعرفها ملايين المواطنين العرب، لا حصر لها.
لا يريد الدكتاتور العربي أن يعترف بأن الطوفان حقيقة واقعة ملموسة، وأنه يندفع ليغمر ( الحجاج) الذين لم يحسبوا لهذا اليوم حسابا، لطمأنينتهم للحماية والرعاية الأمريكية، والصداقة الصهيونيّة، والأجهزة القمعية البلطجيّة التي أعدوها لمواجهة الطوفان! فماذا تفعل الجماهير المسكينة المدجنة ـ كما توهموا ـ أمام هذا التحالف؟!
ولكن الواقعة وقعت، فمن لا مستقبل لهم في أوطانهم ثاروا، واكتسحوا الساحات والميادين، وخلعوا اثنين من أعتى الطغاة في بلاد العرب، وأمريكا عجزت عن إنقاذهم، ورفضت استقبالهم، فهي لا تنقذ الجثث، ولا تمد يدها للغرقى، فمصالحها أكثر أهمية ممن تلفظهم شعوبهم.
لو كان لدى هؤلاء الطغاة بعض الحياء، وأدنى درجات الشعور بالكرامة لتخلوا عن كراسيهم، وتابوا، واستسمحوا الشعوب على ما ألحقوه بها ..ولكنهم سيبقون سادرين في غيهم، حتى آخر واحد منهم، وسنسمعه يردد: الوضع عندي غير، و( شعبي) مختلف، فله خصوصية ...
يتميز الحاكم العربي بالغباء والصلف، والجهل بحركة التاريخ، والانفصال عن الواقع، والاستخفاف بالشعب..بالطوفان، ولكن الطوفان لا يقيم وزنا لصاحب الفخامة، والسيادة، والجلالة، والسمو...
واصلوا تدخين الشيشة يا طغاة العرب، وليُبخر لكم راقصوكم وطبّالوكم أمثال الملياردير أحمد عز محتكر الحديد والإسمنت رئيس الحزب الوطني عازف الدرامز( الطبّال)، ووزير الإعلام أنس الفقي الراقص السابق في فرقة رضا والملياردير مكافأة له على غوبلزيته الإعلامية، ومسخه صحافة وفضائيات وثقافة مصر.
الطوفان جاء، وباطلكم يزهق، وستغمركم زحوف تجاهلتموها، وأهنتموها، وحسبتم أنكم غيبتموها...
إن بيتا من شعر شاعر عربي نحيل الجسد، مات مريضا قبل ثمانين عاما، قد رسم المعادلة بينكم وبين الشعوب، ولكنكم تجهلون الشعر والنثر:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
شعوب العرب أرادت الحياة، وها هي تدق باب الحرية بأيديها المدماة، أيدي شبابها الذي يتقدم موجة عارمة وراء موجة، ببشارة مستقبل طالما انتظرناه، وبشرنا به، وأيقنا أنه آت لا ريب فيه.