بقلم : نقولا ناصر* ... 15.08.2011
(ان التحالف التركي العلني مع الاخوان المسلمين قد حولهم الى قيادة أمر واقع تكاد تختطف انتفاضة شعبية سلمية سورية عامة بدأت بلا قيادة وتكاد تدفعها الى وضع على وشك أن تنزلق فيه الى مجرد كونها انتفاضة طائفية)
تهدد اللحظة السورية الراهنة بأن تفقد تركيا ما بنته في عشرسنوات مضت من العلاقات "الاستراتيجية" مع جوارها العربي والاسلامي. فالمسار الذي تتخذه تطورات الأحداث الاقليمية في المشرق العربي باتجاه دق اسفين يوسع شقة الخلاف التي كانت قد بدأت تضيق بين تيارات "الاسلام السياسي" وبين اجتهادات "التيار العروبي" على الصعيد الشعبي العربي، وباتجاه نسف بدايات كانت قد بدأت تتبلور لشراكة عربية مع دول اقليمية رئيسية مثل إيران وتركيا على الصعيد الاقليمي، هو مسار سلبي بكل المقاييس. ولا يختلف عربيان أو مسلمان في أن دولة الاحتلال الإسرائيلي واستراتيجية الهيمنة الأميركية على المنطقة هما المستفيد الوحيد من الاتجاه السلبي لهذا المسار.
فشق وحدة النضال الشعبي العربي على أساس عروبي – اسلامي، والفصل بين الدول العربية وبين دول الجوار العربي وبخاصة في تركيا وإيران، كانا طوال القرن العشرين الماضي من المعالم الرئيسية للاستراتيجية الغربية الأميركية – الأوروبية التي نجحت جزئيا حتى الآن في التأسيس لشراكات عربية هجينة ومصطنعة مع دولة المشروع الصهيوني في فلسطين كبديل للشراكة العربية الطبيعية بحكم الجغرافيا السياسية مع دول الاقليم الاسلامية وغير الاسلامية في تركيا وإيران واثيوبيا. وما كادت "الثورة الاسلامية" في إيران و"الصحوة الاسلامية" في تركيا تبشر بقلب هذه المعادلة الاقليمية المفروضة على الاقليم من خارجه حتى استنفرت الاستراتيجية الغربية كل قواها لإعادة عقارب ساعة التاريخ الى الوراء، وهي اليوم تجد في "الأزمة السورية" فرصة ذهبية لوأد الشراكة العربية الطبيعية مع دول الجوار الاقليمي في المهد.
ويتضح هذا المسار عندما يتابع المراقب الاختلافات بين "الاسلام السياسي" وبين "التيار العروبي" وهي تتحول تصاعديا الى اختلاف بشأن الموقف من تطورات الأحداث الراهنة في سورية تنذر بوادره باحياء الصراع "الاسلامي – العروبي" إبان الحرب الباردة بين القطبين الدوليين الأميركي والسوفياتي السابق، وعندما يتابع النتائج السلبية للسياسة الخارجية التركية حيال هذه التطورات التي تنذر بانفراط شراكة عربية – تركية واعدة استراتيجيا بدأت تتبلور منذ مطلع القرن الحادي والعشرين عبر البوابة السورية، وعندما يلاحظ المراقب أن المحاولات الجارية علنا وسرا لأقلمة وتدويل أزمة إصلاح وتغيير داخلية بامتياز في سورية إنما تستهدف في المقام الأول فك شراكة سورية – ايرانية تنتظر مبادرة إيرانية شجاعة تغلب الاستراتيجي على التكتيكي للتخلي عن أطماع إيران الاقليمية في العراق والخليج العربي كي تصبح الطريق ممهدة عمليا أمام الطموح الإيراني المعلن الى شراكة عربية – ايرانية.
عندما رفضت الدول العربية دفع الثمن السياسي لهزيمتها العسكرية في حرب عام 1948 للاعتراف بدولة الاحتلال الاسرائيلي تبنت هذه الدولة استراتيجية التحالف مع دول المحيط العربي في تركيا وإيران واثيوبيا لتستقوي بها على القلب العربي الرافض لوجودها. وعندما هددت الثورة والصحوة الاسلامية في ايران وتركيا بالقاء هذه الاستراتيجية الاسرائيلية في "مزبلة التاريخ" كما جاء في مقال كتبه ليون تي. هادار ونشره معهد كاتو الأميركي في 18/6/2010، أصبح ركن أساسي من أركان "الأمن القومي الاسرائيلي" مهددا بالانهيار، وكذلك ركن أساسي من أركان الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
إن هذه الاستراتيجية الاسرائيلية المدعومة أميركيا بخاصة وغربيا بعامة قد حرمت العرب من عمقهم الاستراتيجي في تركيا وإيران واثيوبيا بقدر ما حرمت هذه الدول من عمقها الاستراتيجي العربي، وحولتها الى قواعد أجنبية لحماية المشروع الصهيوني في فلسطين ولتعزيز الهيمنة الأميركية الاقليمية اللذين يحاصران الطموح العربي المشروع الى التضامن والوحدة. وفي تركيا بخاصة، تعزز الفصل التعسفي بين الجانبين سياسيا ودينيا وثقافيا ولغويا منذ قرر أبو تركيا الحديثة الزعيم الراحل كمال أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى التوجه الى الارتباط استراتيجيا بالغرب وخصوصا بالدول الغربية الراعية للمشروع الصهيوني في فلسطين، بعد أن صوت البرلمان التركي على إلغاء نظام الخلافة الاسلامية وإسقاطه في الثالث من الشهر الثالث عام 1924، مما قاد كرد فعل مباشر الى تأسيس جماعة الاخوان المسلمين في مصر بعد فشل الجهود التي بذلت لاحياء الخلافة الاسلامية كما كتب د• محمد عمارة. لقد حولت تركيا أتاتورك (أي "أبو الأتراك") الحدود السورية التركية الى حدود بين حلف الناتو الذي تقوده أميركا وبين حلف وارسو الذي كانت روسيا تقوده في العهد السوفياتي، والى جدار فاصل بين العرب وبين الأتراك.
إن الضغوط الأميركية على الحلفاء العرب والأتراك لزجهم في حرب أميركية بالوكالة من أجل "تغيير النظام" في سورية لا تستهدف تغيير النظام بل تغيير استراتيجيته وتحالفاته، وتستهدف انهاء الشراكة السورية الايرانية بكل أبعادها الاقليمية، وإجهاض أي محاولات لاحياء الشراكة المصرية السورية و"تطبيع" العلاقات المصرية مع أيران بعد ثورة 25 يناير، وهي ضغوط تهدد الآن بإثارة حرب اقليمية، حسب تقارير وتحليلات غربية، وحرب أهلية ممتدة في سورية، بكل ما يثيره هذان الاحتمالان الواقعيان من مخاطر على الأمن الوطني في الدول المجاورة، بقدر ما تهدد بانقسام عربي جديد متجدد له امتدادات شعبية هذه المرة (عروبية – اسلامية)، انقسام يقضي على أي أمل في لملمة حطام ما تبقى من التضامن العربي الرسمي في أي وقت قريب، لكنها ضغوط تهدد أيضا بضياع كل المكاسب التي حققتها السياسة الخارجية التركية من انفتاحها على عمقها الاستراتيجي الجغرافي – التاريخي عبر البوابة السورية، وهي المكاسب التي حفزت الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي الى وصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بانه كان "العربي الوحيد" في القمة العربية التي انعقدت في سرت الليبية بعد أن سمعه يربط مصير اسطنبول بمصير القدس ويربط مصير تركيا بمصير العالم العربي.
إن صبغ السياسة العربية للدولة العلمانية التركية بصبغة طائفية اسلامية تتبناها الاستراتيجية الأميركية كما يتضح في الحالة السورية يهدد استراتيجية "تصفير المشاكل" مع الجوار العربي والاسلامي التي انتهجتها تركيا بعد تولي صاحب هذه الاستراتيجية أحمد داود أوغلو وزارة خارجية بلاده قبل حوالي تسع سنوات، فالحدود المشتركة مع سورية تكاد تعود الى حدود لحلف الناتو، و"التعاون الاستراتيجي" بين البلدين الجارين في مهب الريح، ووقوف تركيا وإيران على طرفي نقيض من الأزمة السورية يهدد "التعاون الاستراتيجي" المماثل بينهما، والتناقض في الموقف من هذه الأزمة بين تركيا وبين روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا والبرازيل ينسف مصداقية الاستقلالية التركية في إطار حلف الناتو التي ظهرت في المبادرة التركية بالتنسيق مع هذه الدول لايجاد حل بديل لأزمة البرنامج النووي الايراني، بينما أعاد التنسيق التركي الأميركي في الأزمة السورية العلاقات الثنائية الى عهدها السابق من التطابق في السياسة العربية للحليفين، مما يجعل تطبيع العلاقات التركية الاسرائيلية مسالة وقت فقط.
لقد كان من المتوقع والطبيعي أن تعزز إيران وتركيا هويتهما الاسلامية باعتبار الدين الحنيف قاسما مشتركا يجمع بين شعوبهم وبين العرب ويمنح صدقية لأي سياسة خارجية للبلدين تسعى الى الانفتاح مجددا على عمقهما الاستراتيجي ومجالهما الحيوي الطبيعي في الوطن العربي، فالهوية الاسلامية للبلدين هي مفتاحهما الى عقول العرب وأفئدتهم. لكن عاملين يكادان الآن يغلقان الأبواب العربية أمام طهران وأنقرة على حد سواء، ويكادان يدفعان تركيا الى أن ترتكب في سورية ما ارتكبته إيران في العراق من أخطاء ترتد سلبا على أي توجه إيراني وتركي نحو انفتاح كهذا ربما يكون انتظار العرب له وترحيبهم به أقوى كثيرا من الرغبة الايرانية والتركية فيه.
فالانفتاح الايراني المنشود على العرب عبر البوابة العراقية كانت له نتائج عكسية حالت دون أن يأخذ هذا الانفتاح مداه الكامل أولا لأنه سعى الى بناء علاقاته العربية عبر قناة طائفية ضيقة فرقت بين العراقيين في وقت كانوا فيه في أمس الحاجة الى وحدتهم الوطنية لمقاومة الاحتلال الأجنبي، فكسبوا طائفة من العراقيين وخسروا طوائف واستعدوها مما لا ينعكس ايجابا بالتأكيد على مستقبل العلاقات العربية العراقية – الايرانية، فالعرب أكبر كثيرا من بضع أحزاب طائفية هنا وهناك والاسلام بالتأكيد أكبر كثيرا من كل طوائفه وأحزابها. وسعى هذا الانفتلح الايراني ثانيا الى بناء هذه العلاقات على قاعدة العداء للقومية العربية وحركاتها السياسية باسم الاسلام الذي وحد بين العرب وبين المسلمين ولم يفرق بينهم الا بالتقوى.
واليوم تكاد تركيا ترتكب في سورية الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها إيران في العراق، فبناء علاقاتها العربية عبر البوابة السورية من خلال تحالف علني لكنه غير معلن رسميا مع جماعة الاخوان المسلمين ليس هو المدخل السليم الى بناء علاقات صحية تمتلك عناصر الديمومة لا مع سورية ولا مع العرب، فسورية والعرب أكبر كثيرا من الاخوان المسلمين والاسلام أكبر بما لا يقاس منهم. صحيح أن استحقاقات الاصلاح والتغيير في سورية تحظى بما يشبه إجماعا وطنيا لا يشذ عنه سوى قلة مستفيدة من استمرار الوضع الراهن وقد اعترفت بضرورة هذه الاستحقاقات والحاحها القيادة والرئاسة السورية وبدأت فعلا السير في طريق التغيير والاصلاح.
لكن الصحيح ايضا أن التحالف التركي العلني غير المعلن رسميا مع الاخوان المسلمين قد حولهم الى قيادة أمر واقع تكاد تختطف انتفاضة شعبية سلمية سورية عامة بدأت بلا قيادة وتكاد تدفعها الى وضع على وشك أن تنزلق فيه الى مجرد كونها انتفاضة طائفية، تحركها الثارات التاريخية للصراع بين الاخوان وبين النظام، وتسعرها القوى الأجنبية والاقليمية ذاتها التي دفعت هذا الصراع في بداياته الى دائرة العنف والعنف المضاد لتعود هذه القوى اليوم مجددا الى فرض "الحل الأمني" على النظام بعسكرة الانتفاضة الطائفية، والعسكرة والحل الأمني، كما أثبتت تجربة الانتفاضة الليبية، هما الوصفة المثلى للحرب الأهلية، وهذه الأخيرة بدورها هي المدخل الموضوعي للتدخل العسكري الأجنبي، والتدخل العسكري الأجنبي في سورية ممكن فقط عبر البوابة التركية، ومن المؤكد أن كل عربي وتركي يحرص على بناء علاقات عربية تركية استراتيجية يتمنى اليوم ألا تنجح استحقاقات عضوية تركيا في حلف الناتو بأبعادها الأميركية والاسرائيلية في وجود من يخطط لذلك في مؤسسة الحكم التركي.
في مقابلة تلفزيزنية أوائل الشهر الجاري، أكد القيادي الاسلامي العربي زعيم حزب حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي ما ينبغي أن يكون من المسلمات: ف"الهوية العربية الاسلامية ليست ملك تيار بعينه"، بل ملك للجميع، فهي هوية الأمة والوطن، وكما قال: "تربينا على أن الاسلام والعروبة شيء واحد، خصوصا في دول شمال افريقيا، أسلمنا ثم تعربنا، فالثقافة التي لدينا والسائدة في شمال افريقيا انه ان لم تتكلم عربي لا تكن مسلما". وربما لهذا السبب جعلت الثورة الاسلامية في ايران ثم الصحوة الاسلامية في تركيا تعليم اللغة العربية الزاميا في البلدين.
إن حزب العدالة والتنمية التركي الذي "خلع رداءه الاسلامي منذ أن وصل الى السلطة"، كما قال أبو الاسلام السياسي التركي المعاصر الراحل نجم الدين أربكان (الشرق الأوسط في 22/10/2007)، قد يعزز رصيده الشعبي داخليا في أوساط الشعوب التركية التي حاولت الدولة العلمانية الفصل بينها وبين ارثها الاسلامي لمدة طويلة دون أن تنجح عندما يحاول تعزيز صدقية خطابه الاسلامي بالتحالف مع جماعات الاسلام السياسي عربيا، لكن هذا الحزب الذي تحول الى حارس مسلم للدولة العلمانية لن يعزز صدقيته العربية بأي تحالف كهذا مع قوى سياسية تعلن صراحة عداءها للعلمانية ودولها وتؤكد ليل نهار بأن الاسلام، لا العلمانية، "هو الحل".
لا بل إن صدقيته العربية تتضرر أكثر حتى في أوساط الاسلام السياسي العربي عندما ستكتشف، إن لم يكن عاجلا فآجلا، بأن النموذج التركي لحزب العدالة والتنمية الذي تسوقه الولايات المتحدة الأميركية الآن كنموذج بديل للنموذج الايراني تحث العرب على الاقتداء به إنما يستهدف دق اسفين بين تركيا وايران، وبين كل منهما وبين العرب، ويدفع بكل منهما لرعاية و"حماية" إحدى الطوائف الاسلامية لتكون إحداها مع إيران والأخرى مع تركيا، لتتحول طوائف الاسلام العربية الى مجرد أدوات في اصطراع ايراني – تركي على قيادة العرب والنفوذ الاقليمي يصرف كل الجهود العربية والاسلامية بعيدا عن خطر دولة الاحتلال الاسرائيلي التي يؤهلها راعيها الأميركي لتكون القوة الاقليمية الوحيدة المهيمنة على العرب والأتراك والايرانيين جميعا.
وإذا لم يستدرك حزب العدالة والتنمية الحاكم بسرعة تراجع تركيا المتسارع نحو العودة الى مرحلة انفصالها عن عمقها الاستراتيجي العربي، فإن الأزمة السورية قد تثبت قبل مضي وقت طويل أن أسلمة السياسة العربية لتركيا ستحول سورية الى مقبرة للآمال العربية والتركية في شراكة عربية – تركية ندية، لأن تحول تركيا الى حاضنة لأي اسلام سياسي ذي صبغة طائفية يشوه صورة تركيا المحايدة بين الأطياف السياسية والمذهبية في الوطن العربي والعالم الاسلامي، ويعيدها الى وضع طرف معاد للحركة القومية العربية التي فتح التيار البعثي فيها الأبواب العربية أمامها، مما يذكر المراقب بان وزير خارجيتها أوغلو قد هاجم هذا التيار بقوة في كتابه "العمق الاستراتيجي". وربما يسجل التاريخ أن تركيا كانت العامل الحاسم في انفراط عقد التنسيق الاسلامي – العروبي الذي توج بانشاء المؤتمر القومي الاسلامي كواجهة لوحدة صفوف أهم تيارين سياسيين عربيين في مواجهة الأطماع الأجنبية.