بقلم : د.خالد الحروب ... 29.08.2011
برؤيوية الشاعر الذي يحضر غيابه بقوة هذه الأيام تخيل محمود درويش في سنوات 1986 و1987 الديكتاتور العربي المثقل صدره بالنياشين وأوسمه انتصارات لم تحدث وهو ينفث ويزمجر خطاباً تلو الآخر. المقالة الماضية استعرضت بعضاً من "خطاب الجلوس"، و"خطاب السلام"، و"خطاب الأمير"، و"خطاب القبر"، وفي هذه السطور نتأمل "خطاب الفكرة"، و"خطاب النساء"، و"خطاب الخطاب"، وهي منشورة بأكملها في العدد الأول من مجلة "الكرمل الجديد" التي تستأنف مسيرة "الكرمل" وكان قد أسسها وترأس تحريرها درويش نفسه.
"خطاب الفكرة" هو خطاب الإيديولوجيا، خطاب الحزب المتبجح باجتراح أفكار عبقرية لـ"تنمية" الوطن وقيادته، وهي كما شهدت التجربة السياسية العربية المريرة أفكار مراهقة سياسية لم تؤد إلا إلى دمار الأوطان وامتهان الشعوب واستعبادها. نتخيل الديكتاتور متصلباً وراء منصته منتفشاً وناثراً أفكاره وإبداعاته الإيديولوجية على الناس: "...أقول لكم ما يقول لي الحزب، والحزب فوق الجماعة/ سنقفز فوق المراحل عصراً وعصرين.. في كل ساعة/ لنبني جنة أحلامنا اليوم في نمط من مجاعة/سنلغي الحِرَف، سنمنع صيد السمك/ ونمنع بيع الدجاج، وبيض الدجاج/ فلنؤمم، إذاً، كل أشجارنا الجائعة/ وكل نباتاتنا الضائعة: ثمانين نخلة، وتسعين تينة، وعشرين زيتونة، وألفاً وسبعين فجلة../ سنلغي الزراعة وندخل عصر الصناعة، بحزب، وشعب، وفكرة".
ويتابع الديكتاتور التفصيل في خطته الخارقة لتحويل الأرض الجرداء إلى جنائن، وكل وسائله لتحقيق ذلك هي منح الشعب حزباً: "أقول لكم ما يقرره الحزب، والحزب سلطتنا المطلقة، سننشئ من أجل برنامج الحزب، من أجلكم، طبقة، هي القوة الصاعدة/ونعلن من أرضنا ثورة الفقراء على الفقراء، فليس على أرضنا أغنياء، لنأخذ أملاكهم. فلنوزع إذاً فقرنا على فقرنا... وهيا بنا، لنصنع من كل حبة رمل خلية، وننجز خطتنا المرحلية: سننتج في اليوم ألف شعار وعشرين شاعراً، فإن الأرض كانت عاقراً، فإن القيادة حبلى بما يجعل الأرض خضراء، حطوا الشعار وراء الشعار وراء الشعار، وهزوا الشعار.. ليساقط الوعي فكرة، تدير المصانع، والثورة مستمرة".
ولأن أمر العظمة وتأليه الذات يجب أن يكتملا بالتماثيل التي تطل على الناس من كل زاوية فإن الديكتاتور حريص عليها أيما حرص كي تتكامل مع "الفكرة": ".. وصفوا التماثيل أعلى من النخل والأبنية، وصفُّ التماثيل أفضل للوعي من أمهات النخيل، تماثيل ترفع كفي إليكم، وتعلي تعاليم حزب لشعب نبيل، تذكركم بنشيد الطلائع: نحن أتينا لكي ننتصر، ولابد للقيد أن ينكسر، ولابد مما يدل على الفرق بين النظام الجديد وبين النظام العميل، ولابد من صورة الفرد كي يظهر الكل في واحد، تماثيل تعلو على الواقع المندحر، وتخلق مجتمع الغد من فكرة تزدهر، فلا تجدعوا أنفها عندما تسغبون، ولا تملأوا يدها بالرسائل ضدي.. وضد السجون، ولا تأذنوا للحمام المهاجر أن يستريح عليها...".
في "خطاب النساء" يتجه درويش إلى منحى آخر، وهذه المرة نحو الديكتاتور في نظرته الرجعية والقروسطية والتسلطية على النساء. الديكتاتور هنا يتسع معنى ليشمل الرجل المهجوس بالنظرة الذكورية الشكاكة في الأنثى بكونها فضيحة قد تنفجر في أي لحظة، وعار سيلحق بشرفه لا محالة: "... على كل امرأة حارسان، وفي كل امرأة أفعوان، ألا.. فاجلدوهن قبل الأوان وبعد الأوان، اجلدوهن في الصبح جلدة لئلا يوسوس فيهن شيطانهن.. وفي الليل جلدة لئلا يعدن إلى لذة الإثم .. واستغفروا الله، وارموا على مرفأ الجرح وردة". ولئن كان الديكتاتور مهجوساً بذات الشك إزاء النساء يبقى عنده همان هما الأكبر: "أقول: سأعلن حرباً على دولة خاسرة، يشارك فيها الكبار ومن بلغ العاشرة.. سأعلن حرباً لمدة عام، تكون النساء عليكم حراماً، وأبعث.. إلى كل بيت، ليأتوا إليّ بكل فتاة وبنت.. وبعدئذ أوقف الحرب، من بعد عام، وأعلن عيد السلام، .. وأبني بلاداً بلا دنس أو حرام، فألف سلام عليكم، وإن النساء حلال عليكم، فلا تهجروهن، ولا تضربوهن.. وهن حبيباتنا، والسلام عليكم، عليهن، ألف سلام، وألف سلام ..".
في آخر خطاباته، "خطاب الخطاب"، يرسم الديكتاتور حدود الكلمات والتعبير ومحاذير استخدام اللغة و.. الخطاب. ولأنه مالك كل شيء ومالك اللغة يعلن ما هو مسموح وما هو غير مسموح، يقول للعامة والدهماء والناس كلهم: "إذا زادت المفردات عن الألف، جفت عروق الكلام/ وشاع فساد البلاغة.. وانتشر الشعر بين العوام/ وصار على كل مفردة أن تقول وتخفي ما حولها من غمام/ فأن تمدح الورد معناه: أنك تهجو الظلام/ وأن تتذكر برق السيوف القديمة معناه: أنك تهجو السلام/ وأن تذكر الياسمين كثيراً وتضحك معناه: أنك تهجو النظام/ ولا تستطيع الحكومة شنق المجاز، ونفي الأسى عن هديل الحمام.. أنا سيد الحلم! لا تحلموا حول قصري بغير الطعام.. فمن لغتي تأخذون ملامح أحلامكم مرة كل عام، ومن لغتي تعرفون الحقيقة بين لفظين: حلال، حرام، فلا تبحثوا في القواميس عن لغة لا تليق بهذا المقام/ فإن زادت المفردات عن الألف عم الفساد.. وساد الخراب/ لأن الكلام الكثير غبار الذئاب، وإن نظام الخطاب خطاب النظام..".!!