بقلم : رشاد أبوشاور ... 08.06.2011
أعترف أنني كتبت مقالتي لهذا الأسبوع ثلاث مرّات، بسبب ما حدث في الجولان، ومن بعد في مخيّم اليرموك، ففي الحالتين سقط شهداء وجرحى كان يمكن أن يبقوا أحياء، وبدون جراح بسيطة أو خطيرة، وأن يواصلوا حياتهم بعد تأديتهم لواجبهم الوطني على مقربة من فلسطين.
قبل أُسبوعين كتبت في هذا المكان بعنوان: بروفة أولى للعودة، وكانت مقالتي تلك بمناسبة الزحف الذي هزّ العدو لما ينطوي عليه من نُذر بما هو آت، بمناسبة 15 أيّار، أي في ذكرى النكبة.
دعوت كغيري من المتابعين المعنيين بمراكمة نضالات شعبنا واستعادته للمبادرة الميدانية في الوطن والشتات، إلى أن تأتي اللحظة المناسبة، مع تصاعد انتصارات شعوبنا العربية الثائرة، لتتوّج مسيرات العودة بالحدث الكبير: الزحف بمئات الألوف من داخل وخارج فلسطين، في مشهد سيبهر العالم، وسيحشر الكيان الصهيوني الذي تنكّر لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، والقرار الدولي رقم 194..الذي لم تفرضه الأمم المتحدة على الاحتلال، ووقفت عاجزة بالفيتوات الأمريكيّة، والانحياز الغربي الاستعماري للكيان الصهيوني، والتواطؤ والتخاذل العربي الرسمي.
حقق شعبنا فوزا هاما يوم 15 أيّار2011 عندما اندفع الألوف عبر الجولان، وعبروا الحدود إلى مجدل شمس، ووقفوا هناك في الجنوب في مارون الراس مطلين على بلداتهم في الجليل متوعدين بالزحف الكبير القادم.
كان الاختراق مذهلاً للاحتلال الذي وقفت وحدات جيشه عاجزة عن منع الزاحفين من تقطيع الأسلاك، واقتحام حقول الألغام..واندفاع بعضهم إلى يافا والقدس.
جيش الاحتلال استعد للمحاولات القادمة، فهو أعاد زرع حقول الألغام، وحفر الخنادق، ووضع الأسلاك الشائكة، ودفع بمئات الجنود المزودين بالأوامر التي تبيح لهم استخدام الرصاص الحي عند أي محاولة احتراق جديدة.
كنت أتوقع أن تكون خطّة الزحف بمناسبة 5 حزيران مدروسة على ضوء ما جرى في 15 أيّار، وعلى ضوء الإجراءات التي اتخذها العدو، وأن يكتفي الزاحفون بالوقوف في مواجهة المحتلين، وهم يرفعون الأعلام الفلسطينيّة، ويشهرون القرار 194 باللغتين العربية والإنكليزية ..بل والعبريّة، في رسالة موجهة للعالم.
كنت وأنا أكتب مقالتي عن البروفة الأولى للعودة أفكّر بتراكم عملنا، ومضاعفة مكاسبنا مرّة إثر الأخرى بدون أن نمنح الكيان الصهيوني أي مكسب في صراعنا الذي يأخذ طابعا شعبيا (سلميا) يضع العالم أمام مسؤولياته وضميره.
ما جرى يوم 5 حزيران، مع الأسف الشديد منح العدو الفرصة لقتل 24 شابا وفتاة بينهم 3 سوريين يبدو أنهم من الجولان، وعشرة من مخيّم اليرموك، والبقية من مخيمات فلسطينيّة مختلفة، ناهيك عن مئات الجرحى المختلفي الجراح!
يوم الاثنين وكنت أكتب مقالة بعنوان: أنا لا أتباهى بعدد الشهداء والجرحى..اتصل بي الصديق الكاتب والباحث و(الأسير) المحرر الذي قضى 11 عاما في سجون الاحتلال، الصديق نوّاف الزرو، وسألني بصوت مهموم: ما رأيك بما حدث في الجولان؟!
أجبته: أنا اكتب مقالة أعبّر فيها عن رأيي بما حدث، وذكرت له العنوان، فعرف رأيي، ووافقني على أن ما حدث خسارة، وأنه لم يضف لما حدث في 15 أيّار.
كنت مترددا في إرسال مقالتي للجريدة، فكتبت مقالة بعنوان: 5 حزيران آخر.
صبيحة الثلاثاء فوجئت بما نقلته وسائل الاعلام عن ما حدث في مخيّم اليرموك، فبادرت للاتصال ببعض الأصدقاء الذين أكدوا لي الأنباء السيئة، مع تفاصيل مؤلمة، بل مفجعة.
في جنازة الشهداء بمخيم اليرموك ارتفعت هتافات ضد الفصائل وقياداتها، وعمد بعض الأشخاص إلى مهاجمة ماهر الطاهر القيادي البارز في الجبهة الشعبية، ولم يكتف هؤلاء بضرب بعض القياديين وشتمهم وطردهم من مسيرة التشييع الحاشدة، بل توجهوا حاملين (قنابل) المولوتوف وهاجموا(الخالصة) المقّر القيادي للجبهة الشعبية في المخيم، وقذفوه بالقنابل الحارقة، وهاجموا الموجودين وقتلوا بالسكاكين أحد القياديين واستولوا على بندقيتين ..وتواصلت الاشتباكات حتى الثانية والنصف من فجر الثلاثاء..وسقط حوالى عشرة قتلى، وعشرات الجرحى!
لا شك أن شعبية الفصائل بشكل عام متدنية، وقياداتها لا تتمتع بسمعة حسنة لأسباب كثيرة، ولكن ما حدث، برأيي، ليس سببه تدني الشعبية..ولا الحقد(الطبقي) بسبب الامتيازات التي يتمتع بها (بعض) القادة..وليس كلهم، فهناك قيادات تعيش حياة متواضعة في المخيمات مع شعبها، ومنهم ماهر الطاهر نفسه، والكوادر الموجودين دائما في مقّر (الخالصة) هم غالبا أسرى محررون قضوا أكثر سنوات عمرهم في معتقلات العدو.
هل حدث الانفجار الدموي بسبب سقوط الشهداء في الجولان؟
هذا وارد، فالجماهير الفلسطينيّة التي اعتادت تقديم التضحيات، وتوديع الشهداء بالزغاريد والورد، ربما لم تر أن أبناءها دُفع بهم للموت لأسباب تكتيكيّة تقف وراءها بعض التنظيمات.
من اتصلت بهم، وأنا أثق بهم، أكدوا لي أن لا أحد دفع بهؤلاء الشباب إلى الجولان، وأنه بعد وصول الأخبار عن سقوط شهداء اندفع الألوف إلى الجولان، وما عاد أي طرف قادرا على السيطرة على تدفق الجماهير التي اندفعت للجولان من عدّة محافظات.
مخيّم اليرموك يتداخل مع بلدية (الحجر الأسود) التي يقطنها ألوف السوريين، وهو محاط بمناطق أكثرية سكانها من السوريين النازحين إلى دمشق من المدن السورية.
هل هناك من يهمهم إقحام الفلسطينيين في الأحداث المتفجّرة شعبيّا في سورية؟!.
هنا أتوقف لأذكّر بتصريحات الدكتورة بثينة شعبان التي ادعت في أحد تصريحاتها المبكرة بأن المسلحين الذين اشتبكوا مع رجال الأمن خرجوا من مخيم الفلسطينيين في اللاذقية!
ثمّ سمعنا تصريحا للمعارض السوري هيثم المالح قال فيه (بحسد) شديد تفوح منه رائحة إقليميّة مريضة: الفلسطينيّون يشغلون أكثر من 70 ألف وظيفة في سورية!
الفلسطينيون يتحسسون جدا من استعمالهم (بيادق) شطرنج في الصراعات الداخلية، وبين نظم الحكم العربيّة، وهم ملّوا من مجاملات الفصائل وقادتها وصراعاتها، لذا فليس مستغربا أن ترتفع شعارات رافضة ومدينة لها.
لكن: هل يبرر هذا أن تهاجم الخالصة بالمولوتوف، وأن يذبح أحد المناضلين بالسكاكين، ويساء لسمعة المخيم، وتضرب هيبة التحركات الشعبيّة الفلسطينية التي جعلت من حق العودة هدفا مركزيا لكل الفلسطينيين حيثما كانوا، وتحويله لكلمة السّر التي تجمع كل أبناء شعبنا، وتلّف حولهم ملايين العرب خاصة في زمن الثورات المنتصرة والتي ستنتصر حتما!
كنت كتبت مقالة بعنوان: 5 حزيران آخر..ولم أفاجأ بأن الصديق ميشيل كيلو كتب بنفس العنوان مقالته المنشورة أمس، ولا فوجئت بأننا نلتقي في الجوهر، فالثورات العربيّة المنتصرة ستبشّر حتما بتحرير فلسطين..وإلاّ لن تكون ثورات حقيقيّة.
وأعود إلى ما جرى في مخيّم اليرموك، ولست أُخفي أن هناك من يريد أن ييئس شعبنا ويربكه، ويفقده أي انتصار، ويغلق في وجهه الطريق الذي بدأ يسلكه معتمدا على نفسه من جديد في إعادة الحضور للقضية الفلسطينيّة، مستقويا بملايين العرب الذين بدأوا يتحررون بعد أن احتلوا الميادين والساحات..وأسقطوا بثوراتهم العظيمة نظم الاستبداد والطغاة.
أثق بأهلنا في مخيم اليرموك مخيم الثورة والشهداء، وأتوقع أن يتجاوزوا هذه (المحنة) وأن يضعوا أيديهم على أسباب ما حدث، بحيث لا يتكرر أبدا.