بقلم : د.خالد الحروب ... 28.03.2011
عندما أطلق الثلاثي جبران مساء السبت الماضي موسيقى العود استذكاراً لمحمود درويش وصوته يهدهد المسرح اللندني الواسع، كان للأمسية طعم مختلف. في اليوم نفسه كانت شوارع لندن الرئيسة شبه مغلقة بسبب آلاف المتظاهرين الذين توجهوا إلى ميدان ساحة الطرف الأغر والهايد بارك يريدون تحويلهما إلى "ميدان تحرير". المتظاهرون البريطانيون غاضبون على حكومتهم بسبب التخفيضات الحادة في الإنفاق على الخدمات العامة بشكل يمس شرائح واسعة من الفقراء ومن الطبقة الوسطى. الجمهور الذي جاء للاستماع إلى موسيقى جبران وشعر درويش وتدفق على المسرح، وصل متأخراً بسبب انسداد الشوارع وتعثر خدمة القطارات بما أدى إلى تأخير بداية الأمسية. ليست هذه المرة الأولى التي يعزف فيها الأخوة الثلاثة القادمون من شمال فلسطين أوتار إبداعهم الجماعي الذي اخترق قوائم الألبومات الأكثر مبيعاً حتى في الغرب نفسه. وليست المرة الأولى التي يُغنَّى فيها شعر درويش في العاصمة البريطانية. لكنها المرة الأولى التي تتلاحم فيها الموسيقى والكلمات الدرويشية والعرب هنا يرفعون رؤوسهم فخراً بالانتماء إلى هويتهم. أغلب المهاجرين العرب في بلدان الاغتراب كانوا قد بدأوا يخجلون من هويتهم العربية. كان كثير منهم يتهربون من عروبتهم بسبب الفشل التاريخي الذي وسم بلدانهم، والدكتاتوريات التي أخضعت شعوبهم، والتأخر في ذيل قوائم التنمية والتقدم والحريات، بل واختراع استشراقات جديدة تؤبد تخلفهم بمقولات ثقافوية وربما جينية أيضاً.
الآن اختلف المناخ والمزاج. تدفق أكسجين الثورة في شرايين كانت قد تيبست، وصار العرب وثوراتهم مصدر إلهام للشعوب الأخرى. من كان يحلم أن ساحة الهايد بارك، المعلم البارز لحرية الرأي والتعبير عن كل ما يمكن أن يخطر ببال أحد، تريد أن تتأسى بنموذج ميدان التحرير؟ من تخوفات الحكومة الصينية، إلى شعارات المتظاهرين في لندن، وحتى ولاية ولكنسون في أميركا، صار "ميدان التحرير" هو الاسم الحركي لمطالب الناس والمحفز الكبير لانطلاقهم للدفاع عن حقوقهم وانتزاعها.
لم يعد الولوج إلى قاعة تضم نشاطا عربياً أياً كان هروباً من أسئلة كثيرة كانت تلاحق الجميع هنا: لماذا لا يثور العرب ولماذا تقبل مجتمعاتهم فساد وبطش أنظمة قزمت كل قصص الفساد والبطش المعروفة حاضراً وماضياً؟
صار لصوت العود الندي وشعر درويش المفخم بصوت إلقائه السندياني مذاق آخر. يطيران معاً، الموسيقى والشعر، إلى خارج المسرح وينتشران في الشوارع المحيطة. على نغمات أوتار الجليل، كان إعلان درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، كأنه البيان رقم صفر والبيان رقم مليون لكل الناس التواقين للكرامة والحرية.
"في ظل الكلام"، هي الأمسية البديعة التي نظمها مركز خليل السكاكيني أول مرة برام الله في أربعينية درويش، في قصر الثقافة حيث ألقى درويش شعراً لآخر مرة في حياته. في الأول من يوليو 2008، وقبل سفره إلى الولايات المتحدة لإجراء عملية جراحية، قرأ الشاعر رثاءه لذاته في القصيدة الحزينة "لاعب النرد". من استمع إليه يومها يشدد على التساؤل الوجودي: "من أنا لأخيب ظن العدم"، أدرك عمق اليقين بالنهاية المحتومة الذي استولى على وجدان الشاعر، وأدرك إحساسه بالمغادرة للمرة الأخيرة. هو الموت الذي تحداه الشاعر في جداريته: "هزمتك يا موت الفنون جميعها، هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبد... هزمتك".
يموت جسد الشاعر لكن روحه الوثابة شعراً تظل تدندن هنا وهناك كأنما اليوم في تناغم أنيق مع اخضرار حاضر العرب المؤمل: "يا أرضُ خضراءَ... أحبك خضراءَ، تتموَّج في الضوء والماء. خضراء. ليلُكِ أَخضر. فجرك أَخضر. فلتزرعيني برفق، برفق يد الأم، في حفنة من هواء، أنا بذرة من بذورك خضراء".
شعر درويش اليوم بدا مغناة إنسانية تخطت جغرافيتها الفلسطينية. حملته ثلاثة أعواد مبدعة تعزف ذات الجملة؛ تفخمها وتضاعف زخمها، وعوض أن نسمعها منفردة من عود واحد تأتينا ثلاثية، أو تتباين وتتكامل في تسطير صاعد أو نازل، ينسجه الأخوة الثلاثة بعبقرية مدهشة. أصحاب "مجاز" و"أسفار"، يحملون الآن "ظل الكلام"، ويدورون به في عواصم العالم. يدندنون شعر درويش صافيا ندياً بلغات عديدة. فكما أبدعت الجالية الفلسطينية في بريطانيا التي نظمت الأمسية الندية، تتلاحق دعوات عديدة تأمل من صناع العود السفر هنا أو هناك لتعليق يافطات ما يستحق الحياة على هذه الأرض في هواء كل المدن.
على بوابة المسرح المعطرة بتنويعات الأعواد الثلاثة ودع كثيرون كثيرين. كان أصدقاء كثر من سوريا ما زالت حناجرهم ساخنة بعد يوم تظاهر أمام سفارة بلدهم تندد بقمع المتظاهرين في المدن السورية. شباب وصبايا في أوائل عمر الأمل، ظلوا يرددون على أرض الشام ما يستحق الحياة. كانت هناك دموع خجولة ترقرقت في بعض المآقي. كان منظر رجال الشرطة البريطانيين وهم يحرسون المتظاهرين المسالمين ويسهلون لهم مهمة التظاهر، تغرس نصلاً بطيئاً وحاداً في قلوبنا جميعاً. لماذا هنا فقط وليس هناك أيضاً؟