بقلم : موسى الحجوج ... 12.08.2010
اذكر جيدا وما زالت تلك الأيام وتلك المشاهد الجميلة راسخة في مُخيلتي حتى يومنا هذا ,مشهد يأبى النسيان , مشاهد عديدة مازالت محفورة في ذاكرتنا التي تحمل من ماضي البادية الجميل الذي لا ينضب ابدآ, فعندما كانت تزورنا إحدى النساء التي تسكن قريباً من مضارب العائلة وفي الجوار كانت تزورنا هي وغيرها في مناسبات عديدة مثل ولادة مولود جديد أو شِفاء مريض أو طهور طفل وما شابه ذلك , اذكر إنها وغيرها كانت تأتي ومعها "الفراحه" وهي ما تجلبه معها النساء من أطعمه متنوعة كالعجوة ,الكعك المدور والحلوى وغيرها ,فكانت تأتي أحيانا بمفردها للزيارة وأحيانا مع مجموعة من النساء للمباركة . اذكر حينها انه لم تكن "القراطيس" متوفرة بكثرة كما اليوم فقد كانت تأتي بما تجلبه من "فرايح" وهي جمع فراحه في شاش كبير ومربوط جيدا وتضعه أحياناً على رأسها , وكنا ما أن نلمح الضيفة العزيزة حتى نركض نحوها مسرعين من كل حدب وصوب ونحمل معها "الفراحه" ليس حُباً في مساعدتها بل حُباً في ما يحمله الشاش الملفوف جيدا وأيدينا تتلمسه جيدا لكي تعرف ما المخفي في الشاش , وكُنا أشبه بحَرس زعيم من زعماء العرب الذين يحوطونه مع فارق بسيط وهو إن حرس الزعيم يخشون عليه من الأذى وعلى سلامته ولكن نحن كنا أكثر ما نخشاه هو سلامة "الفراحة"التي فوق رأس المضيفة أو في أيديها.
وحين تجلس وعند استقبالها من قبل أمهاتنا الحنونات احن الله تعالى عليهن في قبورهن وجعل مثواهن الجنة , يبدأ التدافع حول الضيفة فينهال عليها الأطفال من كل حدب وصوب وأمهاتنا يصرخن ويرددن كلمات لا أنساها: فظحتونا يا أولاد, هتكتونا قدام الحرُمه الله يهتكوا , يا ولد ..يا عيل . ولا تأبه الضيفة بهذه المسرحية الواقعية وذلك كون هذا المشهد نفسه مألوفا ويتكرر عندها وعند جيرانها وعند كل الأهل في البادية آنذاك , فتجدها تضحك وتطلب من أمهاتنا أن تترك الأولاد يفرحوا وينالوا نصيبهم من الفرايح . ويدور الأولاد في حلقة دائرية يعجز اكبر مصور أو مخرج سينمائي عن تصويرها وإخراجها .ومن شدة الهجوم كان هناك من يظفر بالعجوة وهو القوي من الأولاد ويهرب بها بعيدا ويختبئ في مكان ما لكي لا يراه احد والويل ثم الويل لمن يقترب منه , وهناك من "يتشابط" على الكعك المدور بعد أن يأس من محاولة الحصول على قطعة صغيرة من العجوة ويكتفي "بالكعيكبان" وهو نوع من الحلوى القديم دائري الشكل . وهناك من "يعول" ويرمي نفسه في "المراغة" وهو يبكي لأنه لم يحصل على ما أراد وهناك من هم من الضعفاء في الجثة لا يستطيع أن "يشابط" فيكتفي مما تحصل عليه معدته ويكتفي بالقليل ليس قناعة بقول الإمام الشافعي رحمه الله :كن غني القلب واقنع بالقليل بل قناعةً بحالته الجسدية التي لا تستطيع أن تقاوم كبار الجثة , وأيضا هناك من يكون يرعى الأغنام فيرى الضيفة قادمة من بعيد وحولها الأطفال فيترك القطيع ويعدوا بسرعة ليصل قبل وصول الضيفة ليظفر ولو بالقليل من فراحة الضيفة , وهناك من يكون نائم فيقوم الآخرون بالصراخ عليه لينهض من النوم ليظفر بنصيبه من الفراحه وباختصار كان هناك إجماع وتنسيق كامل على أن الفراحة يجب أن تكون قسم كبيرا منها لهم . أما الذي "عوّل" فلا تنفعه ولا ترضيه كل منتوجات السوق الأوروبي أو بلدة الظاهرية وأكثر من ذلك لكي يرضى .فهو سيغضب غضبا شديدا وعند غضبه سيقوم على رجليه ,واذا وقف على رجليه "كان ربنا يسلم العرب منه " يبدأ برمي وإلقاء الحجارة فيهدد سلامة أهل البيت والضيفة لذلك تجد أمهاتنا الحنونات احن الله عليهن في قبورهن يحرصن على أن يستلم هؤلاء الذين مصابون بداء "التْعِوِلْ" العجوة والحلو وكل ما يريد قبل أن يلقي نفسه في المراغة" وهي كوم الرمل وقبل أن يغضب فغضبه كغضب أمريكا على بن لادن.واذكر انه بعد أن يهدا غبار معركة الفراحة" وتعود الحياة لمجاريها الطبيعية تقوم أمهاتنا بالعزومة الصادقة الخارجة من القلب والغير متصنعة , تعزم الضيفة على الطعام مما تجود به الحياة فلا ثلاجات ولا ميكروغالات ولا غسالات ولا افران ,ولا أي شيء من إمراض اليوم . وكان الغداء عبارة عن طيور الدجاج منها الدجاجة ومنها الديك . لم تكن آنذاك دكاكين قريبة من منطقتنا فكانت اقرب دكانه تبعد نحو 2كم وهي لا تبيع الدجاج .فَتُلمِحْ لنا أمهاتنا الحنونات رحمهن الله بالإشارة وهي أن نبدأ بمطاردة الدجاج والديوك والإمساك بهن لذبحهن إكراماً للضيفة العزيزة على قلوبنا والاهم من ذلك على معدتنا نحن الصغار. وعندما نلمح الإشارة تبدأ المطاردة الصعبة والشاقة فنعرف أي دجاج علينا أن نمسك أو أي ديك أو أي حبش وغيرها من الطيور الداجنة, وكان الجميع حُفاة لا نِعال في أقدامهم, وتستمر المطاردة حوالي عشرة أو ربع ساعة والسبب يعود في سرعة الديوك العربية وكذلك أنثاها الدجاج العربي , فالدجاجة العربية سريعة مراوغة وهي أيضا "تفضح" من يحاول الإمساك بها وتصرخ عاليا بكل جوارحها "قاق..قاق" ولذلك كانت تُبدي مقاومة شديدة وشرسة , وأثناء ركضنا ومطاردتنا للدجاج يحدث أن " يعثر احدهم في الشادح وهو حبل من حبال البيت ويسقط أرضاً ولكنه سرعان ما "يَتُكْ" ملابسه ويستمر في المطاردة , وهناك من يطارد الديك او الدجاج فوق "الحظنه" وذلك عندما تصعد او تطير الدجاجة فوق بيت الشعر ويُسْقِطْ أعمدة البيت ,وأخر تكون أمهاتنا الحنونات قد سكبن ماء الغسيل أمام البيت بعد أن انتهين من الغسيل فيزحلق على الطينة ويسقط "ويَتَشّنْقَعْ"ولكنه لا ييأس ويستمر في المُطاردة , وهناك من يجد إثناء مطاردته قطعة من النقود مثل الاغورة أو الشيكل فيفرح فرحا شديدا يكاد أن يُسبب لهُ الإغْمَاء فيترك المطاردة ويذهب إلى بيته أو لمكان ما ليُخبئ ما وجده من نقود ومن ثم يعود للمطاردة , وهناك من"يُلوِحْ "من فوق "بُراد" الشاي فتعلق قدماه في ممسك البراد المصنوع صناعة محلية من أسلاك الحديد فَيسْكُبْ الشاي على الأرض وعلى الضيفة ولكنه لا ييأس ويستمر في المطاردة , وهناك من تعثر قدماه في وثد من اوثاد البيت "ويتبعبل" أي يتدحرج أرضاً ولكن لكي لا يضحكوا عليه يستمر في المطاردة رغم الألم ,ومن ثم ينزوي في احد الأماكن القريبة مثل حوش الأغنام ويمسح مكان الإصابة وهو يبكي من شدة الإصابة ويتلوى ألماً وعندما يقترب منه احد المطاردين يتظاهر وكأنه يطارد الدجاج لكي لا يضحكوا عليه , خلاصة القول إن الجميع كانوا عبارة عن مشروع شهادة وتضحية إكراماً وكرماً وحُباً وإخلاصاً للضيفة الطيبة .وعندما نمسك بالدجاج يحدث أحياناً شجار أو طوشة صغيرة بين الأولاد فتجد إن اثنين قد امسكا بالدجاجة في نفس الوقت ويركضون الاثنين نحو أمهاتنا رحمهن الله والكل يَدعي انه هو الذي امسكها أولا والثاني يقسم اليمين وبمكة المكرمة وبأ أبو هريرة والشيخ نوران انه هو الذي امسكها الأول وليس في الأمر سوى أن كل منهما يريد أن يثبت نفسه أمام أمهاتنا انه كان جدير بما نال من "الفراحة" ولعلى وعسى أن تعطيه لاحقا مما بقي من الفراحة في "السدة" والسدة خزانة صغيرة تحفظ فيها أمهاتنا الحنونات أمتعتهن ولوازمهن , وأيضاً ليظفر بالفراحة القادمة مع قادم الأيام, ويذبح الأولاد الكبار الدجاج الذي تم الإمساك به وننتظر وجبة الغداء . وكانت أجمل ما يكون فتجد إنهن رحمهن الله يعملن كل شيء من قلب حنون مخلص وصادق فنشارك جميعا في الطعام وتعزم المضيفة بقية جاراتها ويجلسن حتى ساعات الظهر فتعود إلى بيتها بعد أن أدت واجب مقدس وهو زيارة الجار .
واذكر إن الضيفة أو الضيفات يحضرن معهن أولادهن الصغار أو الذين في مثل عمرنا وكنا نلهو ونلعب معهم وكان لهذا الأمر الشيء الايجابي كونه يقوي الصلة والروابط الاجتماعية بين أهل المكان, وفي نهاية الزيارة تخرج أمهاتنا رحمهن الله و"يقَطِعْنَ" الضيفة والقصد بذلك مرافقتها إلى خارج بيت الشعر بعشرات الأمتار لتودعها وتشكرها على الزيارة حيث كانت هذه العادة سائدة آنذاك ,وفي هذه البرهة من الزمن تتعرض السدة لعملية سطو وسلب ونهب وذلك أثناء غياب الأم عن السدة وهي منشغلة في وداع ضيفتها , حيث كان الأولاد ينتظرون هذه اللحظة بفارغ الصبر حيث يتم الهجوم على السدة التي وُضعت فيها الفراحة أو قسم منها ويتعارك الجميع من اجل الحصول على الحصة الكبرى من الفراحة وبقاياها ومن يحصل على أي قطعة من الفراحة يهرب بعيدا ليلتهمها وحده , وأحياناً يُعينون لهم مراقب وحارس لرؤية قدوم أمهاتنا من بعيد بعد أن تودع الضيفة مقابل نسبة معينة من غنائم عملية النهب وما أن يلمحها قادمة فيبدأ بالصراخ وينادي على "غُزاة" السدة بالهرب ,واذكر إن اثنين من المتعاركين وقد كانا كبيري الجثة قد عَلِقا أثناء عملية السطو على السدة وحاولا الخروج من السدة ولكن دون جدوى فما كان من أمهاتنا أن تناولت شجيرة "المتنانة " التي تُستعمل لتنظيف بيت الشعر تناولتها وانهالت عليهما بالضرب فكان ما ذاقا من المتنانة أكثر مما قد يذوقاه من العجوة والحلو في حياتهما وقد خرجا من "معركة" السدة بصراخ وعويل .واذكر جيدا إننا كنا نشاهد من بعيد امرأة أو امرأتين قد قدمن من بعيد ونسرع نحوهن كوننا ظننا إنهن ضيفات وكم تكون خيبة أملنا كبيرة عندما نكتشف إنهن "شحادات" يطلبن المال والرزق فيصيبنا الحزن والخيبة من ذلك الأمر .
كل هذه الأمور لم تعد موجودة فقد تبدلت الأمور وتقلب الزمان إلى زمان أخر حيث غدت ومضت, وأضحت البادية حزينة كئيبة مما يمر عليها من تغيرات قسرية أناخت بكلكلها على كل ما هو جميل من تراثنا الغالي الجميل , إنني إذ اذرف الدمعة الحزينة على تلك الأيام التي مضت أتمنى من الله تعالى أن يعيد أطفالنا إليها ولو بعد حين ليتمتعوا بالحياة الحقيقية الجميلة الصادقة التي لا غبار فيها ولا تَصنُع.إن البادية لتبكي, وبُكائِها مُراً حزيناً صامتاً قاتلاً على ما يجري فوق ظهرها وليت تلك الأيام تعود حيث كان كل ما يجمعنا هو الحب الصادق والوفاء للجار ولكل أهل المنطقة.وكل عام وانتم بخير.