بقلم : موسى الحجوج ... 25.11.2010
كان لجارتنا رحمها الله تعالى واسكنها فسيح جناته مجموعة من الدجاج، وكان للدجاج ديك كبير الحجم لونه في غاية من الجمال، حيث امتزجت ألوان الديك الزاهية وكأنها قوس قزح في ذروة انطلاقه, كان عُرف الديك أحمر وشديد الاحمرار حتى يُخيّل لمن يشاهده بأنه تاج أحد الملوك، وألوان ريشه ناصعة منها الأبيض وهو الأكثر والأحمر وكذلك الأسود, وكانت جارتنا رحمها الله تحب دجاجاتها كثيراً ولكنها كانت أكثر ما تحب في الدجاج ديكها الجميل, فكانت تعتقد أنه ملاك إذ كان يوقظها على صلاة الفجر وهو يصيح ويصدح بصوته العذب ويطرد الأرواح الشريرة والشياطين بآذانه في الفجر، ولذلك دأبت الجارة على الحفاظ عليه وتوخت الحيطة والحذر بالاّ يمسسه مكروه.
ومن شدة محبتها لديكها كان الديك الجميل ينعم بألذ وأطيب وافخر الحبوب وأشكال الطعام،كان الديك مدللاً دلالاً لا مثيل له، فكانت الجارة تطرد وبعنفٍ شديد بقية دجاج الجيران، بل وتذيقهن أقسى أنواع العذاب كما أن الحيوانات الأليفة تخشى من النظر صوب بيت الجارة وذلك من شدة ما ذاقته من ضربات وصفعات وويلات الجارة التي تحرس جيداً على ديكها وزوجاته من الدجاج.
كانت الجارة رحمها الله "شرانية" قاسية فكانت النساء والأطفال يخشونها من شدة خشونتها، ثم الويل والويل لمن تجده قرب "الخم" أو "المقر"، وكان كلبنا المسكين قد مر من هناك صدفة فلمحته بعينها ومن "الرواق" هجمت عليه بعصا غليظة وانهالت عليه بالضرب مع الشتم والصراخ فهرب كلبنا المسكين وهو يصرخ بشدة ويلعق ذيله من شدة الضربات التي تلقاها حتى إنه غاب عن "دحوه" ثلاثة أيام لا نعرف أين قضاها، ولم يهمنا الأمر فمن يجرؤ أن يسأل الجارة عن ضربها للكلب.
وحدث أن أحد الأولاد قد ظن أن الجارة الطيبة غير موجودة في بيتها فذهب لهناك يريد السطو على خم الدجاج، فكانت الجارة هناك قد كمنت له فأمسكت به وبعد تحقيق بسيط اعترف الولد بالجريمة وسوء نيته فإذاقته ألوان وأصناف العقاب ما لم يذقه معتقل مسلم في غوانتانامو، وخرج الصبي من عندها وهو يتلوى من شدة الضربات "والقرص" بعد أن أقسم لها أنه لن يعود لفعلته أو التفكير بالأمر.
وآخر يبدو أنه اقترب من الخم ولكن من شدة حرارة الشمس، حرارة شمس تموز غلبه النعاس ونام على فوهة الخم وأمسكت به متلبساً فذاق من الضرب ما لم يذقه آخر في حياته. وحدث أنها تعاركت مع إحدى النساء فأخذت تضرب المرأة المسكينة بعنف وقد حولت شعرها إلى ما يشبه قطعة جلاية قديمة ولم يجرؤ أحد على فكّ العراك لأن الدور سيكون عليه.
كان ممنوع أن تنظر إلى الدجاج مجرد نظرة، كل ما عليك فعله أثناء مرورك من جانب الديك وزوجاته هو الالتفات إلى مكان آخر كي لا تلحظك بعينيها المراقبتين لكل أمر ولكل شاردة وواردة، وكان الديك وزوجاته وربما بفطرة الطيور يشعرون بالعزة والكبرياء وكأنه في مارش أمام جمهور كبير ويصفق له زعماء العالم، كان متبختراً في مشيته ويشبه قائد كتيبة في عرض عسكري كبير.
ومن شدة الإعجاب بديكها أصرت الجارة على أن يربط الجميع كلابهم وأن يقصروا رباطها لكي لا تسبب الأذى إلى ديكها الإمبراطور الكبير.
كان الخم أشبه بقصر من قصور كسرى فكان واسعاً وله عدة أبواب، وكان الخم نظيفاً تنقصه فقط المكيفات الكبرى فكانت تنظف الخم يومياً وكان الديك له غرفة كبيرة في الخم ينام فيها نهاراً وأثناء الليل لينهض باكراً ليصدح بصوته العذب ليوقظ الجارة من نومها للصلاة.
كانت الحبوب الدسمة تنهال على الديك وزوجاته من الجارة وكذلك الماء العذب وقطع الثمر العذبة كالتمر والعنب، وكان الخم بمثابة خمس نجوم أما دجاجنا المسكين وديوكنا الحزينة فقد كانت تشاهد كل هذا الدلال والعزة التي ينعم بها ديك الجارة المقدس وهي تبكي بصمت قاتل فهي لا تحصل إلا على القليل القليل.
وجاء ذلك اليوم الذي لم يتمناه أحد، ذلك اليوم الذي لم يكن في البال ولا في الخاطر، فقد هجعت يومها القبيلة في سبات عميق وكان نومهم طويلاً وساكتاً ولم يسمع يومها صياح وصداح ديك جارتنا الطيبة، ولم تستفق على أذان الديك فقد غطت يومها في سبات عميق، وتركت للأحلام الطفولية أن ترافقها في نومها الطويل، فزعت من نومها وكانت الشمس قد بدأت بالشروق، نهضت من نومها العميق وهي تتمتم وتتعوذ وتستغفر الله على تأخرها في النوم وكيف أن صلاة الصبح قد مرت دون أن تصليها، وكان قلبها على ديكها وبعد الصلاة هجم الصباح على مضربنا، وهجمت هي على خم الدجاج لتطعم إمبراطور الديكة وزوجاته فتوقف قلبها وأخذ يخفق بسرعة شديدة إنها ترى الدجاج ولا ترى الديك ففزعت وأصابها الذعر الشديد فلا أثر للديك، أخذت تنظر لكل صوب فلم تقع عيناها على شيء، هل غادر مبكراً اليوم أم خطفه أحد وأراد به سوءاً ؟ كل هذه الأفكار خالجت مخيلتها وقامت وأخذت تتفحص بقية الأقنان، وشاهدها الكبار والصغار وبقوا حبيسي بيوتهم إذ كان هذا اليوم بمثابة حظر للتجوال فالجندي أو القائد اختفى والقوة الخارقة التي يخشاها الجميع تبحث عنه، بقينا في بيوتنا وكانت تحمل عصا طويلة ومرعبة الشكل والحجم فلم تعثر له على أثر، كانت تتوعد وتشتم، تتوعد الجميع واستمرت بالبحث حتى أيقنت أنه ليس في العرب.
نادت علينا الصغار وطلبت منا البحث عنه في الأودية والسهول ومن يأتيها بمعلومات قيمة عن الديك المقدس فله "فراحة" كبيرة، فانطلق الصبية الكل نحو مراده يبحث ويبحث حتى أن أحدهم جاء مسرعاً ووصل إليها وأخبرها أنه عثر على ريش الديك الملون جنب السدرة فبكت حزناً عليه وسارت نحو السدرة وتعرفت على ريش ديكها والألم والحزن يعتصران قلبها حزناً عليه وسالت دموعها وطردت الصبية من المكان وبقيت للحظات طويلة تودع ديكها بعبارات الحزن والأسى وجمعت ريشه ووضعته في خرقة بيضاء وهي تبكي بدموع وقلب حزين، وبعد فحص الأمر اتضح أن ثعلباً هو الذي قتل وفتك بالديك ويتّم صيصانها ورمّل دجاجاتها المسكينات اللواتي تحولن إلى أرامل يواجهن مشاق الحياة بعد وفاة زوجهن الإمبراطور.
قررت الانتقام من الثعلب فأخذت معها بعض الشباب وأخذت تراقبه من بعيد وأعدت للغدار الماكر خطة ومصيدة لكنه لم يظهر إلا في اليوم الرابع بعد انقضاء فترة الحداد، كان يختبئ في ساعات الغروب وراء "المتنانة" وهي شجيرة متوسطة الطول وما إن هجم الليل على قبيلتنا حتى اقترب الخداع الغدار وأخذ يقترب ويدنو لعله يظفر بديك أو دجاجة من دجاجاتها، وقد شعر بالأمان وهرب الخوف منه فدخل الخم وهو آمن، وبعد أن تيقنت بدخوله أقفلت مع الشباب الباب عليه بقوة وأخذ الثعلب يصرخ ويصرخ ويركض بسرعة داخل الخم لكن دون جدوى، تظاهر الثعلب بالموت وأخرج الزبد من فمه لكن من يضحك على جارتنا ؟ الثعلب؟ فأمرتهم بإخراجه من الخم، وأخرجوه وربطوه وبطحوه أرضاً وهو يتظاهر بالموت، فقال لها أحدهم إنه ميت فصفعته وقالت له: اسكت أنا أخبرك أنه مكار وخداع، فشدوا وثاقه ومن ثم أخذت تنهال عليه بعصاها القاتلة ويبدو أن الثعلب قد أدرك أن جارتنا جدية في ضربها فأخذ يصرخ ويصرخ وهي تردد: اليوم خلاصك ..طشّر الديك يا مكار.. من وده يصحيني لصلاة الفجر أنت يا خداع!، وما هي إلا لحظات حتى صمت صوت الثعلب إلى الأبد وقامت ولكي تتأكد من موته فأشعلت ناراً كبيرة وأحرقته فلم يبق من الثعلب أي شيء، وكان الشباب يشجعونها على فعلتها خوفاً منها وليس حباً في الانتقام من الثعلب، وعادت لبيتها وإشارات النصر مرسومة على جبينها فارتاحت هي من الثعلب وارتاح الناس من مصائبها ومصائب ديكها.