بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 25.06.2011
يستفز الغرب عموما المشاعر العربية بتعليقاته على الحركات الشعبية العربية، وبتهديده للحكام الذين هم من مخلفات القرون المظلمة، وبالعقوبات التي يفرضها أحيانا على هذا الشخص أو ذاك، أو هذه الدولة أو تلك. تتحدث الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بغطرسة واستكبار واضحين وكأن العرب عبارة عن قاصرين عجزة لا يستطيعون الوقوف مع أنفسهم، أو كأنهم عبارة عن عبيد يمدون يد الاستغاثة للسيد القاطن في واشنطون أو باريس. ما أن تنطلق مظاهرة هنا أو هناك في الوطن العربي حتى يطل علينا الأمريكيون ومن لف حولهم من الدول الغربية بتصريحات تتعلق بحقوق الإنسان وتحذر من العنف والتصعيد، الخ. لقد انتهك أهل الغرب شرف الحركات أو الثورات الشعبية العربية، وعملوا بتأييدهم الممجوج والخبيث على المس بطهارة جماهير الأمة العربية. حكامنا بغيضون وساموا الشعوب سوء العذاب وإسقاطهم عبارة عن واجب مقدس، لكن الغرب ليس أقل بغضا، بل هم يزيدون.
إنها سخرية كبيرة أن تقف أشتون تعطينا مواعظ في السياسة والأخلاق، أو أن ينصب جوبيه نفسه وصيا على مصالح الشعوب العربية، أو أن يستمر أوباما بالتهديد باتخاذ إجراءات وعقوبات لكي تستقيم العلاقات الداخلية العربية. طبعا نحن لسنا أبرياء من هذه السخرية لأننا صبرنا طويلا على الظلم والاستعباد، وفتحنا الباب واسعا أمام التدخل الخارجي.
حقائق السياسة الأمريكية
قبل الدخول بسياسة العبث الأمريكية، من المناسب وضع الإصبع على أساسيات السياسة الأمريكية في المنطقة العربية على مدى العقود السابقة، وذلك من أجل إقامة الربط الجدلي بين الماضي والحاضر الذي تحاول فيه أمريكا الظهور بمظهر الحريص على حقوق الإنسان العربي. ويمكن تلخيص هذه الحقائق بالعناوين الكبيرة التالية:
أولا: عملت أمريكا على دعم الهجرة الصهيونية إلى فلسطين في القرن التاسع عشر، واستمر هذا الدعم إبان الانتداب البريطاني. ومن تكرار الحقيقة أن نتحدث عن الدعم الأمريكي المستمر للكيان الصهيوني في كافة المجالات وعلى كافة المستويات؛
ثانيا: ورثت أمريكا الهيمنة على أنظمة سياسية عربية كان الاستعمار البريطاني قد صنعها ونصب عليها قبائل تدين له بالولاء والطاعة. وقد حافظت أمريكا على هذه الأنظمة على الرغم من أنها استبدادية وقمعية وشهوانية، وتهدر الثروات العربية، وتمنع عن الشعوب المال والعلم والحرية، وتشيع في الصفوف الجهل والرعب والإذعان والخضوع. أمريكا تحرس أنظمة الخليج وتمكنها من رقاب الشعوب، وتحرس النظامين الأردني والمغربي، واستطاعت أن تسيطر على أنظمة جمهورية عدة بفعل قدراتها المختلفة وبسبب نذالة الحكام. هي التي أتت بزين العابدين بن علي، وهي التي نصبت علي عبد الله صالح، وهي التي ضغطت من أجل أن يكون حسني مبارك نائبا لرئيس الجمهورية في عهد السادات، وهي التي ارتاحت لصمت جبهة الجولان، وارتاحت للنظام الجزائري الذي وجد نفسه متحالفا مع أمريكا في حربها ضد ما يسمى بالإرهاب، وهي التي حرضت العراق ضد إيران وأشغلت الدولتين في حرب طويلة استنزفت طاقاتهما، وهي التي ما زالت تعبث بالساحة اللبنانية، وهي التي تدعم السلطة الفلسطينية الحارسة على بوابات إسرائيل.
ثالثا: حرصت أمريكا على بقاء الوطن العربي مجزءا، وعملت على تفتيت الدولة القطرية لكي يزداد العرب ضعفا على ضعف.
رابعا: أمريكا لا تتمسك بالمبادئ على حساب المصالح. كل حديثها حول حقوق الإنسان والديمقراطية يتهاوى أمام مصالحها، وقد خبرنا هذا عام 1992 عندما أيدت رفض نتائج الانتخابات المحلية الجزائرية، وفي فلسطين عندما فازت حماس بانتخابات المجلس التشريعي عام 2006. ونحن نخبره دائما في دعم إسرائيل في قتل الفلسطينيين والإمعان في رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، وفي تدميرها للعراق، وقتل الناس جماعات وفرادى، وفي قتلها للأفغانيين والباكستانيين. المبدأ جيد فقط عندما يتمشى مع المصلحة، ويتم التخلص منه تحت ذرائع قبيحة عندما يتناقض مع المصلحة.
خامسا: أمريكا مستمرة في نهب الثروات العربية بخاصة في منطقة الخليج، وترخي السبيل للحكام بتبديد ما يتبقى من ثروة. الحكام العرب وعلى رأسهم حكام الخليج يهدرون الأموال العربية بصورة فاحشة، وأمريكا لم تنبس ببنت شفة لصالح المواطن العربي المظلوم. وهي تسرق الأموال العربية من مناطق عربية ثرية لتتحكم من خلالها بدول عربية أخرى. أمريكا تيسر سرقة الأموال العربية من قبل الحكام العرب، ولم تحاول يوما وقف اعتداءات هؤلاء الحكام على المال العام على الرغم من أنهم يأتمرون بأمرها. وطبعا هذا متوقع لأن مصلحة أمريكا مع الفاسدين واللصوص وليس مع المحترمين.
ركوب الموجة
لقد جربت أمريكا مقاومة الحركة الشعبية في إيران عام 1979، ومن الواضح أنها تعلمت أن ركوب موجة الثورات الشعبية أفضل من معاندتها وذلك من أجل الحفاظ على المصالح. ولهذا تتبع أمريكا السياسات التالية تجاه الثورات العربية مذ أن بدأت:
تبجيل الثورات إعلاميا
أيدت أمريكا إعلاميا ثورة شباب تونس، وكذلك ثورة شباب مصر، ودعت الرئيسين المخلوعين إلى ضرورة احترام إرادة الشعوب في الحرية وإقامة الديمقراطية. وقد كان في هذا ما يسيء للحركة الشعبية في الدولتين لأن من تمتدحه أمريكا، وفق قناعات الشارع العربي، لا يمكن أن يكون سويا أو محترما. وأظن أن هذه قناعة شعبية منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي قال إن مصر على خطأ عندما تقول أمريكا إن مصر على حق، ومصر تسير بالطريق الصحيح عندما تقول أمريكا إن مصر على خطأ. عندما تقول أمريكا ومعها إسرائيل إن فلانا معتدل فذلك يعني أنه خائن، وعندما تقولان إنه متطرف فذلك يعني أنه وطني.
هناك قناعة لدى نسبة عالية من المواطنين العرب بأن أمريكا لا تملك معيارا موضوعيا للخطأ والصواب، وإنما مصالحها هي التي تحكم سياساتها، وبالتالي الخطأ هو ما يضر بمصالحها أو يهددها، والصواب هو ما يخدم مصالحها. فعندما تقول إن الثورة العربية على حق فإن الإنسان العربي يبدأ بالتشكك فيما إذا كانت الثورة حقيقية أم مفتعلة من قبل الولايات المتحدة. ولهذا وجدنا العديد من الناس يشيحون بوجوههم عن هذه الثورات على اعتبار أن أمريكا ملّت من عملائها الحكام وهي تريد استبدالهم لأن المرحلة القادمة تتطلب عملاء وخونة من نوع جديد.
الوعيد للحكام
صعدت أمريكا لهجتها الإعلامية إلى تهديد بعض الحكام العرب الذين شهدت إقطاعياتهم حركة شعبية داعية إلى التغيير وذلك بدعوتهم أحيانا إلى الاستجابة لمطالب الشعب، وأحيانا أخرى بتهديدهم بعقوبات أو الذهاب إلى محافل دولية مثل محكمة الجنايات الدولية. وقد كانت أمريكا انتقائية في هذا الأمر بحيث أنها لم تهدد حكام الإقطاعيات المصنعين غربيا والتابعين بالأصالة للاستعمار الغربي مثل أنظمة البحرين والأردن والمغرب، في حين عمدت إلى تهديد أنظمة الجهالة التي ظنت أنها ثورية وأثبتت أنها قمعية طغيانية. لقد كانت لينة جدا وكاذبة فيما يتعلق بالمظاهرات ضد أنظمة التبعية، وكانت قاسية بالنسبة لأنظمة الجهالة إلى درجة أنها شنت وحلفاؤها الغربيون حربا على القذافي. تؤكد هذه الازدواجية كذب الولايات المتحدة، وأنها حقيقة تريد اعتلاء الحركات الثورية الشعبية لكي توجهها في النهاية نحو التبعية التامة لإرادتها.
استعمال الأمم المتحدة
لم يتوقف التصعيد عند التهديد، بل عمدت أمريكا وحلفاؤها الغربيون إلى استعمال الأمم المتحدة لاتخاذ قرارات بالإدانة أو التدخل أو فرض عقوبات. قررت المنظمة الدولية التدخل العسكري في ليبيا، وهي تعمل على فرض عقوبات على سوريا على نمط العقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية. وقد فرضت أمريكا عقوبات من طرفها، لكنها تسعى إلى تعميم ذلك دوليا. في حين أن أمريكا لم تحاول استعمال الأمم المتحدة بخصوص اليمن أو البحرين.
التدخل المباشر
التدخل الأمريكي في شؤون الدول التي تشهد حراكا شعبيا هو الأخطر على الإطلاق لأنه ينطوي على سياسات مباشرة لنخر الحركات الشعبية من الداخل وحرفها عن مساراتها الوطنية الطامحة إلى الحرية والاستقلال. ويمكن تصنيف هذا التدخل بالتالي:
أ- قام مسؤولون أمريكيون وعلى رأسهم وزيرة الخارجية بزيارة تونس ومصر عقب انتصار الثورتين حاملين معهم عبارات الإعجاب بالعربي الجديد الذي وجد في النهاية سبيله نحو التحرر من الاستبداد. وقد حاولوا الاجتماع مع شباب الثورة في الدولتين، لكن الشباب المصري والتونسي كانوا على درجة عالية من الوعي، ورفضوا مقابلة أي مسؤول أمريكي. وقد تدخل مسؤولون أيضا في اليمن حيث أقحم السفير الأمريكي نفسه في الصراع الداخلي، وكذلك في الأردن من تحت ستار، وفي البحرين، وبالتأكيد في ليبيا الذي بلغ التدخل فيها المستوى العسكري.
ب- تقوم أمريكا بإثارة الفتن الداخلية بخاصة في تونس ومصر، وستقوم بذلك في سوريا واليمن كما قامت في ليبيا وذلك من خلال عملائها، وعملاء الكيان الصهيوني. زرعت أمريكا عملاء لها بأعداد ضخمة في البلدان العربية، وهم يتغلغلون في أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة سواء كانت الرسمية أو غير الرسمية، وهم موجودون في الأجهزة الأمنية والشرطة وقوى الدرك والجمعيات غير الحكومية، وموجودون بين المثقفين وفي الجامعات والمعاهد والمستشفيات، وفي الجيش، وأيضا في قمة الهرم السياسي. هناك قادة عرب منصبون، كما قلت سابقا، أصلا من الاستعمار، ومنهم من يتقاضى رواتب من الخزانة الأمريكية، ومنهم من يتنعم ببعض الهدايا الشهوانية التي تعوض له سهره على راحة أمريكا والصهاينة. وكذلك فعلت إسرائيل التي تتغلغل في الصفوف العربية من المحيط إلى الخليج، والزمن يكشف لنا تدريجيا حجم هذا الاختراق الأمني والفكري والثقافي. إسرائيل لها جواسيس في كل أنحاء الوطن العربي، وهي قادرة على التجنيد بسهولة في أنظمة الحكم التابعة للغرب بسبب صداقتها معها، وقادرة على زرع العملاء في دول الجهالة بسبب رعونة الحكام وغبائهم واهتمامهم بالزعرنة (البلطجة) على حساب البناء والحرص الأمني.
ولهذا فإن أمريكا وإسرائيل قادرتان بسهولة على إحداث فتنة بين الأقباط والمسلمين، بين العرب والكرد، بين العرب والأمازيغ، بين شمال وجنوب، وبين سنة وشيعة، بين سني وعلوي، الخ. وقادرتان أيضا على اختراق صفوف الشباب الثائرين وإحداث بلبلة داخل القيادات الجديدة التي ستأتي بها الانتخابات. أمريكا والكيان الصهيوني يملكان مهارة وخبرة استخبارية وتخريبية وتغلغلية واسعة، وهما لا يترددان في استعمال مختلف الأساليب لبث الفرقة والفساد وصنع الاقتتال.
ج- تستعمل أمريكا الأموال للإغراء والاستقطاب وللتدخل في الشؤون الداخلية. وقد وعدت بتقديم مساعدة مالية لمصر لتمكين المجلس العسكري المؤقت من مواجهة النفقات، وحثت دول الخليج على تقديم المعونات الاقتصادية لكي يرتقي اقتصاد مصر. أما تونس، فتحدث الأوروبيون عن معونات من أجل التعويض ولو جزئيا عن الضرر الذي أصاب الاقتصاد التونسي. هذه اللعبة الاقتصادية والمالية ليست جديدة، وهي لعبة استخدمتها أمريكا من أجل التغلغل ومن أجل توريط دول بديون وقروض لا تتمكن من سدادها فتضطر للرضوخ والإذعان. فإذا كانت مصر وتونس قد فلتتا، أو ترفضان التدخل الخارجي، فإن أمريكا لا تنفك تحاول تحت ستار الشعارات الإنسانية والمحبة بين الشعوب.
أمريكا تستعمل الأموال أيضا لتمكين العملاء والجواسيس من التخريب والهدم وبث الفتن. وهي تقدم مئات الملايين من الدولارات سنويا لمثقفين عرب في مختلف الإقطاعيات العربية لكي يتصدروا المشهد الإعلامي، ولكي يكونوا دائما في مراكز التخطيط والتوجيه واتخاذ القرار. أمريكا وإسرائيل ستعملان على إحداث البلبلة في البلدان العربية الثائرة من أجل أن يترحم العربي على أيام الرؤساء والملوك المخلوعين.
الأهداف الأمريكية
استعملت أمريكا عبر الزمن أساليب ووسائل متعددة ومتنوعة من أجل السيطرة واستغلال الثروات وتحقيق تبعية الدول العربية، وذلك من أجل تحقيق الأهداف الرئيسية التالية:
1- المحافظة على تدفق النفط العربي إلى الأسواق الغربية ووفق ما يرى الغرب أنها أسعار مناسبة. لدى أمريكا استعداد لخوض حروب من أجل استمرار هيمنتها على النفط العربي، وهي لا تتوانى في حشد الجيوش نحو هذا الهدف.
2- المحافظة على وجود إسرائيل وأمنها، وعلى هيمنتها العسكرية، والتأكد من أنها قادرة على هزيمة العرب فرادى ومجتمعين.
3- الإمعان في تفتيت الوطن العربي لأن في ذلك ضعفه، وقوته في وحدته.
4- ملاحقة الروح الإسلامية ومحاربة مختلف الحركات الإسلامية حتى لا يتطور فكر منافس للفكر الرأسمالي، ولا تتطور قوة عربية تجعل للعرب مكانة عالمية.
5- استمرار هيمنتها العسكرية على المنطقة، ولبقاء أجواء العرب وبحارهم وأراضيهم مسرحا للعمل العسكري الأمريكي والصهيوني.
الاستمرار في الثورة
لقد تأخر العرب كثيرا في الثورة على الظلم والاستعباد والطغيان على الرغم من تمادي حكامهم في الاستهتار بشعوبهم ومستقبل الأجيال القادمة، ومن المفروض ألا يتوقف مسلسل الثورات العربية حتى تتم الإطاحة بكل هؤلاء الطغاة، وليكونوا عبرة لحكام قادمين قد تسول لهم نفوسهم إذلال شعوبهم. وإذا كانت أمريكا تتدخل فإن ذلك يجب ألا يثنينا عن الاستمرار، وإنما يعني أن علينا رفض كل محاولات التدخل الأمريكي المباشر وغير المباشر، ورفض كل تدخل خارجي مهما كان نوعه. لقد أجرم الأوروبيون والأمريكيون بحق العرب جميعا، ولم تتوقف يوما اعتداءاتهم المتنوعة على الأمة، ولا أرى أن قلوبهم قد اتسعت فجأة لتحتضن الأحزان العربية.