بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 06.07.2011
أتابع جيدا الأوضاع في لبنان، وأرى القدرة العجيبة لقادة الطوائف ووسائل إعلامهم على المناكفة والمماحكة والمجادلة العقيمة، والتلهي بسفاسف الأمور وتوافهها وأقصرها بعدا وأقلها قيمة ومنفعة، وأكثرها ضررا على شعب لبنان وحاضر لبنان ومستقبل لبنان. قادة لبنان ووسائل إعلامهم لا يكلّون ولا يملّون من الردح والردح المضاد، ومن الإساءة والإساءة المضادة، ومن الشتم والشتم المضاد، ومن التشهير والتشهير المضاد. عجبا لطول نفسهم وصبرهم وجلدهم ومثابرتهم وسهرهم وتركيزهم على تمزيق لبنان وتخريبه، وتحويل الشعب اللبناني إلى فئات متصارعة تحول لبنان إلى هشيم.
تنتقل من وسيلة إعلام لبنانية إلى أخرى، فتسمع ذات العبارات وترى ذات الإساءات مع تغيير الأسماء. ومن بلغ من العمر كما بلغت أنا، لا يستطيع إلا أن يتذكر الإذاعات العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي. كانت الإذاعات العربية في حينه عبارة عن "مصيحة" تضج بالصياح والصراخ والردح واللطم والتسفيه والتشويه والتشهير على غير فائدة، بل وبمضرة كبيرة لحقت بالأمة العربية في كافة إقطاعياتها.
يبدو أن زعماء لبنان مرتاحون لهذا الردح المستمر والمتواصل، وكأن زعاماتهم لا تتحقق إلا به. لم أسمع قائدا لبنانيا يوما يمتدح فكرة لدى عدوه الداخلي، ولم اسمع وسيلة إعلام تقول خيرا عن رأي أبداه أحد الخصوم. كل ما أسمعه عبارة عن قصف مستمر منهمر من سيء الكلام وحثالة الحديث. زعماء لا يجدون فرصة للردح إلا استغلوها فأوسعوا خصومهم هجوا وقدحا وذما واستهزاء وشتما وسبابا.
زعماء لبنان فتحوا الأبواب للتدخل الخارجي، ونفوا، في أغلبهم، أنفسهم ووطنهم وكرامة شعبهم لصالح المستعمرين الذين فتتوا لبنان منذ حوالي خمسة وستين عاما. يبدو أن هؤلاء الزعماء يكرهون الاستقلال، ويكرهون أنفسهم وشعبهم، ولا يهنأ لهم بال ولا يطمئنون إلا إذا خضعوا، وتدنس لبنان باقدام الغزاة الطامعين. مرت عشرات السنين على التمزيق الطائفي منذ الاستقلال الشكلي، ولم يهتد هؤلاء القادة إلى معادلة جديدة توحد أرض لبنان، وشعب لبنان، ومشاعر لبنان، وسهول لبنان وجبال لبنان، وكأن كل واحد منهم يقول لنفسه: "لا زعامة لي بدون طائفية ومذهبية." إنهم يحتمون بالتمزيق من أجل أن يبقوا قادة فاشلين، ويصرون على بث الأحقاد والكراهية لأنهم بذلك يجدون من يصفق لهم.
لبنان هي الدولة العربية الوحيدة التي هزمت إسرائيل، ويبدو لي أن لبنانيين يكرهون النصر ويصرون على الهزيمة. مفهوم أن الهزيمة تمزق الناس، وتفتت وحدتهم، لكن ليس من المفهوم أن يفتت النصر أهل لبنان. الشعوب العربية تنتعش إذا تكلم رئيس فنزويلا أو الأرجنتين أو القطب الجنوبي ضد الاستعمار وإسرائيل والهيمنة الأجنبية، أما في لبنان فلا يبدو أنهم ينتعشون حتى لهزيمة إسرائيل. كان من المفروض أن يرفع اللبنانيون رؤوسهم بعد النصر ليفكروا في وحدتهم وتقدمهم ورفعة أنفسهم ووطنهم، ورفعة أمتهم. لم أر في التاريخ شعبا تمزق بعد حرب مكللة بالنصر إلا شعب لبنان. الفلسطينيون تمزقوا، هذا صحيح، لكن تحت وطأة الفشل. لم يوحد النصر الذي تحقق في غزة في حرب الكوانين (أو فشل إسرائيل إن شئت) شعب فلسطين، لكنه لم يشتتهم بالمزيد؛ أما في لبنان فهناك إصرار حاد على استمرار التشتت والفرقة والتمزق.
تقديري أن شعب لبنان ليس بحاجة لقادة طوائف لأنهم السبب الرئيس والأول في تمزيق لبنان. لبنان بحاجة إلى قادة غير طائفيين ولديهم من العلم والمعرفة ما يمكنهم من إدارة البلد بطريقة وحدوية وليس بطريقة توافقية. لبنان عظيم بأبنائه، وفيه من الكفاءات والعلماء والخبراء والمحترمين والمحترمات والنبلاء والنبيلات والعقلاء والعاقلات والحريصين والحريصات على مستقبل لبنان ما يمكنه من الخروج من هذا المأزق الداخلي المقيت.
المسألة بحاجة إلى بعض الخجل، ومن الأفضل بعض الحياء. ليس هكذا تُقاد الشعوب، وليس هكذا تُبنى الأوطان. الرأفة بلبنان مطلوبة.