بقلم : زياد جيوسي ... 08.06.2011
(جمرة الماء) عنوان يلفت النظر إلى قراءته منذ اللحظة الأولى، وحين الغوص داخل المجموعة الشعرية، يكتشف القارئ مدى إصرار الشاعر سميح محسن أن يبقى قابضاً على الجمر بيديه، فالجمر يحرق اليد، بينما الماء يبرّدها، فهل تحوّل الماء في حياة الشاعر إلى جمر؟ هذا السؤال الذي يخطر في البال يحتاج إلى قراءة متعمقة في ثنايا المجموعة للوصول إلى الجواب، ولهذا حرصت أن أقرأ كل جزء منها بتأني، وأربط بين أجزائها، فالمجموعة وعلى غير عادة المجموعات الشعرية التي اعتدنا، كانت موزّعة على ثلاثة أجزاء تحمل ثلاثة عناوين تنقلنا عبر ثلاث محطات:
المحطة الأولى وعنوانها "في توصيف الذي كان":
وهنا نجد الشاعر قد بدأ نصوصه بمخاطبة الشاعر الكبير محمود درويش، من خلال محاورة تستعرض الواقع وتطرح كماً من الأسئلة تبدأ بالسؤال: "لنا أم لهم"، ليكمل من خلال الأسئلة البحث في معاناة شعب عبر تاريخ طويل، فهو يسأل روح الراحل، ولكنه يخاطبنا جميعاً من خلال السؤال:
"لنا، أم لهم، حزمةُ الضوءِ، يا سيد القول"
"لنا، أم لهم، حكمةُ الجري وراء السؤال العنيد"
ليعطي الجواب الذي وصل إليه عبر القول: "لذا نحن هذي الحياةَ، وهم كل ما يفعلون"، بعد أن يستعرض عبر وصف شعري الواقع والمسيرة، من صناعة الفرح في الجنازات، وحتى تحويل القبور قلاعاً كي تكون "شواهدَ في وجهِ من ركبوا في الزمان البحارَ، وجاءوا غزاة إلينا"، ليواصل طريقه في رحلة توصيف الذي كان، ففي قصيدة (يمامٌ يحطّ على ظهر جميزة)، يروي رواية حزيران والهزيمة وما تلاها في رواية شعرية، يصور فيها الحدث، وكيف نفتّش عن مشجب نعلّق عليه هزائمنا، ويرسم صورة ما جرى بدون رتوش، ويلامس الروح مباشرة، ويعيد الذاكرة لمن واكب تلك الحرب، لينقلنا مباشرة إلى معركة أخرى؛ الهجوم الإسرائيلي على غزة واستشهاد وإصابة الآلاف فيها، بمجزرة قلّ وصفها، وساهم بها الجنون الداخلي، فيصف صوراً إنسانية "حين تكون النهايةُ في حجرِ أمٌ، وطفلٌ، وطائرةٌ، تزرع الموت في كل مكان"، فيصف استشهاد الأطفال، وبكاء الأم، والقتل على شواطئ بحر غزة وفي مياهه، ويخاطب الذين ضمتهم الغربة واللجوء، ويخاطب الأصدقاء، وكيف يخرج الجند لقتلنا "فقد أخذوا رخصة القتل، قبل الخروج من القاعدة".
ينقلنا الشاعر من أجواء الموت والغربة إلى أجواء الأسرى؛ غرف العزل، ومعاناة السجين وأحلامه، ويرى رغم كل هذه الصورة المعتمة فجراً آتياً، فهو يرى أنه على شواطئنا "يغتسلُ الماءُ في ساعةِ الفجر، قبل الآذانِ بوقتٍ قصيرٍ، بماء الحياة"، ويحلم أنه سيأتي "نهرٌ يسيلُ ويغسل ما كوّنته الطحالبُ، من عفنٍ في ثنايا الغبار"، رغم أن ما يسمّونه العالم الحر يغمض عينيه عن الأطفال وأوجاعهم في ردهات المشافي، ورغماً عن الذين "أتوا من بحارِ البلادِ البعيدة، في ليل أيارَ يغتسلون بنارِ البراءةِ"، وهو يؤمن بأننا "سنبني على رجفةِ الروحِ ساريةً في الأعالي، ونكتب أغنيةً من غُسانِ القلوبِ".
المحطة الثانية وعنوانها: (جمرة الماء):
وفي هذا الجزء بدأت رواية أخرى؛ رواية شعرية تصور مرحلة أخرى من مراحل الحكاية، فهنا الفرح بدأ يرتسم، فمن ضحكات المقاهي يجري اشتقاق "أغاني الحصاد"، وهناك "على جمرة الماء أغنيةٌ لم يطلها الكلام"، حيث "على العشب تمشي القصائد"، وهذا الجزء هو الأقل مساحة من مساحات المجموعة، فهل لحظات الفرح في ظل مسيرة الألم هي الأقل، فكانت المساحة أقل رغم حجم الأمل فيها؟ مع ملاحظة أن عنوان المجموعة كان عنوان هذا الجزء، وهي إشارة ايجابية تشير إلى أن الفرح هو الحلم الذي يحلم به الشاعر رغم كل العتمة المحيطة.
المحطة الثالثة وعنوانها: "عن البحث في المكنون– أقرب إلى السيرة الذاتية):
إن عنوان هذا الجزء يشي بالمكنون، وإن رأيت فيه إضافة بعض من لمحات السيرة الذاتية. إنه يبحث في بعض محطاته في فلسفة الوجود وسر الخلق، فهو يقول: "أنا، من أنا، لست أدري"، بينما في مقطع سابق يقول: "أنا نطفة من علق، أكون، لأقسم باللهِ رب الفلق"، ويتساءل في نص آخر: "هل للحياة خِيار؟"، ويتساءل أيضاً: "قطرة الماء حياةٌ، والدم الممزوج بالأوجاعِ.. ماذا؟"، ويواصل سيل الأسئلة عن كيف يكون البكاء، وكيف يكون العويل، وعن حبة الرمل، ومن يؤنس وحدة الجبل، ويصور صور عدة تثير السؤال، كلها يمكن أن تدخل في إطار تساؤلات فلسفية.
بينما في لمحات أقرب إلى السيرة الذاتية تحدّث شِعراً عن مرحلة صعبة فيقول: "على من يضيق قميصي الجديد، ليصبح لي؟ ويصور مرحلة لاحقة حين يؤكد أنه رغم خوفه من الكلاب، لا يتوقف عن نبش عش الدبابير، في إشارة واضحة إلى مرحلة نضالية، ولا يتوانى عن الحديث عن مرحلة الدراسة في الطفولة، وعن أسلوب العيش في مراحل مختلفة، وعن وصف الكذب وادعاءات النصر في نشرات أحمد سعيد في حرب حزيران، بينما رأى على أرض الواقع: "لقد سقطت في الظلام البلاد، وتاه العباد"، ولا يغفل الجانب السياسي الذي فرض نفسه على الواقع، فهو يصوره بجوانبه المختلفة؛ الزعامات، والشيوخ، وادعاءات النصر الكاذبة، ويخشى أن يحط الحمام على شاهد قبره ويبكي، فيتساءل: "فماذا سيفعل فينا الغراب"، منهياً هذه المسيرة باتخاذ القرار أن يبدأ حياة جديدة بقوله: "سأخرج من لعبة السردِ، أفتح نافذة القلبِ، تعبرُ من شفتيها الرياحُ، إلى عددٍ لا يحده الموت".
وهكذا نرى أن الشاعر قد تمكن أن يرسم حكايات شعب، ومجمل هذه الحكايات شكلت بمجموعها رواية شعرية، لم تترك نبضة من نبضات شرايين الدم، وأنات الأرض بدون أن ترويها، وقد كانت معظم القصائد تشكل حالة متميزة من الأسلوب الشعري، سواءٌ في رسم اللوحات بالكلمات، أو جزالة اللغة وقوتها، إضافة إلى تمكنه من إثارة العديد من التساؤلات الفلسفية.
أما حول أسلوب الشِّعر فلم يكن الشِّعر خفيفاً، بل كان من القوة في العديد من القصائد، بحيث يجبر القارئ أن يكون في قمة تركيزه كي يصل إلى أعماق الكلمات، وأن يبحث فيما وراء السطور، والقارئ حين يكمل المجموعة يكتشف حجم الثقافة والحصيلة اللغوية لدى الشاعر، ومدى قدرة نزفه الروحي أن يترك أثره في المشاعر، وقد يقول البعض إن الأسلوب قد تأثر في بعض المناحي بشعر شعراء آخرين، لكني أرى أن حجم المطالعة والقراءة والثقافة أوجدت عنده مخزوناً كبيراً، شكلت لدى الشاعر قدرة كبيرة في رسم مدرسته الشِّعرية وتميزها، مستفيداً من تجارب ومدارس الشعراء الكبار، فكان سميح محسن في (جمرة الماء) حالةً من التحليق والإبداع.