أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
منارات في الظلام:وجدي جودة يتبادل كرسي الزيارة مع والدة!!

بقلم : حسن فطافطة* ... 07.12.2010

على سفوح جبل عيبال شرق مدينة نابلس حيث ترقد قرية عراق التاية المتواضعة بعدد سكانها، تفتحت عيون الصبي وجدي عزمي جودة على نور الحياة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ليجد نفسه في محيط عائلة وطنية تتبنى الفكر اليساري، فيما ألسنة كبارها تلهج بالرفض والإدانة للزيارة التي قام بها السادات لإسرائيل في ذلك العام، فاتحا بذلك ثغرا شاسعا في جدار المواجهة ضد المحتل ومخرجا الدولة العربية الأكبر والاهم من دائرة الصراع والمواجهة مع المحتل.
لم يكن الفتى وجدي قد تجاوز الثالثة عشره من عمره عندما وجد نفسه منخرطا في الفعل النضالي من حوله، حيث انتسب الى اتحاد الشباب الديمقراطي الفلسطيني "اشد" الإطار الشبابي والطلابي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وهي ذات الجبهة التي سبقه إليها أعمامه ووالدة الذي كان يقضي في تلك الفترة حكما لمدة عامين ونصف في سجون الاحتلال، فكان لأجواء الحزن التي غطت سماء المكان والمشحونة بمشاعر الكره الثوري على ما اقترفه المحتل بحق والدة وأعمامه دورا أساسيا في دفع الفتى وجدي للسير في ذات الدرب مبكرا، والذي بات يتنفسه في حلّه وترحاله خصوصا بعد أن استشهد في ذات العام احد أقاربه بل هو ذات الشخص الذي قام بضمه لعضوية "أشد".
فيما الأثر الأكبر للروح النضالية للفتى وجدي فقد كانت من نصيب خاله ماهر جودة، حيث كان يرافق والدته في زيارتها لأخيها في سجن جنيد بعد أن قضى فيه أربع سنوات متواصلة شكلت محطة إنسانية ليس في حياه الخال فحسب، بل وفي حياة الفتى وجدي أيضا، والذي كان ينصت بلهفة وشوق لكل كلمة تخرج من شفتي خاله لتستقر في خلايا ذهنه، فيما معاناة أهالي الأسرى على أبواب سجن جنيد وتعامل السجانين الاستفزازي والمذل بحقهم، وساعات الانتظار الطويلة في حر الشمس وبرد الشتاء وهم صابرين في انتظار أن يحظوا برؤية أعزائهم ولو لخمسة وأربعين دقيقة، كانت تولد في نفس الفتى وجدي المزيد من الكره والرغبة في الرد على المحتل، فيما كلمات التبجيل والاحترام والتقدير التي كان يلتقطها ممن حوله بحق الأسرى المناضلين عززت لديه الرغبة والطموح في أن يكون يوما ما واحد منهم.
مع توقيع اتفاقية أوسلو وقدوم السلطة الفلسطينية عام 1994، وخفوت منسوب المواجهة الشعبية ضد المحتل على أمل أن يتمخض الاتفاق عن حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بادر وجدي جودة بالانخراط في نشاطات ذات طابع ديمقراطي اجتماعي وقد تركز في المراحل الأولى بشكل أساسي في مجال العمل الطلابي والشبابي، حيث شغل منصب سكرتير كتلة الوحدة الطلابية في كلية الروضة في نابلس، ولاحقا سكرتيرا لذات الكتلة في جامعة القدس المفتوحة فرع نابلس حيث لم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية فيها بسبب مطاردته من قبل الاحتلال حتى قبل انطلاق انتفاضة الأقصى وذلك بسبب نشاطاته المميزة في مقاومة الاحتلال، وقد شغل خلال فتره دراسته في كليه الروضة للعلوم المهنية وعلى مدى دورتين كاملتين منذ عام 1997 وحتى عام 1999 رئيسا لمجلس اتحاد الطلبة فيها.
مع اندلاع الانتفاضة الثانية والتي لم تكن مدينة نابلس وضواحيها بمنأى عن المشاركة الفاعلة في نشاطاتها المختلفة، لم يكن حال وجدي مغايرا لواقع نشاطات المدينة، بل وجد نفسه في لهيبها حيث باشر مع العديد من رفاق الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في تشكيل النواة العسكرية الأولى لكتائب المقاومة الوطنية في مدينة نابلس وهي الجناح العسكري للجبهة الديمقراطية خلال انتفاضة الأقصى في الوطن المحتل، وقد لعب دورا مركزيا في أعمالها ونشاطاتها وتدريب عناصرها في محافظة نابلس.
وقد شارك في الكثير من الاشتباكات وعمليات إطلاق النار تجاه جنود الاحتلال التي كانت تحاول اقتحام المدينة وضواحيها خصوصا أن قريتهم عراق التاية تجلس على الحدود الشرقية لمدينة نابلس وبجوار شعلة نابلس الملتهبة مخيم بلاطة، وقد نجح وجدي جودة وخلال فترة الانتفاضة الثانية وقبلها في نسج علاقات مميزة مع مختلف مناضلي الفصائل الفلسطينية في مدينة نابلس لما كان يتميز به من روح وحدوية عاليه، ولقناعته الراسخة بأهمية العمل النضالي الموحد.
وكان يعطي أهمية استثنائية لعلاقته العملية والتنسيقية مع رفاق دربه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مدينة نابلس لإيمانه العميق بأهمية وحدة اليسار وضرورة أن تغادر قياداته المتحكمة بالقرار عقلية الشرنقة وهي رغبة وأمل لا زالت تسكن تلافيف دماغه وتثقل على صدره في ظل حاله التشرذم التي تطبع هذا التيار المهم والضروري لواقع الشعب الفلسطيني ليشكل على الأقل نقطة توازن تحمي المشروع الوطني من حالة الانقسام الحاصلة في الساحة الفلسطينية فيما هو عاجز عن التأثير باتجاه إنهائه.
بعد أربع سنوات من المطاردة نجحت المخابرات الإسرائيلية في الوصول الى الرفيق وجدي جودة واعتقاله بعد محاصرتهم لإحدى العمارات التي كان مختبئا في إحدى شققها في منطقة رفيديا في مدينة نابلس، استجاب لصوت مكبر الصوت الذي كان يطلب من سكان العمارة النزول الى الشارع، فشاركهم النزول منخرطا بين الجموع، وعند اقترابه من كومه الجنود التي كانت تفرض على قاطني العمارة المرور الإجباري من أمامهم واحد تلو الأخر، وعندما جاء دور وجدي سأله الجندي عن هويته بعد أن أجرى له تفتيشا جسديا فكان رد وجدي بأنه نسيها في البيت، وعندما سأله عن اسمه أعطاه اسما غير اسمه غير أن صوت احد العملاء الملثمين والذي كان يتوسط الجنود أشار لهم وبلغتهم هذا هو.
بعد جولة تحقيق ميدانية استمرت لمدة ثلاث ساعات، اقتادوه وهو معصوب العينين ومقيد اليدين والقدمين في إحدى جيباتهم العسكرية ليتفاجأ بصوت صديقة ساطع لجانبه في الجيب بعد أن كان قد غادر شقته قبل عدة ساعات وادعى أمام الجنود بأنه كان نائما على سطح البناية، وبعد اقل من شهر قضاه ساطع في معسكر حواره، تم إبعاده الى الأردن لعد امتلاكه رقم وطني ولكونه يحمل جواز سفر أردني، حيث تم تحميله مسؤولية إيواء وجدي جودة، حيث كان لهذا الإبعاد أثرا قاسيا على روح وجدي ونفسيته فشعر وكأنه هو المسؤول عن إبعاد اعز أصدقائه رغم أن المسؤول الأول والأخير عن إبعاد صديقة هو المحتل الذي جاء من شتى أصقاع العالم ولم يكتف بالاستيلاء على ارض شعب أخر واستوطنها بل واستخدم كل الوسائل في تهجير أصحاب الأرض الشرعيين.
بعد ثلاثة شهور ونصف أمضاها وجدي في زنازين تحقيق بتاح تكفا، لم ينجح محققو جهاز الشين بيت في انتزاع اعتراف منه رغم وسائل التهديد والترغيب التي استخدموها بحقه، والتي كان أبرزها تهديده بنسف بيتهم إذا لم يعترف ليكتشف لاحقا أن ما كان يعتقد انه مجرد تهديد كان حقيقة واقعية، حيث تم نسف بيت العائلة بتاريخ 9/11/2004 أي قبل خمسه أيام لمغادرته زنازين التحقيق ونقله الى معبار الرملة، حيث التقى مع احد الأسرى والذي بشره بخبر نسف بيتهم، وليقطع الشك باليقين قدم له فحوى الخبر منشورا في جريدة القدس التي كان يحملها الأسير الذي نجح بدون قصد منه في أن يحرم وجدي من فرصة مغادرة لزنازين التحقيق بعد ثلاثة أشهر ونصف أمضى بعضا منها معزولا لوحدة في زنزانة ضيقة تشحذ ضوء النهار من دوائر صغيرة بحجم حبة الترمس في سقف الزنزانة ومن فوهتها التي كان السجان يتركها مفتوحة فقط عندما كان يقدم له وجبه طعام متواضعة كي يتمكن من رؤية ظلال محتوى الصينية فحسب.
أما عن نوعية الطعام فكان يدركه من خلال حاسة الذوق، وقد تركز التحقيق معه بشكل أساسي على إحدى العمليات الاستشهادية التي أدت الى قتل أربعة إسرائيليين وجرح تسعة وعشرون آخرين على جسر جيها في بتاح تكفا حيث اتهم بمساعدة رفاق الجبهة الشعبية الذين نفذوا العملية، وفي ظل إصراره على عدم وجود أي علاقة له بالعملية من جهة والجهد الكبير الذي بذله المحامي في الدفاع عنه فقد تمكن من عقد صفقة له أخرجته من حكم المؤبد وصدر بحقه حكم لمدة خمسه وعشرين عاما شعر معها بنشوة الانتصار رغم انه سيكون أمام احتمال أن يمضي ربع قرن من عمره خلف جدران السجن يقارع فيها السجن والسجان.
مع انتهاء مشاوير البوسطة الشهرية التي كان يضطر وجدي الى تحمل عبء منغصاتها بدأ وجدي جودة مرحلة جديدة من حياته في السجن محاولا أن يضع لنفسه برنامجا لحياته اليومية تجمع فيها بين غذاء الروح والجسد والمساهمة بدورة النضالي في مواجهة السجان ومحاولاته الدائمة لاقتناص ما حققه الأسرى من انجازات عبر سلسلة طويلة من المعاناة، ليجد نفسه مرة أخرى أما رحلات "البوسطة" وتنقلات دائمة ولكن هذه المرة ليس باتجاه المحكمة وإنما من سجن الى أخر، هذا إذا ما استثنينا المرات الكثيرة التي عاد فيها الى ذات السجن الذي نقل منه.
كما لم يكن وجدي بمنأى عن الإجراءات العقابية الأخرى التي مارستها مصلحة السجون بحقه وبحق مئات إن لم يكن ألاف الأسرى وغرامات مالية وحرمان من زيارات الأهل .... الخ، بل ولم تتورع إدارة سجن ريمون من منع والدة والذي كان يقف أمام بوابة السجن بعد حصوله على تصريح من "الشاباك" لزيارته من الدخول لرؤيته بحجة انه كان سجينا سابقا متذرعة بأن عليه أن يحصل على موافقة مسبقة من إدارة السجن قبل السماح له بالدخول، موافقة جاءت بعد أن تأكدت إدارة السجن قبل السماح له بالدخول، بأن المدة الزمنية للتصريح قد انتهت فلم يتمكن من زيارته، ورغم علاقته المميزة مع إخوته إلا انه لم يحظ سوى بزيارة سنوية يتيمة لإخوته الأربعة فيما أخواته فإحداهن لم يتمكن من رويتها منذ اعتقاله فيما الأخريات حصلن على زيارات متقطعة نجح من خلالهن في إبقاء ملامحهن الحية في خلايا دماغه.
وقد نجح في التغلب على حياة السجن القاسية من خلال شحنات الدعم العاطفي والمعنوي التي كان يتلقاها من والدته عبر شبك الزيارة، هذه الأم الفلسطينية الرائعة التي تفوقت على صبر أيوب في زمانه، حيث أمضت حياتها متنقلة من سجن الى أخر وهي تزرع البسمة والأمل في صدور أعزائها خلف جدران الظلم، مرة لزوجها الذي أمضى قسطا من حياته خلف جدران السجن ومرات أخرى لأخيها وإخوة زوجها فيما نصيب الأسد على ما يبدو سيكون لابنها وجدي الذي اعتاد انتظار زيارتها الدورية ليشحن بطارية صدره بمشاعر الصبر والعزيمة التي يتشربها من حلال كلماتها الواثقة والدافئة والتي تسرى في فؤاده كسريان الدم في شرايينه.
كم ونجح في التخفيف من الآثار السلبية لسياسة الاحتلال اللاانسانية في حرمانه من التواصل الحي والمباشر مع غالبية أفراد أسرته من خلال تكثيف التواصل المكتوب معهم عبر الرسائل رغم ما تتعرض له هذه الطريقة من مضايقات، حيث لا تمر مناسبة أو فرصة إلا ويخط فيها رسالة باسم هذا العزيز أو ذاك، يسكب فيها حشوه مشاعره الجياشة نحوهم، ومن ابرز تلك الرسائل التي خطها وما زال يتذوق مشاعر الفرح الممزوج بالغيرة والحزن عندما بعث برسائل تهنئة لاخوتة الأصغر منه بمناسبة زواجهما، ولم يترك مجالا بواقع السجن كي يسرب تفاصيله المقيتة الى ذهنه محولا حياة السجن القاحلة الى حالة ايجابية من خلال القراءة اليومية المكثفة، وممارسة الرياضة البدنية الصباحية، وبعض الرياضة المتوفرة في هذا السجن أو ذاك من تنس وسلة وطائرة، وقد خاض مؤخرا معركة شرسة نجح من خلالها في التخلص من خمسة وعشرين كيلو غراما من الشحوم التي راكمتها سنوات السجن وطعامه المليء بالدهنيات.
فيما المشهد الأبرز الذي لا زال محفورا في ذاكرة وجدي ويلازمه كل زيارة للأهل بغض النظر عن السجن الذي يقطنه هو مشهد والدة الجالس أمامه في أول زيارة له في سجن عسقلان عندما اغرورقت عيناه بالدمع، فسأله وجدي ممازحا ومواسيا: لقد كنت دوما عصي الدمع شيمتك الصبر فماذا جرى الآن لك يا والدي؟ ... أخذ والدة نفسا عميقا فيما الكلمات بدأت تخرج بصعوبة من حلقه، ألا تتذكر هذا الكرسي الذي اجلس عليه الآن يا بني، فقد كنت قد جلست عليه وأنا مكانك قبل أكثر من خمسه عشر عاما عندما كنت تأتي لزيارتي مع والدتك، وأتمنى أن لا يأتي اليوم الذي تجلس فيه مكاني مرة أخرى فيما ابنك القادم إن شاء الله يجلس مكانك.

الأسير حسن فطافطة .. سجن النقب الصحراوي