بقلم : سامي أبو سالم ... 11.12.2010
اخترق أزيز الرصاص هدير البحر قرب شواطئ غزة، فيما شج بريقها الظلام الدامس عندما فتحت الزوارق الإسرائيلية نيران أسلحتها الثقيلة تجاه قارب الصيد. الصياد نضال أبو عودة تخلص من سلسلة حديدية كانت في يده وألقى بنفسه على متن القارب، بينما سارع الملاح أبو شعبان أبو ريالة بتغيير اتجاه الدفة تجاه الجنوب بعد أن كان قد وجهها شمالاً بحثاً عن مراقد السمك المتوقعة.
لم يعرف أبو شعبان ما إذا كانت يده ترتجف خوفاً من الموت أم برداً وهو يدير الدفة إلى الاتجاه المعاكس، متجنباً الخطر المحدق به ورفاقه الثلاثة.
" إنها رحلة موت"، هكذا يصف نضال (26 عاماً)، عمله كصياد في بحر غزة. فحياة الصيادين تتعرض لموت شبه حتمي وأخطار متعددة الأشكال: 'لا نعرف ما هو مصيرنا، اتكالنا على الله فقط، ربما نموت خلال إطلاق نار وربما عاصفة هوجاء تجرفنا ونختفي عن الأنظار، لا نعرف!!'.
'أترى ذاك الضوء؟' أشار نضال إلى ضوء احمر يلمع وسط الظلام، وقال: 'تلك هي الحدود التي يجب أن لا نتجاوزها، تبعد عنا الآن حوالي كيلومتر، لكن إطلاق النار يداهمنا حتى وان لم نصلها.'
وقال نزار عياش نقيب الصيادين، 'إن الصيادين الفلسطينيين يتعرضون لاعتداءات مختلفة من قبل البحرية الإسرائيلية مثل إطلاق النار عليهم واختطافهم عن متون القوارب وتدمير معداتهم وتعذيبهم في عرض البحر'. وأشار عياش إلى أن قوات الاحتلال قتلت 7 صيادين خلال عملهم منذ انطلاق انتفاضة الأقصى.
وكان الصياد محمد منصور بكر (20عاماً)، أستشهد في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي برصاص قوات البحرية الإسرائيلية، على شاطئ البحر شمال غزة.
ويعتمد الصيادون على عدة طرق لصيد السمك أهمها 'الجر'، حيث يلقون شباكهم على شكل أنبوب مخروطي (بطول حوالي 30 متر )، واسع من الأمام بعرض القارب ومغلق من الطرف المنغمس في البحر، ويتحول القارب إلى ما أشبه بجرار، يجر الشباك التي تلتقط كل ما في طريقها، ثم يتم سحبها وفصل السمك عن غيره. والطريقة الأخرى هي 'التحويط'، حيث يلقي الصيادون الشباك في البحر على شكل دائرة ويتركون في وسطها قاربا صغيرا يحمل مصباحا لاستدراج السمك، ويعود الصيادون لالتقاطه قُبيل الفجر.
ألقى البحارة شباكهم في البحر وبدؤوا عملية الجر. من تحت نظارته الطبية المتشققة إحدى عدساتها، يتفحص أبو شعبان جهاز (GBS) ليتأكد أنه لن يتجاوز الـ 3 أميال عمقاً.
وتمنع قوات الاحتلال الصيادين الفلسطينيين من الإبحار أكثر من ثلاثة أميال، وهي منطقة يشح فيها الصيد.
ويعمل في قطاع غزة 3726 يستخدمون زهاء 700 قارب مختلفة الأحجام أكبرها لا يزيد عن 20 مترا، و500 قارب يدوي، حسب مصادر نقابة الصيادين.
ووفقا لاتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية (1993)، يحق للصيادين الفلسطينيين الإبحار لمسافة 20 ميل بحري داخل البحر، لكن، وفي انتهاك واضح للاتفاقية، قلصت قوات الاحتلال مسافة الصيد تدريجيا إلى أن وصلت إلى ثلاثة أميال فقط.
سحب الصيادون شباكهم، وألقوا بها على متن القارب، كومة كبيرة من الطحالب وقطع الحديد والخشب وأكياس بلاستيكية ومخلفات مرتادي الشواطئ، قطعة معدنية من نرجيلة وسمك هلامي (قنديل البحر). الكومة غلب عليها اللون الأخضر من كثرة الطحالب، وبدت مثل ساحر يحركها بسبب ململة أكوام الصدف والقواقع، التي يلقي بها الصيادون في البحر ثانية ليلتقطها قارب آخر ويتخلص منها أيضا، وهكذا دواليك.
التف الصيادون يحملقون فيها بأعين ممتلئة بالضجر واليأس، التقط كل منهم صندوقا بلاستيكيا وأخذوا يبحثون عن السمك في مشهد أشبه بامرأة تلتقط بعض الحصى الصغير من وعاء العدس قبل الطبخ.
'ها هو جهدنا، ثلاث ساعات من الجر، قارب 13 متر، 4 صيادين، ومحروقات وخطر الموت لنخرج ب 2 كيلو جمبري و2 كيلو كوكتيل سمك،' يقول أبو شعبان، 'لو أن البحر مفتوح ونستطيع الإبحار لالتقطنا 15 كيلو على الأقل في كل جولة ( 3 ساعات) مع كمية سمك كبيرة، والسمك يتواجد بشكل فعلي بعد 9 أميال سيما السردين'.
وتمخر قوارب الصيادين ساحل القطاع جيئة وذهابا ( 34 كيلومتر بحري) باتجاهي الشمال الذي تحده إسرائيل والجنوب الذي تحده مصر. ويتسلل بعضهم داخل المياه المصرية للصيد فيها والعودة خفية أو لشراء السمك من الصيادين المصريين، لكن قوات الأمن المصرية تمنع ذلك.
ويشير أبو شعبان (50 عاما) إلى أنه تعرض أكثر من مرة للموت 'بإطلاق النيران' أو 'اصطداماً'، لكنه مجبر على هذه المهنة لأنه لا يتقن غيرها، إضافة إلى تدهور سوق العمل في غزة بسبب الحصار الإسرائيلي منذ ما يزيد عن 4 سنوات.
وتفرض إسرائيل حصارها على البحر كجزء من الحصار الذي فُرض على القطاع بعد أن أسر عدد من المسلحين الفلسطينيين جنديا إسرائيليا في غزة في يونيو 2006، واشتد الحصار بعد سيطرة 'حماس' بالقوة على غزة في يونيو 2007.
ويستذكر أبو شعبان إحدى قصص صيده، ويقول: 'كنت أقود هذا القارب، اقترب منا قارب إسرائيلي بقوة، أطلقوا النار حولنا ثم صدم قاربنا بقوة، قفزت في البحر لأنجو من الموت وتضرر القارب بشكل كبير وساعدنا صيادون آخرون للوصول للشاطئ.'
تحت متن القارب هناك حجرات صغيرة مخصصة لحفظ السمك، بقيت فارغة، وحجرة منفصلة للمحرك. هبط أبو عودة إلى الأسفل، بدا جسم القارب مثل ثوب عتيق تتزاحم عليه البقع، أشار نضال إلى البقع وقال وهو يتفحص مستوى الزيت 'هذه البقع أثر رصاصات إسرائيلية، لقد تعرضنا مرارا للموت، والقارب تضرر أكثر من مرة.'
واستذكر نضال ليلة اختطاف القارب بمن عليه وقال: 'ثلاثة زوارق حربية أحاطت بقاربنا، قفز منها رجال كوماندوز ملثمين ومعهم أسلحة قصيرة، اعتدوا علينا بالضرب بأعقاب الأسلحة وأجبرونا على القفز في مياه البحر رغم البرد الشديد.'
ويستطرد أبو عودة 'اقتادونا إلى ميناء أسدود، خضعنا للتنكيل عدة ساعات ثم أفرجوا عنا فيما بقي القارب محتجزاً للمدة 4 أشهر علماً أن حوالي 8 عائلات يعتاشون من هذا القارب'.
اعلي قمرة القيادة جهاز الكتروني يكشف مرابض السمك، يحملق أبو شعبان فيه بيأس، وقال: 'كان هذا الجهاز يكشف أماكن تجمع السمك، تظهر ككتل ملونة على الشاشة، لكن الكتل التي تراها الآن هي صخور فقط... لقد حفظناها من كثرة ما نراها.'
وأدى الحصار البحري على غزة لارتفاع أسعار الأسماك لأكثر من الضعف. وهنا يشير المواطن أحمد قشطة من مدينة غزة إلى أنه 'من عشاق السمك'، وكان يشتري كيلو السمك من نوع 'لوكس ودنيس' ب 30 شيكل (الدولار حوالي 3.6 شيكل)، أما الآن فالسعر متذبذب ويصل أحيانا إلى 70، أما سعر كيلو السردين فكان متوسط 7 شيكل، أما الآن فهو بمتوسط 25 شيكل، الأمر الذي يجبره على شراء أسماك مجمدة.
وتقول نقابة الصيادين إن قوات الاحتلال نفذت 1000 حالة اعتداء ضد الصيادين منذ بدء الحصار، من بينها زهاء 250 حالة اختطاف ومصادرة وتدمير معدات.