بقلم : رشاد أبوشاور ... 13.07.2011
الثورةأولاً: هذا هو العنوان الذي اختاره ثوّار ميدان التحرير لجمعة 8 تموّز/يوليو الجاري، مذكرين ببساطة، بأن ثورة شعب مصر، هي أولاً، أي هي قبل أي مؤسسة ظهرت بعد 25 يناير، وأن أهداف الثورة يمكن أن تختصر بكلمة: التغيير.
ولأن التغيير لم ينجز، بل يتّم التلاعب به كهدف، ويكتفى بما هو شكلي: إزاحة مبارك، ومحاكمات (رحيمة) لرموز الفساد، كما حدث مع عدد من الوزراء، وضبّاط الشرطة القتلة، و..عدم محاكمة مبارك وأبنائه، ورموز نظامه الفاسدين الذين نهبوا البلد، وهو ما يشعر المصريين بأن مبارك أزيح، ولكن (نظامه) باق بكل أدواته..فإن الثورة تتجدد، وستبقى أولاً حتى تحقيق أهدافها!.
الثورة أولاً، يعني التغيير الحقيقي الملموس، الذي يجتث النظام الفاسد من شروشه، ويحاسبه ويوقع به القصاص عقابا على كل ما اقترفه بحق مصر، وشعب مصر، ودور مصر، بحيث لا يبقى له اثر في الحياة المصرية، ولا تبقى إمكانية لبروز نظام فاسد يخلفه، أو يشكّل امتدادا له، يسرق ثورة مصر، وينحرف بها عن مسارها.
وأنا أتأمل الحشود المليونية في ميدان التحرير، ولا ننسى الميادين الأخرى في المدن المصرية، تحت شمس بلغت حرارتها 42 درجة مئوية في الظل، فما بالك في العراء، وهي تتزاحم، وتهتف، وترفع الشعارات، وتنصب المنصات، وتصغي للخطباء، وتردد الهتافات من حناجر مؤمنين شغوفين بالحرية والكرامة، نساءً ورجالاً وشبانا يتقدون حماسة، ازددت يقينا بأن هذا الشعب يمسك بثورته، وأنه يقظ، وأن أحدا لن يسرق ثورته منه، بأهدافها، وما بدأت ترسخه من مفاهيم وقيم، وترسمه من طريق إلى المستقبل.
عندما انفجرت الثورة في تونس، ومن بعدها في مصر، ظنّ بعض المتابعين، والمراقبين، وحتى مثقفين يفترض فيهم أنهم أصحاب تجارب، وأفكار ثورية، أن ما يحدث لا يعدو أن يكون حدثا عابرا.
ولأن هناك من لا يثقون بالجماهير، وينظرون إليها من فوق، ويرمونها بالعجز دائما، ويستمتعون حتى باحتقارها، فقد حكموا على الثورات العربيّة، والتحركات الجماهيرية، بأنها (فعل) أمريكي مدبّر، والبرهان على ذلك أنها انطلقت من الفيس بوك، والإنترنت، والخلويات، والتويتر، واليوتيوب!
طبعا لم يفسروا سبب انفجار الثورات بالضبط في هذا الوقت، وكيف تدفقت الملايين إلى الشوارع، والميادين، والمدن في البلاد الثائرة، من العاصمة إلى الأقاليم، علما أنها بغالبيتها لا تعرف شيئا عن تكنولوجيا المعلومات!.
لم يتساءل هؤلاء: كيف تمكنت التكنولوجيا من إقناع ملايين اليمنيين الصامدين في الساحات، وهم يقتلون يوميا، أن يبقوا متشبثين بأهدافهم طيلة خمسة أشهر، وهم في صراع مع قوّات علي عبد الله صالح، بدعم السعودية، وأمريكا التي ترى فيه حليفا يعتمد عليه في محاربة (الإرهاب)، وترى فيه السعودية حارسا لبواباتها ونوافذها من تسرّب رياح الثورة!
ولهذا رفعت الجماهير اليمنيّة شعارها في يوم الجمعة 8 تموز/يوليو: جمعة لا للوصاية!.. والوصاية فسرها الثوّار، ولم يتركوها غامضة: لا للوصاية السعودية والأمريكيّة.
الجماهير يقظة، في تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، والبحرين، وسورية، وفي كل بلاد العرب، فهي تعرف أعداءها جيدا، لأنها خبرتهم جيدا.
من الذي لا يعرف أمريكا ودورها التدميري في العراق، وتحالفها مع الكيان الصهيوني، وانحيازها ضد أبسط مطالب الشعب الفلسطيني، ورعايتها ودعمها لأنظمة الاستبداد والفساد في بلاد العرب؟!
هل سينطلي على أحد أن أمريكا مع ربيع الثورات العربيّة؟!
يوم 7 تموز/يوليو توجه السفير الأمريكي إلى مدينة حماة السورية، وتبعه السفير الفرنسي، بهدف ظاهر هو دعم متظاهري حماة.. فماذا فعل السفيران هناك؟!
أجاب على هذا السؤال أحد قادة المعارضة في المدينة، على سؤال فضائية الجزيرة يوم الأحد 10 في نشرة الظهيرة: حضر السفير الأمريكي، والتقى ببعض المعارضين، وسألهم عن أهدافهم، وما يطالبون به، ثمّ سألهم: ما هو موقفكم من (إسرائيل)؟!
هذا هو هاجس أمريكا، وهذا جوهر دورها، ودور فرنسا الذيلي: الانحراف بالثورات العربيّة، وتحويلها إلى (انفجارات) إقليميّة عابرة، يتنصل سارقوها من فلسطين، وينهون الصراع العربي ـ مع الكيان الصهيوني، وينضوون تحت جناح الهيمنة الأمريكية، و..هكذا تفوز أمريكا والكيان الصهيوني، وتعود الأنظمة المجرمة الفاسدة المستبدة بوجوه جديدة هيهات أن يتم إسقاطها إلى عقود، يسقط خلالها الوطن العربي تحت نظم استبداد أشرس من سابقاتها، وتنتهي آمال التغيير، وتسود عصور ظلام وفساد، فلا فلسطين ولا عروبة، ولا ديمقراطية، ولا أوطان حرّة، ولا كرامة.
لذا رفع ثوّار اليمن: جمعة لا للوصاية، وعاد ثوّار ميدان التحرير إلى ميدانهم، ورفض المعارضون السوريون الشرفاء المشاركة في مؤتمر الصهيوني ليفي في باريس، بل وفضحوه، وهنا يحق لنا أن نقول: معارضة عن معارضة تفرق، فلا شيء يجمع بين الناصري المخضرم الصلب حسن عبد العظيم، والكتاب والمفكرين: ميشيل كيلو، وفايز سارة، وعارف دليلة، وحبيب عيسى، والطيب تيزيني، وبرهان غليون، وإخوانهم ورفاقهم من جهة، و(المعارض) عبد الحليم خدام الشريك في الحكم على مدى ثلاثين سنة، والعقيد رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع التي دمّرت حماة، وقتلت المئات في سجن تدمر، والذي يريد (الحكم) من منطلق أنه الأحق وراثيا!
الثورة أولاً تتجدد في مصر، وبقية البلدان العربية الثائرة، لأن الشعوب تعرف أن الوقوف في منتصف الطريق، قبل إنجاز الأهداف، يعني الانتكاس، والضياع، وتمكين الانتهازيين والمارقين ولصوص الثورة من سرقة الثورة.
ولأن مصر هي الركن الرئيسي، وهي التي يمكن أن تكون السند لكل الشعوب العربيّة الشقيقة، والمنارة التي تجذب، وتهدي، وتنير، فإن العرب يتابعون منجزات شعبها العظيم، ويراهنون على انتصاره الحاسم والمؤزّر، بحيث تعود مصر العظيمة إلى بحرها، بعد أن توّهت منذ كامب ديفد، وأخرجها السادات وجعلها تسبح في بيئة ليست لها، ومياه لا تناسبها، وتسخّر لأهداف نقيض جغرافيتها، وتاريخها، وهويتها، ومصلحتها.
وأنا أتأمّل مئات ألوف المصريين في ميدان التحرير، تحت الشمس التموزيّة الشرسة، كنت أتساءل: كيف تحتمل هذه الجموع درجة حرارة بلغت 42 مئوية في الظل، فما بالك بها في العراء، ومع هذا الزحام الشديد، وحاجة الإنسان للماء البارد، والظل، والجلوس براحة لالتقاط الأنفاس، وللطعام، ولقضاء الحاجة؟!
هذه الألوف استشهادية روحيا، ونفسيا، واختيارا، وهي ترسل رسالتها بقوّة: الثورة أولاً ..يعني الثورة مستمرة، الثورة الدائمة، بالإذن من تروتسكي، حتى النصر الذي لا لبس فيه، والذي يحرسه من يمثلون الشعب، ويأتمنهم على قيادة المسيرة.
حيثما وليّت وجهك في بلاد العرب، سترى شعوبا ثائرة، فالخوف انتهى، والقلوب (حديد)، والبصر (حديد) يرى كزرقاء اليمامة، ويميّز بين الشجر الثابت، والعدو الذي يتحرّك متقدما بحرابه متخفيا بالشجر!
ليس أمام نظم الحكم العربيّة، في البلاد الثائرة، أو المنتفضة، أو التي ستثور، إلاّ تسليم السلطة للشعوب، فقد انتهى زمن الاستبداد، والظلم، ولم يعد خطاب أي نظام عربي يقنع طفلاً صغيرا في مرحلة الابتدائي، لأن هذا الطفل يعرف أن والده فقير، وشقيقه بلا عمل رغم انه جامعي، ويرى على الفضائيات بلاد العالم، وما ينعم بع البشر من حرية وعدل وسيادة، ولذا يهتف الأطفال العرب بوعي حاد ضد نظم الحكم: الشعب يريد إسقاط النظام..ويستشهدون أيضا في الميادين!
انتهى زمن الجمهوريات الوراثية، والملكيات المطلقة، وحكم العوائل في بلاد العرب...
هذا ما تقوله جُمع تموز المبشّرة بالتجدد والديمومة حتى تتوّج بالانتصار التام والأكيد.