بقلم : رشاد أبوشاور ... ...9.8.07
كانت القبائل العربيّة تحتفي بميلاد شاعر ينشر اسمها بين العرب، يجري في عروقه دمها، ينطق بفصيح الكلام شعرا يرّد عنها ألسنةً قد تهجوها، يشيع شعرا يلهج بمديحها، ينشر صيتها، ويعلي شأنها، فيتفاخر رجالها ونساؤها بنسبهم ونبل محتدهم لها.
ولادة الشاعر، والمبدع هي ولادة ثانية، لأنه لا يخرج إلي الدنيا من رحم أمّه شاعرا. ولادة الشاعر هي ولادة موهبته، نبوغه، ولذا كنّي أحد شعراء العرب الفحول بالنابغة.
في غزّة قرر شاعر التوقّف عن الكتابة، حمايةً لأسرته الصغيرة، هو الذي سخّر نبوغه لقضيته وشعبه...
كتب الشاعر بعد أن قذفت قنبلة علي بيته: ليس من الحكمة أن تكون كاتبا علي حساب عائلتك.
هذا الشاعر الذي أعلن في مقالة مفجعة مفزعة نشرت علي موقع (إيلاف)، وحملت عنوانا لها: (العيش في فم الذئب)، هو الشاعر الرقيق الموهوب: باسم النبريص.
أتابع هذا الشاعر باهتمام منذ سنوات، وكم كانت سعادتي حين وصلتني مجموعاته الشعرية في كتاب واحد، فقرأتها، وكتبت عنها في (القدس العربي)، لعلّي ألفت انتباه النقاد والقرّاء إلي ما يتمتّع به هذا الشاعر من موهبة عالية.
لباسم النبريص وجهات نظر سياسيّة يختلف فيها مع السلطة، ومع حماس، وهذا حقّه كفلسطيني، وهذه آراؤه، واجتهاداته.
في زمن السلطة عاني باسم من التمييز الوظيفي والأدبي، لأنه غير تابع، متمرّد، معتّد بكرامته، صاحب قلم فضاؤه بلا حدود.
في زمن هيمنة حماس علي قطاع غزّة، وهي زفّت للفلسطينيين بشارة انتهاء زمن الفوضي والفلتان الأمني، وسطوة الأجهزة.. قصف بيت باسم بقنبلة كادت تؤدي بأسرته إلي كارثة. من الواضح أن الجناة أرادوا تلويع قلب باسم بقتل الأم، والزوجة، والابنة، بحيث لا يبقي باسم الشاعر والإنسان، وإنما الحطام، ليتعذّب بدلاً من أن يكتب الشعر والمقالات المختلفة.
بعد أن رثي باسم صديقه نصر أبوشاور، بمقالة بعنوان (عن الشاعر المقتول بأيد فلسطينيّة)، عوقب بإلقاء القنبلة علي بيته المتواضع، ولعلّه عوقب بأثر رجعي ـ هل يكون مثل هذا العقاب تدميّا؟! علي مقالاته التي عارض فيها بعض عمليات المقاومة، علي اجتهاده وحقّه في أن يصيب ويخطئ، وقول ما يناقض قول غيره تنظيمات وأفراد، شعرا ونثرا.
غزّة قبل حماس لم تكن جنّة الشعراء، والمفكرين، والصحفيين، فعلي ثراها اغتيل خليل الزبن الصحفي والكاتب الفتحاوي، برصاص تابعين للأجهزة، وطويت الجريمة، وأسدل عليها ستار اللفلفة!.
وفي غزّة اختطف الصحفيون، وخوّفوا، وروّعوا، ولكموا علي أفواههم.
أي أزعر إن لم يتحدثوا عن بطولاته، ولم يستصرحوه صوتا وصورة أمام الكاميرا، فإنه كان يعمد إلي اختطافهم وترويعهم، وهذا ما حدث مع سيف الدين شاهين، الذي اضطر للهرب بعد استيلاء حماس علي السلطة في القطاع، مكتفيا بتجربته مع سلطويي الأجهزة، رحل مع أسرته إلي بلد اسكندينافي طالبا اللجوء السياسي!.
كان سيف الدين شاهين مراسلاً مشهورا (للعربيّة)، ومن قبل (للجزيرة)، فلماذا اختار الغربة، لولا أن الحياة باتت خطرة عليه وعلي أسرته، هو أحد المراسلين الذين كانوا يتعرضون لمخاطر نقل أخبار العدوانات الإسرائيليّة، ميدانيا بكّل شجاعة!.
باسم النبريص صدم بجريمة إلقاء القنبلة علي بيته المتواضع ـ هو لا يقيم في برج من الأبراج، ليست له فيلا علي البحر من الأراضي التي تسلط عليها لصوص السلطة ـ هو يعيش في مخيّم فقير الحال، ومع ذلك يبدع شعرا نادر الجمال والأناقة، شعرا يستحّق أن يقرأه شعب فلسطين في الوطن والشتات، ويحتفي به، بالشاعر والشعر.. والفلسطينيون عندهم شعراء يستحقون الاحتفاء بهم!
لم يكن باسم النبريص يتوقّع ما حدث، لذا يكتب في مقالته الأخيرة التي قرأتها يوم الجمعة 3 آب الجاري: كنت أطمئن النفس بأننا في فلسطين ولسنا في أفغانستان! يااااه يا باسم..قبلك كتبت شخصيّا: غزّة ليست مقاديشو ، فإذا بي أتمنّي لو أنها مقاديشو بعشائرها المحاربة دفاعا عن بلدها واستقلالها.
أنت يا باسم تعرف أهمية الكلمة، وإلاّ لماذا يا صاح اخترتها حياة لك ؟ تكتب في مقالة الوداع: فما أنا غير كاتب يقول كلمته ويمضي!
وتفاجأ بأنهم يقرؤون..كيف يقرؤون ؟. قراءتهم ليست ليتثقفوا، ليحاوروا، ولكنها قراءة المتربصين العسس، قراءة أجهزة الأمن في بلاد العرب للتقارير الأمنيّة الكيديّة التي تستهدف المواطنين لا الأعداء الحقيقيين للوطن.
أنت يا باسم عدو لأنك شاعر، ومنذ رفع شعار: اخرس يا قلم وزغرد يا رصاص..أنت، ونحن جميعا أعداء لهم، للسابقين واللاحقين، فنحن بكلماتنا نفسد عليهم خططهم في تخريب العقول، وتضليلها، واستدراجها، واستغفالها!
أنت يا باسم لم تخف رغم الصدمة والمرارة، رغم ما جري لأفراد أسرتك من ترويع نحمد الله أنه لم يود بحياة أحدهم، ولذا تكتب بجسارة تليق بشاعر: لو كانت الحكاية حصلت قبل شهرين مثلاً لقلنا وقال غيرنا: لا جدوي..فوضي وفلتان أمني..وبما أن كل هذا انتهي، فهل تستطيع حماس أن تكشف حقيقة هؤلاء ؟!
يقصد باسم بسؤاله المشروع كمواطن، تحميل من باتوا يهيمنون علي قطاع غزّة مسؤوليّة كشف من ألقوا القنبلة علي بيته!
يا باسم، نحن نطارد منذ زمن بعيد. وليس من قبيل الدعاية الشخصيّة، اذكّر بأنني اضطررت للرحيل من بيروت أنا وأسرتي عام 74 بعد نشر روايتي (البكاء علي صدر الحبيب)، ولم أجد من يقف معي سوي أمين عام اتحادنا الصديق ناجي علوش، وصديقي وأخي حنّا مقبل، وبعض النقاد والكتّاب العرب، فلا تتألم من سلبية من توقعت منهم دعمك من الكتّاب الفلسطينيين، فحركتنا الثقافيّة مريضة، والأصحاء ضميريا، وخلقيا..قلائل، ومشتتون في الأمكنة...
أنت تختم مقالة الوداع، وهي خطبة تحد تليق بشاعر شجاع موهوب: لن أترك قطاع غزّة، وسأظّل مقيما فيه، فقد مضي زمن الترحال وتغيير العتبات. علي هذه الأرض وتحت ترابها سأدفن، ففلسطين وطني ولا وطن لي سواها..إنني أريد وطنا من بشر وتراب وأشجار وتاريخ...
أرجو أن تصلهم هذه الرسالة ، مثلما وصلتني رسالتهم ـ القنبلة.
أمّا قراء العزيزة إيلاف فأقول لهم: سلاما ووداعا، ولو إلي حين، إلي أن تنجلي الغمّة...
الغمّة تجتاحنا منذ قتلوا حنّا مقبل، ووجهوا رصاصهم لراس ناجي العلي، وداهموا مكتبه في رام الله وصادروا نسخ كتب إدوارد سعيد..
الغمة تجتاحنا وتسدل سحابة ثقيلة علي سماء فلسطين، وتطال كل فلسطيني في الوطن والشتات، مع ازدياد تناحر سلطتي غزّة ورام الله، وتنافسهما وتسابقهما علي نظرة من عيني بليرـ بلفور الجديد ـ وعلي بوسة من صحن خّد كونداليسا رايس!