بقلم : بشرى الهلالي ... 23.10.2011
لمرات عديدة شاهدنا فلم العراب واثار اعجابنا باجزائه الثلاثة..ربما بسبب جرأة الفلم الذي عرض في الفترة التي رافقت مطاردة عناصر المافيا أيام كانت في قمة نشاطها وشهرتها في فترة الخمسينيات وما تلاها، فلم تخل مجلة او نشرة اخبار عالمية من خبر عن المافيا ونشاطات الأنتربول والاف بي أي وكل انواع السلطات القانونية والقضائية التي كانت تسعى لقطع ارجل هذا الأخطبوط الضخم الذي سيطر على اقتصاد وحتى سياسات بعض بلدان العالم. فاين ذهبت المافيا؟ لم نعد نسمع عنها الكثير، وانطوت صفحتها وكأنها جزء من التراث.
هل حقا تم القضاء عليها، ام ان عمليات تبييض الأموال وغيرها حولت هذه المنظمة العملاقة الى جزء من الاقتصاد العالمي، وربما وجهت نشاطاتها الى مجال آخر. وقد نكون نسينا امرها، ففي بلادنا الآن ما يفوق نشاطاتها ذكاءً وما يعبر حدود امكانياتها سلطة وقوة. فـ (العراب) أو كورليوني لم يكن مجرد بطل فلم أو زعيم عصابة، بل كان مؤسسا لمنظمة عرفت بمثالياتها وإخلاقياتها الخاصة التي وإن كانت تستسيغ القتل والسرقة وتهريب المخدرات، الا ان كل ذلك يتم وفق قوانين أهمها مشروعية القتل اعتمادا على مبدأ (العين بالعين).
ورغم وحشية (العراب) وقدرته على التحكم بمصائر عدد كبير من الناس بما فيهم تابعوه الذين يقدمون له عصا الولاء والطاعة دون مناقشة، الا انه كسب عطف الناس ومحبتهم لما تمليه عليه مبادئ (المافيا) من تبني عوائل المقربين ومساعدة الضعفاء وتزويج العاملين لديه ومساعدة غيرهم على اكمال دراستهم، فصارت مفردة (العراب) تجسيدا للقسوة والرحمة والخير والشر، ومن خلال ذلك استطاع كورليوني التكفير عن جرائمه وارضاء ضميره. فهل كان (العراب) رجلا طيبا أجبرته الظروف على ان يصبح زعيما لعصابة تعمل على نشر المخدرات والقتل بالجملة؟ أم انه أصبح طيبا قياسا الى كثرة (العرابين) الذين تعددت أسماؤهم وهوياتهم واشتركوا جميعا بعلم أو بغير علم بمبادئ جديدة لشبكة أكبر وأوسع و ربما مافيات متعددة تسعى الى السيطرة على كل ماتقع عليه أيديها؟
يكفي ان نستمع الى نشرة اخبار القنوات الفضائية الصديقة والعدوة لندرك ان المافيا لم تختف من العالم تماما، بل إن العالم كله تحول الى شبكة مافيا تمتد خلاياها في كل انحائه، و هذه المافيا الجديدة اشد قسوة ووحشية من تلك القديمة، فقد كانت القديمة تتاجر بالمخدرات وتهريب الأموال اما الجديدة فانها تتاجر بارواح الناس ومصائر الشعوب.
وبدوره، كان العراق المحطة الأولى من بلدان الوطن العربي-وبكل فخر- الذي تشهد ارضه افلاما واقعية من قلب المافيا، فاينما التفت تجد عرابا واينما ذهبت تشعر ان حقوقك ملك يمين كورليوني أفرزته الظروف وغياب الضمير، صارت الوظيفة حكرا على أتباع العرابين، والبطاقة التموينية مجالا للمقامرة، والشارع ملعبا لسيارات تخترق الزحام والآذان بأصوات صفاراتها التي ما أنزل الله بها من سلطان. ولم يعد غريبا أن تسمع السب والشتم من فقراء المواطنين الذين صنفوا مجبرين على أن يكونوا أفرادا ضمن (طوابير) لاتنتهي، وهكذا تغيرت هيكلية وبنية المجتمع العراقي لتضم طبقة أصحاب السيارات المظللة والمكاتب المحاطة بالحواجز الكونكريتية والجوازات المختومة الى كل بلدان العالم، وطبقة (الطوابير) التي كالمعتاد تتشرف بانضمام غالبية البسطاء اليها.
ورغم كل التشريعات والقوانين التي بح صوت النزاهة وغيرها لسنها، لم تخب (صفارات) السيارات المظللة ولم يدخل السجن كورليوني منذ سنوات، بل أضيف الى جدول هموم المواطن الفقير الذي أرهقه أسر العبودية عشرات السنين هما جديدا لايوجد تعبير مناسب له سوى كلمة (الضياع)، ضياع هوية الفرد وضياع حقوقه وكرامته وآماله وأحلامه.
توسعت شبكات المافيا لتضم الى تجارتها تجارة أكثر رواجا وقسوة هي (أعمارنا)، وإزاء ذلك لا نملك الا ان ننحني لتقبيل ايدي عرابينا -على طريقة المافيا- ونطلب منهم وبكل رقة وادب ان يطلقوا سراح ايامنا التي باتت اسيرة طموحاتهم الشخصية وضحية صراعاتهم الجانبية من اجل الكراسي، ورحم الله مارلون براندو الذي ترك لنا صورة (لذيذة) عن العراب ويطيل عمر ال باتشينو الذي اخذ الأوسكار دون ان يدرك ان هناك من يفوقه كفاءة ليؤدي دور العراب .