بقلم : محمد طعيمة ... 12.02.2011
كما الجندي المجهول، يدفع دمه وروحه ولا يهتم بأن يتذكره احد.
هى تبدو في بداية العشرينيات وهو قد تجاوز الستين.. الكتفين والرأسين متساندين.. واضح انهما"ريفيين".
الوجهان باسمين، والظهران مستندان على باب دكان مغلق، نصف الجسدان في مدخل الدكان المنخفض عن الرصيف بربع متر تقريباً.. والنصف الأخر فوق الرصيف، يفترشان كرتونة ويتدفئان ببطانية مشتركة. المؤكد ان أحلامه أصبحت خلفه، وانه جاء معتصماً ليحمي حقها في مستقبل أفضل. ذكرتني حالتهما بصداقة ربطت أبي واختي الوسطى، ما زلت احلم بصداقة مثلها مع ابنة في رحم الغيب. في أحدى الليالي التي بتها بالميدان كنت أروح وأجي.. فقط لأتابع "حالة ودْوَدة وحكي" بين من يبدوان أب وابنة.
مثلهما مئات الحالات، عائلات كاملة ومجموعات من الأقارب و"البلديات". نهاراً تجدهم كالنحلة.. يهرولون للهتاف خلف الشباب، ويشاركون في الحراسة ضد البلطجية وفي تنظيف الميدان، وليلاً يسمعون، أو يشاركون، بإنبهار ممزوج باحترام للجدل السياسي وأحيانا الإجتماعي.. خاصة من ناشطات اليسار. بعد منتصف الليل، يلتحف أغلبهم السماء بعد جلسات سمر مع البلديات حول "رَقية" نار نقلوا أجواءها معهم من "البلد" للعاصمة.. لمصر كما يسمون القاهرة.
حين "يهزمهم" النعاس، يفترش الألاف منهم الحدائق التي تتوزع في التحرير، ومئات منهم ينامون على الأرصفة.. في أوضاع "إعجازية". لم يعرفوا الخيام إلا بعد سقوط المطر في أسبوع الغضب الثاني، وكانت اغلبها خيام بدائية، لكن البطاطين انهمرت من المتبرعين بوفرة فاقت الإحتياجات الفعلية.
عائلات كاملة، أتت غالبيتها من محافظات الوجه البحري. وجماعات "بلديات" لبت دعوة "الفيسبوكيون" ونزلت يوم 25 يناير، ولم تعد غالبيتهم الساحقة حتى الآن. لثلاثة أسابيع لم يأخذوا إستراحة محارب ليذهبوا، كما السياسيون والفيسبوكيون، إلى منازلهم للإستحمام أو لتناول وجبة "بجد" أو نومة مريحة.
تدهشك بساطة تقبلهم للوضع المُنهك والأوجه "المرتاحة نفسياً"، رغم الإرهاق وأثار التغذية السيئة البادية على أجسادهم. هم الجسم الغالب لثورة بهرت العالم، كتلة قابعة في الظل.. وراضية. فلاحون علموا أولادهم فتخرجوا إلى سوق البطالة، موظفون وعمال شركات قطاع أعمال وضحايا معاش مبكر.. وخصخصة، فشلوا جميعا في نيل حقوقهم مع عشرات الإعتصامات التي شهدتها القاهرة ومحافظاتهم، فكانت فرصتهم في نهر غضب 25 يناير الذي ضم كل الروافد.
المؤكد انهم لن يعودوا إلى بلدانهم، فقط، منتصرين، فهم تمازجو بعفوية الإقامة المشتركة، مع الألاف من النخبة "إجتماعيا وسياسيا"، تعايشوا وتكافلوا ودافعوا عن حياة بعضهم البعض دون ان يعرف أحدهم الأخر. عادوا بروح مختلفة وبثقافة سياسية تعيان ان القرار لهم لا لغيرهم، وانهم أبناء شعب عظيم يمكنه العزف معا، وان التنوع السياسي والسلوكي والثقافي.. ثراء يقوينا لو أحسننا التكيف معه.
هؤلاء "العاديون"، ذكرونا بأن "الشعب.. هو المُعلم".
عادوا "مصريين".