بقلم : سامي الأخرس ... 07.07.2011
كل ذكرى تتصلب شراييني، ويقف الدم عن التدفق لتغذية تلابيب المخيخ، ليبدأ البحث في رحلة القلم، ليدون بلا غضب عن غسان، ولكن!! يتصلب الإبهام ويتجمد، وأتعجب!!
ماذا يُكتب عن غسان، وكيف يَكتب هؤلاء عن ذكراه، وأغضب لعجزي عن الوقوف أمام الصورة، وأسأل بحنق الغيرة، ماذا أَكتب عن غسان؟! أكتب عن الإنسان؟! أم الأديب؟! أم الشاب العاشق؟!!
فاإنسان جف دمه، وعدنا جميعاً إلى لغتنا التي لم نستعد القدرة من خلالها على الكلام، والحديث عن ينبوع النهر والأحزان، فهذا ما عبر عنه الدرويش محمود عندما قالوا له أكتب عن صديقك غسان، فرد بغضب أكتب عن الشيء " الطبيعي" واللاطبيعي، فكلاهما أريد ايام لأعتاد عليهما، لأن حبره لم يجف بعد، رغم أن دمه جف.
فكيف نَكتبُ عن غسان الأديب، وقد أهدتنا غادة السمان مخطوطات عشق، ونيض النزف للإنسان الطبيعي، وفيض من الدم بكل اللغات، فكان السيف القاطع الساطع في مجرات التكوين الأدبية، وقوانين العشق الطاهرة. فلم يعد لدي القدرة على الحسم ما بين الفهم والتفاهم مع قلمي لأكتب عن غسان.
فأعود لأقرأ لغسان علني أهتدي للقصائد، ولليقين، وأجد فيها معنى للحرية التي أرادها غسان وهو يتناثر مع لميس في قصة عشق للوطن، فلم أجد إلا قاعدة الإغتيال الكتابية وهي تجردني من الوقوف أمام الصورة الكنفانية.
من قرأ غسان قرأ الحياة، وابحر في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وأدرك أن الحكاية لن نلتقي بها من جديد، لأنها ظاهرة كونية تركت أم سعد لنا، ولم تعد بنا إلى حيفا، رغم عودته في سفر التكوين والخيال إلى يافا، ونحن نعلم أن الندرة لا تُقرأ مرة واحدة كلما عدنا من جنائز التعري أمام الأدب!
نحن نعرف وندرك لماذا نكتب، وماذا نكتب؟ ونبحث كثيراً عن جذور بلاغتنا اللغوية، والوصفية، ولكن غسان أدرك الفكرة، وشعر بموته المبكر، فأطلق ينابيع عشقه إلى حد الإسراف، فلم نستطع إستدراك السر الذي غَيب عنا غسان، وغَيب منا الوعي ونحن أمام حركة السكون في قلم غسان... فحاولنا ونحاول اللحاق بحلبة السباق لإستدراك سر الإبداع، والضغط على الإبهام في رحلة الإكتشاف لمن جسد فلسطين بالنقش على صفحات الأدب، ففهمة الآخرون الذين يجيدون الفهم، ولكن!! لم نجده ولم نفهمة نحن إلا بعد طرق جدار الخزان.
فغسان الأديب الذي لم يرحمه شعبه، وتنكروا لأدبه، وهو من استمد منهم القوة ليؤسس مدرسة الثورة في الأدب، والأدب في الثورة، وهو من اعترف أن أرض البرتقال هي من شكلت غسان، وصهرت الفولاذ مداد ونزف يغتصب المنفى، ويعود بالقلم إلى وطن مسلوب من كحل الأعين.
كثيرُ كَتبت، والعديد هم من رَثيت، ولكن لم أستطع أن أكتب، أو أقوى على رثاء غسان، وأنا هنا أتلمس مسيرة وأدب الكنفاني، فأشعر بأنه لا يصلح للوصف بكلمات وعبارات، ولا يمكن الإبحار في ذكراه ومناقبه بمقالات أو عبارات، لا تحمل نبض غسان الذي كلما وقفنا في حضرته نعيد صياغة حياتنا، والبحث عن المجهول فيما لم نجد من معانِ تعصى علينا.
كل ذكرى افكر طويلاً، ماذا أَكتبُ عن غسان؟ وهل سيفهم من يقرأ من هو غسان؟ أم الإعتقاد أن ما نكتب هو تشظي في مساحة الوعي؟! فأترك قلمي، وأركل أفكاري، وأحدث نفسي، إنه لا يُكتب عنه. بل يحكى عنه للأجيال، ويُدرس في علوم الإبداع، ومفاهيم الإنسان في بدايات التكوين الإبداعي، والعلاقة بين الحسيات والماديات.
أما اليوم فإنني قررت أن أحتفي مع ذاتي، بذكرى إستشهاد " غسان" فبحثت في كل الصور، وتهت بين الأحرف والكلمات، وصليت بخشوع في محراب " درويش" وهو يكتب عن غسان فيقول: ويا صديقي غسان!
" إن البياض أمامي كثير. ودمك الذي لا يجف ما زال يلون. ولقد ودعت مرحلة من حياتي حين كنت أودعك. جئت ورأيت. ورأيتك كيف تذهب"
أما أنا فلم أجد سوى أن أكتب، إن السواد أمامي كثير، لأن ذنبي الذي لم يغتفر إنني لم أكتب عن الأرض التي أحببها غسان، وعن القمح واللوز التي عانقت روح غسان.
نعم يا غسان! إننا أمامك صغار، أصغر ما نكتب عنك... فتركت القلم ينزف ما يشاء من مداد الحياة. فإنك تحيا فينا بأم سعد، وموت سرير رقم 12، ورجال في الشمس، وعالم ليس لنا، والشيء الآخر، وجسر إلى الأبد، ولا زلت فينا تعلمنا أن " الأطفال هم المستقبل"، وأن الواقع هو منبع الفكرة والأدب، وأنت توصف لنا في " عائد إلى حيفا" قصة لجوء رأيتها وأنت طفل تتأمل طريق اللاعودة.
إن السواد أعظم عندما لا نعلم أن إبن عكا الذي ولد قبل أن تصل أمه إلى سريرها في التاسع من نيسان 1936م، شهر قطرات الندى على أوراق الزهر، كاد أن يختنق، ولكن! لأنه غسان كتبت له الحياة، ولأنه غسان عاد إلى يافا وشهد قرار التقسيم، ومعارك اليهود، ولأنه غسان ترك فلسطين في سرب اللجوء طفلاً، واعتمر في محراب بيروت أدباً.
فماذا أكتب يا غسان؟!!
لم أجد سوى عجز مداد قلمي عن النزف أمامك يا شهيد فلسطين، وقلم المضطهدين، وأقحوانة المقهورين... فأغفر لي غسان!!