بقلم : لبنى ياسين ... 11.07.2011
إهداء إلى روح الشاب خالد سعيد..
وأرواح كل من نحت رصيف الوطن بدمائه
ليزرع على ناصيته أيقونة للكرامة
في سوريا..وفي أي بقعة أخرى من الأرض
1-
لا جديدَ...مثلَ كل يوم.
يحملُ على كاهله ثقلَ الأيام، ويمضي طاعناً شوارعَ الوطن بخيبته، يغيظه الأملَ في عيونِ الصغار، من أينَ يأتونَ به صباحَ كلَّ يوم؟ أمِـنَ الطعم المر لرغيفِ الخبزِ المعجون بدقيقِ الهم، وملحِ الوجع؟ أم من مواويل الهمِّ المنسدلةِ صباحَ كل حزن جديد على كاهلِ أبناء الوطن.
ثمانية وعشرون عاماً من أحلامٍ مقتولةٍ، وآمال اغتالها اليأسُ بأصابعَ مدببة لا تحملُ شيئاً من الرأفة، ليكتشفَ بعدها أنَّ الأحلامَ محضَ وهمٍ، وأنَّ الأوهامَ لا تخلقُ إلا كي تموت وتقتل صاحبها كمداً.
الشهادة الجامعية التي يحملها، لم تشفعْ للذلِّ الذي يتجرعه يومياً على أرصفةِ الوطن، ليس الفقر هذه المرة، إلا أنه الظلم الذي يتجولُ بحرية في حاراتِ الوطن، ملقياً ظلاله السوداء على قلوبِ الناس..قلبه..قلوب أصدقائه الشباب...يؤرقـُه سؤالٌ واحد: أي حقٍ يملكه هذا الذي يدوسُ هامة كرامتنا كل يومٍ ..دون خجل؟؟...
2-
سيبقى لي أن أمزِّقَ رئةَ الحزنِ وحدي، وأعبثَ بنسيجِ الوجع ِحتى أنبشَ رقعة َضوء.
سيبقى لي أن أمسحَ جبينَ الذكرى، بكفوفِ طيفه..طيفه الذي لا يغادرني مهما أغرقتُ في الضجيج.
سيبقى لي أن أعلقَ صوره على جدرانِ القلب، لأكتشفَ معنى خواء الأيام..وفراغ الليالي من بعده.
ولن يبقى لي أن أمشطَ غرةَ القلق كلما فتحتُ شباكَ الحقيقةِ في وجهِ طيورِ الظلام على ملامحِه التي ضاعتْ.
ولن أتمكنَ من انتظارِ صدى خطواته تقتربُ من ظلِّ أرقي، تمنحني أماناً مؤقتاً بأنه ما زالَ إلى جانبي، وأنني ما زلتُ أمَّاً لم تختبرْ نبالَ الثكلِ وهي تخترقُ قلبها.
سيبقى لي أنْ أخلـِّد ذكرى صوته بصورةٍ مصلوبةٍ على حائط الفقد، ترتديها شريطة ٌسوداء، تذكرني بأن هذا ما تبقى لي من شابٍ وسيم ٍفخرتُ بأنني أمه.
3-
منذ تمكـَّن من الحصولِ على دليلٍ يثبتُ تعاونَ معاونِ مباحثِ قسم الشرطة، والعناصر الذين يعملون معه، في سرقةِ ما تمَّت مصادرته من مال، ومخدرات، وفي توزيعِ المخدرات والاتجار بها، وهو يفكرُ، ليسَ سهلاً أن يفضحَ مثل هؤلاء، لا بدَّ أنَّ الأمرَ سيكلفه كثيراً، وفي المقابل، ليس سهلاً أن يغمضَ عينيه عن حقيقةٍ قذرةٍ مثل هذه يعلم تماماً أنه الوحيد الذي يملكُ الدليلَ على وجودها.
يجرُّ أذيالَ حيرته باتجاهِ مقهى انترنت، لن يتراجعَ، غداً يومَ الحسم، سيفصحُ به عما يجولُ في ذاكرةِ جوَّاله الالكترونية، سيهبُ أبناءَ الوطنِ الذريعة ليحاكموا الجلاد، يجلسُ في زاويته المعتادة، يلقي تحيته في وجهِ صديقه صاحب المقهى، يجلسُ منهكاً من كلِّ حكاياتِ الوجع، وملامح المتعبين، يحيكُ من وجعه أسطورةً أخرى لأصحابِ الملابسِ العسكرية، والنجوم المعششة فوق أكتافهم، يرسمُ حنينَ وطنٍ لا يعترفُ بالرتب، ولا يبني بقوانينه سوراً يحيط به مواطنيه، ويترك الجلَّادين خارجها.
يخترقُ المكانَ ضابطان من مركزِ الشرطة، يستبيحان خلوةَ الزبائن بهمومهم وأوجاعهم أمام الشاشات الخاوية، يجريان تفتيشاً مهيناً على الجالسين، كما لو أنهما داهما وكراً للرذيلة أو للمخدرات، يعترضُ خالد، أي حق تملكونه لتنبشوا ذاكرتي، ومقتنياتي الصغيرة، وهويتي، دون أن أفعلَ ما يعطيكم الحقَّ في ذلك؟؟..
يجرُّه أصغرَ الضابطين رتبة، يلقى بجسده النحيلِ على الأرض، تتلقفه أرضُ الوطن ناعية موت بقايا إنسانيته، يقومُ الضابطان بركلِه كيفما اتفقَ بأقدامهما، لا يتقيان وجهاً ولا رئة، ولا يهمهما أي ألمٍ أو أذى يمكنه أن يلحقَ بشابٍ في مقتبلِ العمر جرَّاء الركل المجحف،وبتشفٍ لا تخفى ملامحه عمن هم في المقهى يتابعون بقلبٍ مدمى تفاصيلَ انتهاك إنسانية مواطنٍ آخر.. يقتربُ صاحبُ المقهى محاولاً الاعتراض، إلا أنَّ دفعة واحدة بلؤمٍ لا حدودَ له، مرافقاً بتلك النظرة إياها، تلك التي تهددُ دون صوتٍ بأنه حذار الاقتراب..فالبزة العسكرية والشرائط المتخمة المزروعة على الكتفين لديها حصانة لا قبيلَ لكَ على انتهاكها، يتراجعُ صاحبُ المقهى مقهوراً حدَّ الوجع، بينما يقفُ ضميُره في نفسِ المكان ولا يتراجع قيدَ أنملة، يعذبه سكوته عن ركلِ صديقٍ له، ووقوفه صامتاً إزاء ذلك، يتَّخذُ الضابطان قرارهما دونَ صوتٍ فيشدَّان جسدَ خالد خارجَ المكان، الجسدُ لا يبدي مقاومةً تذكر، وكأنَّ الروح قد ضاقتْ به فخرجتْ منه، وفي الخارجِ يصادفان درجاً حجرياً فيقرران أن يتعرفا إلى مدى قسوةِ عظامِ الجمجمة قياساً بالحجر، هل هي صلبة بما يكفي لتحمي فكرة مختبئة تشتعل غضباً، يضربان جمجمة الشاب بحافة الدرج الحجرية، يتحشرجُ صوتٌ في حلقِ خالد وسطَ ذهول المارة وقلة حيلتهم، وصمتهم..صمتهم الذي تجرعوه مع حليبِ أمهاتهم وصمةَ عارٍ يخجلون منها كلما أووا إلى سرير الوجع، وتقلبوا على وسادة الظلم.
يحملُ الضابطان جسداً كان يشعُّ حيويةً منذ قليل..دقائق لمْ يكملْ عددها أصابع اليدين، لكنه الآن متلبس بالسكون، لا يعيرُ الآخرين التفاتةً تخبرهم بأنَّ ما تبقى منه ما زال جسداً، ولمْ يتحولْ بعد إلى جثة، لمْ يعدْ في مقدوره أنْ يحرك طرفاً أو يرمشَ عيناً، فآلامه الآن أكثرَ من مبرحة، وأكبرَ مما كانَ يتصوره حداً لنزيفِ الوجع، يُـرْمَى بجسدهِ في سيارةِ الشرطة، التي تنطلقُ به هاربة ًمن شيءٍ لا يدركُ كنهه وهو على هذا الحال.
يعتري الجمود صاحبُ المقهى، كما يعتريه القلق تماماً، ووجع قصي يتغلغلُ في صدره كدبيبِ سرايا من النمل تجتاحه دفعة واحدة لا يستطيعُ إيقافها، يخبره بأنه كانَ عليهِ أنْ يفعلَ شيئاً، فيردُّ مكانٌ آخرَ في رأسه، وما الذي بإمكاني فعله؟؟.. أقصى ما يمكنُ أنْ يحدث لو اقتربتُ خطوةً أخرى أنْ ُأُرْكَلَ كخالد، وأنضم إليه في موكبِ من تلاحقهم الشرطة ، ثم يتولى الضابط ُلاحقاً أمرَ إيجاد الذنب المرتكب، التهمة الملفقة لي تماماً على مقاس الغضب الذي تسببتُ به لأصحابِ البزةِ العسكرية، وليصبحَ بعدها أمرَ ضربه لي وتنكيله بي قانوني تماماً ولا غبارَ عليه.
الأفكارُ تتلاحقُ في رأسِ صاحبِ المقهى، لا يستطيعُ حزمَ أمره، هل عليه أنْ يخبرَ أمَّ خالدٍ عنْ فجيعتها القادمة في هذا الوقت المتأخر من الليل، أم ينتظر قليلاً ويمنحها رفاهيةَ أمانٍ كاذبٍ تكملُ فيه ليلتها بكابوسٍ آخرَ لا يتعلق بابنها، وبينما هو كذلكَ تعودُ سيارة الشرطة، تتباطأ تدريجياً أمامَ باب المقهى حتى توشكُ على الوقوف، لكنها قبلَ التوقف تماماً تلفظ جسداً مدمى على قارعةِ الطريق، وتمضي لا تلوي على شيء، يركضُ صاحبُ المقهى وقد تسارعتْ ضرباتُ قلبه باتجاهِ الجسد المسجى على الأرض، ويلحقُ به المارة وزبائن المقهى، يكادُ لا يعرف صاحبه لشدةِ ما تبدلتْ تفاصيله في أقلِّ من ساعة، قسماته لا تشبهه، ملامحه هاجرتْ إلى أماكنَ أخرى من وجهه حتى باتَ كما لو أنَّ سيارة حمقاء تسكعتْ بعجلاتها فوقه، والقلبُ..غادرَ بنبضه بعيداً دون رجعة.
4-
لا تأتي يا أم خالد..و الزمي بيتك، لكي تبقى في ذاكرتك صورة وسامته الفتية كما هي، ولكي تستدعي تفاصيلَ ابتسامته عن أسنان بيضاء، مصطفة بأناقة في فمه كما لو كان يشاركُ في إعلان عن معجون أسنان جديد يحمل معجزة التبييض، لن يروقك ما قد ترينه الآن، ستنبشين الأرض بحثاً عن بقية أسنانه، ولن يكون بمقدورك إيجادها، ستحسبين مساحة وجهه فلا تطابق ما تعرفينه، وستنكرينَ أنه ولدكِ..وتتشبثينَ بوهمِ الاختلاف..إنه لا يشبهه يا أم خالد..لقد عُدلتْ ملامحه وسُحقتْ وضُـربتْ ورُكلتْ، ولو نظرَ إلى نفسِه لشكَّ هو بنفسِه، بهويتهِ، باسمِه، وحتى بانتمائه، لكنه لم يعدْ قادراً على التأكدِ منْ ابتسامتِه صباحاً، ولا منْ لونِ عينيه، لن تروقَ لكِ يا أم خالد الدمعة المتجمدة في طرفِ عينه تحكي شموخه وعزة نفسه، وستبحثين عن البريقِ الذي أحببته فيهما فلا تجدين إلا الصقيعَ والوجع...لا تأتي أم خالد، ودعينا نغسِّله ونصلي عليه..دون أن تصافحيه بثكلك الآن.
5-
سيبقى لي أنْ أفخرَ بهذا الوجع المشرف، وسيبقى للتاريخِ بعدي وبعده، أن يخبرَ أبناءَ الوطن بأنَّ دمَ ولدي خالد لم يذهبْ هدراً، فالرهانُ كان خاسراً يا حضرةَ الضابط..الجلاد....السجان.. والفكرةُ بقيتْ مشتعلة داخلَ الجمجمة المهشمة، وما أن لفظَ آخرَ أنفاسه حتى نبتَ لها جناحان منْ نور، وتكاثرتْ حتى ملأتْ السماء، وعششتْ في رؤوسهم جميعاً، فهل ستقتلهم جميعاً؟! وما أنْ غادرَ الأرض مكللاً بدمائِه وعزته حتى أعلنَ جثمانُه الممثلِ به على أيديكم عن موتِ الخوفِ..وولادة الحرية.
وسيبقى هو للوطن اسماً يعلقه وسامَ شرفٍ يذكـِّر فيه الطغاة أنه لا بدَّ أن يأتيَ ذلكَ اليوم..حتى ولو على صهوةِ الدم.