بقلم : سهيل كيوان ... 17.11.2011
كلما أوشكت مياه المستنقع على الركود ضرب بذيله وذراعيه وقدميه ورأسه وعكرها من جديد، لأن سر بقائه يكمن في الخلط والتعقيد والتشويش والتشويه، هكذا يضمن البقاء في ملعبه وفي ظروف اللعب التي يتقنها، فهو يخلط بين شخصه الصغير وبين الوطن الكبير، هو يريد لكل المخلوقات من حوله العيش في وهم بأنه هو الوطن، وأن الوطن هو نفسه، أما الطفيليات التي تقتات من جلده فمن مصلحتها تكريس هذه القناعة لدى الناس بدءًا من سن الرضاعة، فهو الوطن والوطن هو، هو خيار الآلهة وليس خيار البشر، وعلى كل مولود في هذا الوطن أن يكيف نفسه ورغباته وطموحاته وهواياته وفنونه وإبداعاته في خدمة حقيقة واحدة تقول إنه هو الوطن، وعندما تقول 'أحب وطني' فأنت تقصده هو، فإذا عبّرت عن مقتك لشخصه فكأنما خنت الوطن، عند ذكر اسمه عليك أن تخشع، وأن لا تلفظ اسمه الشريف إلا بعد عبارات من التفخيم والتعظيم، وبعد تراكمات التعظيم على مدار سنوات يتوهم بأنه إله، فإذا ذكرت اسمه (حافًا) بدون الهالة والتفخيم، تعتبر منحرفًا وعلى وشك التمرد والعصيان على الوطن.
عندما يشعر النظام أن أنفاس الوطن باتت كلها في قبضته يصاب بجنون العظمة فيعتقد بالفعل أن الوطن تجسد فيه فيستحل كل شيء فيه لنفسه، فإذا شعر بنشوة جسدية ظن أن الوطن كله في حالة انتشاء، وإذا أصيب بمغص وانتفاخ 'لا قدر الله' فلا بد أن الوطن كله ممغوص ومنفوخ، فإذا اكتأب في ليلة فشل عاطفي فعلى الوطن أن يدفع الثمن.
في استفتاءات الرأي هناك عمليه مبرمجة يقصد منها خلط الأوراق مثل 'أجب بنعم أو لا'، هذه تقنية يستخدمها النظام، فمن يطالب بإسقاط النظام كأنه ضغط على زر 'أنا معاد للوطن'، فإذا رفض اختزال الوطن بالنظام ورأسه يصبح متآمرًا، فإذا فتك النظام بالناس لأنهم فطنوا أنهم بشر وانه مثلهم وطلبوا حماية من الله أو من قوى بشرية فهذا يعني أنهم يطلبون شن مائة ألف غارة على الوطن وتقسيمه، أما من يقول 'لا للتدخل الأجنبي' فهذا يعني أنه سعيد وراض بالقمع حفاظًا على الوطن، فأنت لا تستطيع أن تكون وطنيًا وقوميًا ورافضًا للتدخل الأجنبي إلا لأنك تحب النظام، وإذا قلت لا للمؤامرة الاستعمارية الجديدة على الوطن العربي، فهذا لأنك حريص على بقاء النظام لأنه ليس شريكًا في المؤامرة الجديدة، فإذا قلت 'لا للديمقراطية المستوردة' فهذا يعني أنك تعشق الدكتاتورية الضرورية لمخاطبة العرب الذين لا يفهمون سوى لغة القوة، وممنوع أن تكون ديموقراطيا إلا بالحصص التي يسوقها النظام في الصيدليات، فإذا قلت لا للفتنة فهذا يعني أنك مع النظام، لأنك لا تستطيع أن تكون ضد الفتنة وضد النظام في آن واحد.
إذا قلت لا لديمقراطية أمريكا فكأنما كبست على (كليك) نعم لدكتاتوريتنا الجميلة، فإذا عبّرت عن عدم رضاك عن أداء جامعة الدول العربية فكأنما كبست على (كليك) لا للربيع العربي،أما عندما يقول النظام لا للحوار مع من أيديهم ملطخة بالدماء فهذا يعني أن النظام بريء من الدماء التي سكبت وأن المجازر اليومية ليست من صناعته.
ورغم هذا فقد شعر النظام بضعفه وأدرك أنه يوجد شعب في هذا الوطن يستطيع التنفس والتبول بدون تصريح مختوم منه،فلم يبق أمامه سوى تمزيق المعارضين، بعد أن كان يرفض مجرد الاعتراف بحقهم في الوجود، فقسمهم إلى معارضة بناءة وأخرى هدامة، وقسم البناءة إلى أقسام، البناءة جدًا هي المعارضة الرومانسية التي ترفع صور رأس النظام وتهتف له 'شكل تاني حكمك انت' فأنت يا سيدي تختلف عن الدكتاتوريات الأخرى 'حتى لما بتقسى مرّه وتعاتبنا بكلمة مرّة...وتضربنا لمصلحتنا' وتطالبه بأن يتكرم على المساكين ورفع العتب بتقديم مسرحية ديمقراطية تنتهي ببقائه في الحكم، والمعارضة الأقل بناءً هي التي تطالب بالإصلاحات ولكنها غير مستعدة للمواجهة إلا ببيانات لا يفهم ظهرها من بطنها، ففي سطر واحد ستجد تناقضات من طراز 'نحن مع الشعب وحقه ومع النظام المعادي للامبريالية لأننا نحب الوطن'. أما المعارضة الهدامة فهي تشمل كل المستعدين للمواجهة مع النظام رغم كل القمع، وهؤلاء هم المخربون.
وهذا يعني أن لا حوار ولا تفاهم إلا مع من يقرّون بحق النظام في كل ما فعل وبما قد يفعل، مع إمكانية المناورة والتضليل ليبدو الأمر وكأنه قرار الشعب.
خلط الأوراق فيه تضليل للآخرين ولكن تكراره يضلل من يمارسه أيضاً، وهو يمنح شريحة واسعة من طفيليات النظام فرصة الدفاع عنه تحت مسميات الوطنية بمختلف تجلياتها، وأخطر من يمثل هذه الشريحة مجموعة من المثقفين، وهؤلاء ليسوا سواء، فمنهم من قرروا دعم النظام لأنهم عاشوا ونموا في ظله ورعايته وبدونه لا يساوون شيئًا، وهم يرون جرائم النظام ولكنهم يظنون أنه قادر على وقف حركة الفصول مثلما ظن آخرون من قبل وكما سيظن لاحقون من بعد، ولا يريدون فقدان طيبات القرب من صحن السلطة أو التعرض لعقوباته، هؤلاء لا يتخيلون سقوط من كان شبه إله، ومن المثقفين من بات على قناعة بأن النظام يفضل حرباً أهلية على السقوط، ولهذا قرروا اختيار أهون الشرّين، أي بقاء النظام على علاته وتركه يفصّل ثياب طلته الجديدة كما يشاء فهذا أهون من حرب أهلية لن تبقي نظاماً ولا معارضة ولا وطن،وهناك فئة وطنية بالفعل ولكنها تعتقد أن مجرد عداء النظام لأمريكا وإسرائيل يشفع له ما تقدم وما تأخر وما ظهر وما خفي من جرائمه، وهؤلاء مقتنعون بأن أعداء الأمة يحرّكون الشعوب كما يحركون الأنظمة بالريموت من بعيد، هؤلاء لا يريدون الاقتناع بأن المتظاهرين والدّبيكة والشهداء الذين تكتظ بهم شوارع وأزقة الوطن وكلهم من الانتاج المحلي وليسوا مستوردين من بلاد الأعداء أو بلاد الأشقاء.
بإمكان الموساد وغيره من أجهزة مخابرات تجنيد عملاء واغتيال علماء ومناضلين وشخصيات مهمة وتفجير هنا وآخر هناك، ولكن أي موساد وأي (سي آي إيه) ليس باستطاعته تحريك ملايين الناس إلى الشوارع في مواجهة مع الموت للتخلص من النظام.
النظام الغريق في مستنقعه يصعّد من تعكير المياه التي باتت وحولاً، لكنه بات محاصراً في مساحة ضيقة، ومناوراته باتت مكشوفة، ويوما بعد يوم يقترب من حتمية احتساء الكأس المرّة، طبيعي أن تحاول كل القوى الإقليمية والعالمية الاستفادة من تركة هذا النظام، وتجيير التغييرات لمصالحها، وهذا يشمل أولئك الذين يدّعون صداقته اليوم، ولهذا وبما أن هذا النظام 'شكل تاني' فأعتقد أن نهايته ستكون أيضاً إبداعية و'شكل تاني' لا تشبه نهايات سابقيه أو لاحقيه..