بقلم : رشاد أبوشاور ... 24.08.2011
ما نشهده في ليبيا هو النهاية للقذافي، فهو (مزنوق) الآن في طرابلس بعد أن باغتته انتفاضة الشعب الليبي في عاصمة (مُلكه)، وزحف الثوار من عدة مناطق بحرا، وبرا، ليطبقوا عليه، وعلى بقايا (قوّاته)، وشراذم أتباعه الذين يعرفون حجم جرائمهم التي لا تغتفر بحق الشعب الليبي، وهو ما يدفعهم للقتال حتى الرمق الأخير، لأنهم يعرفون أن الشعب الليبي لن يغفر لهم ما تراكم من جرائم يصعب تصورها.
يمكن القول بأن النهاية أزفت لحكم طاغية مستبد مارق، وهي في لحظاتها الأخيرة، وأن أمامه خيارات كلها مُرّة لأنها ستؤدي إلى نهايته، وانهيار مخططاته في البقاء حاكما، وتمديد تحكمه بتوريث عبر ابنه سيف، النسخة المستمسخة شكلاً ومضمونا، وسلوكا عدوانيا استعلائيا مستفزا ومستهترا.
معركة طرابلس، وهي متواصلة حتى اللحظة، قالت كلمة النهاية لتحكم الطاغية في مقدرات ليبيا طيلة 41 عاما، ونهايته حسمت، فهي في دائرة الاحتمالات التي لم يتوقعها: إمّا الموت قتلاً، أو الهرب إلى الخارج إن تمكن، أو اللوذ بالعشيرة في سبها لإطالة أمد معركته التي لن ينتصر فيها
على الشعب الليبي وثواره القبض عليه ومحاكمته على كل جرائمه بحق الشعب الليبي.
أهمية معركة طرابلس أنها معركة تحرير ليبية بحتة خالصة للعاصمة، بدون مشاركة أرضية من حلف النيتو، فشعب المدينة انتفض من الداخل، والثوار انقضوا بحركة صاعقة من خارج العاصمة، وهكذا تمّ تحرير أغلب
أحياء طرابلس، وزُنق القذافي مع من تبقّى من أتباعه في (العزيزية) التي رغم أنها مترامية، ومحصنة، فإنها لا تضمن بقاء حكم القذافي، ولن تستقطب الملايين التي يدعوها للزحف دفاعا عن جنونه، فالشعب الليبي المتلهف على الحريّة هو الذي يطهر أحياء عاصمته من فلول مرتزقة القذافي، ولجانه الشعبية، وكتائب أبنائه المتقهقرين إلى وكر أب لقنهم الغرور والصلف، وعودهم على سفه تبديد أموال الشعب الليبي بغير حساب، وأن ليبيا ملكهم العائلي، لأن الشعب ليس سوى جرذان!
تقول طرفة ليبية انه في يوم من الأيام أجريت مسابقة لنقل عشرة جرذان من مكان انطلاق المسابقة إلى موقع محدد ثمّ العودة إلى مكان الانطلاق.
الجميع فشلوا فالجرذان كانت تتقافز، وتنطلق مبتعدة، وهكذا فشل المتسابقون.. باستثناء القذافي الذي ربط الكيس وأخذ في خض الجرذان،
وهكذا دوخها ذهابا وإيابا، فسكنت حركتها، وتحولت إلى ما يشبه الجثث الهامدة، فأمعن في الغدو والرواح هازا الكيس والفئران مرارا وتكرارا وسط دهشة متابعي السباق..وهكذا فاز بالتدويخ المميت!
ربما لهذا يردد القذافي في خطاباته بأن ثوار الشعب الليبي ليسوا سوى جرذان! ولعلّ سخطه عليهم، وغضبه منهم يعود إلى البرهنة على أنهم بشر كرام النفوس، وثوّار مضحون عنيدون، وأن عشقهم للحريّة يدفعهم للاستشهاد تماما كما أسلافهم الذين دوخوا المستعمر الإيطالي، وقوّات الدوتشي موسوليني والجنرال غريزياني، بقيادة شيخ المجاهدين عمر المختار!
القذافي فوجئ بثورة الشعب الليبي، وهو في مواجهة اقتلاع الشعب التونسي لبن علي، والشعب المصري لمبارك، انحاز، وهذا طبيعي، للحاكمين المخلوعين، وتوعد الشعبين بالندم على خيانة هذين الحاكمين النادرين الفقيرين الطاهرين، اللذين كان يُساعدهما شخصيا، ويمّد لهما يد العون،
لشدّة حاجتهما، وبؤس أحوالهما المادية وفقرهما المدقع!
قائد الثورة العالمية الأممي انحاز لطاغيتين يجمعه بهما الكثير، وهو رأى في سقوطهما فألاً سيئا، وإن طمأن نفسه بأنه ليس حاكما، فلا هو ملك، ولا هو رئيس، ولذا فهو في أمان، لأن الجماهير لا تستطيع أن تطالبه بالتنحي عن سلطة لا يملكها، ومنصب لا يتنصّب عليه!
النهاية اقتربت كثيرا، فما هي إلاً بضع مئات الأمتار يعبرها الثوار المؤيدون بشعبهم، وساعات من القتال، ورغم أنها طالت فقد دنت تلك النهاية اللائقة بالطاغية.
أمّا البداية بعد نهاية الطاغية فهي بداية الشعب الليبي الجديدة المجددة لليبيا شعبا وبلدا، والتي بدأت خيوط فجرها تبدد ظلاما جثم وتلبد في سماء ليبيا طيلة حكم الطاغية الأحمق قصير النظر الجاهل بليبيا وشعبها وتاريخها.
لم تكن في ليبي دولة، ولا مؤسسات، فالفوضى كانت هي كل شيء، ومن الفوضى، وبالفوضى عاش القذافي وحكم ليبيا، نهب ثرواتها، وبدد طاقاتها، وحرم شعبها من الحياة، وعيشها في عزلة، وحرمان، وغربة، وألحق المهانة بالشعب الليبي بسبب تصرفاته المخزية غير اللائقة بإنسان سوي
عادي..فما بالك بحاكم لبلد وشعب!
ربما تنبه ملايين متابعي الثورة الليبية لمناظر المدن الليبية النفطية التي تنقلها كاميرات المراسلين والفضائيات، فالشعب هناك يعيش في بيوت بائسة، أسقفها من الكرتون، أوالزينكو، وشوارعها ملوثة بمياه المجاري والفضلات والوحول..أين مليارات النفط، ولماذا يحرم منها الشعب الليبي صاحب الثروة الحقيقي المحروم والشقي بهكذا حاكم؟!
ليبيا ستبدأ من الصفر، فهي بلد بلا دستور، ولا قضاء، ولا مؤسسات، ولا جيش، ولا حكومة، ولا أحزاب، ولا مجتمع مدني.
إن ليبيا (خرابة) بفضل هذا الطاغية المعتوه!
ثورة الشعب الليبي على وشك أن تنتصر، ولكنها ومع كتابة كلمة (النهاية) لحقبة حكم القذافي التي امتدت 41 سنة، ستكون أمام مهمات لن تتحقق بيسر، وانسجام، وفي خطوات ثابتة على طريق البناء.. إلاّ بالوحدة
الوطنية بين كل فئات الشعب الليبي، والثوّار، وفي مقدمتهم شباب 17 فبراير أبطال
الثورة، ووقودها.
الشعب الليبي يحتاج لكل شيء، ويستحق كل ما تمناه، وفي المقدمة: الحرية، والكرامة، والعدالة، والعيش في دولة مدنية يحكمها القانون، والدستور، والمؤسسات...
السيد مصطفى عبد الجليل في كلماته التي وجهها للثوار الزاحفين إلى طرابلس بعد انتفاضة العاصمة، حضّ على عدم تفشي روح الانتقام، وحذّر من التطرف والمتطرفين، وفي مؤتمره الصحافي يوم غداة اقتحام الثوار
لأحياء المدينة، حذّر من أنه سيستقيل من منصبه كرئيس للمجلس الوطني إذا ما استمر المتطرفون في تجاوزاتهم، وأخذ القانون بأيديهم!
نعم: ليبيا ومن أجل سلامة مسيرتها المستقبلية لا بدّ أن تتسلح بسيادة القانون، والنأي عن الانتقام، وتصفية الحسابات، وإلاّ دخل البلد في الفوضى، والرعب الذي سيبثه أعداء الثورة.
أشار السيد عبد الجليل إلى أنه مع الإسلام المعتدل، ورفض تطرف الإسلاميين الذين لا يريدون أن يخضعوا للقانون!
وفي إشارة لدول الناتو التي أرسلت طائراتها، وأسهمت في تقديم العون للثوار الليبيين، وحماية الشعب الليبي، وعد بأن السلطة الجديدة ستنشئ علاقات خاصة مع تلك الدول عرفانا لدورها.
ليبيا ستبيع نفطها، وهي لن تخزنه في الأرض، وطبيعي أن تقيم علاقات قائمة على الاحترام المتبادل..ولكن الشعب الليبي لن يفرّط باستقلاله مستبدلاً استبداد القذافي بالتبعية لدول الغرب الاستعماري التي اكتوى منها شعب ليبيا، وخبر احتلالها!
في الطريق إلى المستقبل ثمّة خطران على ثورة الشعب الليبي: التطرف..والأطماع الغربيّة..والصراع على السلطة!
وعي الشعب الليبي وخبراته، وتضحياته، ويقظة شبابه، وحكمة العقول التي خبرها على مدى ستة أشهر طويلة، وصعبة..هي الضمان لبناء ليبيا المستقبل.
الخطاب السياسي الحكيم الذي سمعته من السيد عبد الجليل يطمئن إلى أن هناك في ليبيا من يضع نصب عينيه تجربة جنوب أفريقيا التي ضمنت النأي بالمجتمع عن الكراهية والأحقاد، والانطلاق على طريق البناء.
كم أتمنى أن لا يسلّم القذافي، أو أي من أبنائه لمحكمة العدل، في حال القبض عليهم، وأن تكون العدالة ليبية محضة، لأن هذا سيكون أحد تعبيرات القرار المستقل، والسيادة التي طالما تمناها الشعب الليبي الأصيل.