أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
لا تستهينوا بالإعلام الأصفر !

بقلم : د. فيصل القاسم ... 26.8.07

ليس صحيحاً أبداً أن الإعلام العربي الجاد من قنوات تنويرية وإخبارية وحوارية واقتصادية وثقافية يهيمن على الساحة الإعلامية العربية، ويقود الشارع العربي، ويصوغ الرأي العام. لا شك أن بعض القنوات الجادة مثلاً أثبتت حضوراً غير مسبوق، لكن من الخطأ الاعتقاد بأنها سحقت امبراطوريات الإعلام الترفيهي التمييعي وهمشتها، فالقنوات التغريبية الفنية والترفيهية والإمتاعية تجتذب أعداداً مهولة من المتابعين. لهذا من الخطأ الشنيع التقليل من أهمية إعلام "الهشك بيشك" العربي، فهو يؤثر، وينتشر كانتشار النار في الهشيم.
قد يقول البعض إن الإعلام الشعبي هو المسيطر في العالم الغربي المتقدم ثقافياً واجتماعياً، فلا غرابة أبداً أن يكون الأمر كذلك في عالمنا العربي المتخلف، إن لم نقل شبه الأمي، فالصحف الشعبية مثل صحيفة "الصن" البريطانية مثلاً تبيع يومياً أكثر من مليوني نسخة، ويقرأها أكثر من سبعة ملايين بريطاني، بينما لا يزيد توزيع الصحف الجادة مثل "الغارديان" على مئتي ألف نسخة. وكذلك الأمر بالنسبة للقنوات الغربية الشعبية التي تجتذب أضعافاً مضاعفة عن القنوات الجادة. وهذا صحيح من الناحية النظرية، لكن الوضع في الغرب مختلف تماماً عما هو في العالم العربي.
في الغرب جاء هذا النوع من الإعلام الشعبي الترفيهي مكملاً للثورة الرأسمالية الكبيرة التي وضعت الدول الغربية في المقدمة، وبالتالي لا ضير في أن تستمتع الشعوب الغربية وتتعلق بذلك الصنف من "الإعلام الأصفر"، كونها أنجزت الكثير الكثير صناعياً وتكنولوجياً وثقافياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وبالتالي لا مشكلة في أن تأخذ استراحة محارب، علماً أن تلك الاستراحة محسوبة جيداً، ولا تأتي أبداً على حساب استمرار النهضة الغربية أو تعويقها، بل هي جزء لا يتجزأ منها. أما نحن العرب فلم نمر بأي من الثورات والمراحل والإنجازات التي مرت بها الشعوب الغربية، لكننا بالرغم من ذلك، قفزنا فجأة إلى المرحلة الغربية اعتباطياً نزولاً عند رغبة المتخوفين من أن تشق الشعوب العربية طريقاً آخر تنيره بعض الفضائيات العربية السياسية.
لا شك أن بعض القوى العربية وأسيادها في أمريكا وأوروبا شعروا بالخطر الذي بات يشكله الإعلام السياسي والتنويري العربي، فراحوا يغرقون الساحة الإعلامية العربية بكم هائل من قنوات الموسيقى والأفلام العربية والأمريكية والمسابقات الفنية وتلفزيون الواقع باعتراف كبار المسؤولين الإعلاميين العرب، بحيث يشتتون اهتمام الشارع العربي ويبعدونه عن الإعلام السياسي التنويري. ولا شك أنهم نجحوا إلى حد كبير في الاستحواذ على قسم هائل من كعكة المشاهدة.
ومما يساعد القنوات الترفيهية في الانتشار أكثر فأكثر نسبة الأمية الهائلة في العالم العربي، فهناك أكثر من سبعين مليون أمي لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ناهيك عن الأمية الثقافية، فإذا كان الإعلام الأصفر يفعل فعله في الغرب الذي تبلغ فيه نسبة الأمية صفراً، ويتمتع بكل أدوات الثقافة والعلوم ووسائله وأنواعه، فما بالك بالعالم العربي المتخلف ثقافياً وعلمياً واجتماعياً، ففي هذه الحالة يكون تأثير الإعلام الشعبي أكثر بعشرات المرات نظراً لسهولة اختراق المجتمعات المتخلفة وسلب عقولها.
وبالإضافة إلى العامل التعليمي، هناك العامل الاقتصادي والمعيشي، فهناك نسبة فقر وفاقه وعوز وضنك عربية هائلة، بحيث تصبح الفضائيات الترفيهية المخلّص الوهمي لملايين العاطلين عن العمل أو الراتعين في الدرك الأسفل من المجتمع، وهم الأغلبية.
زد على ذلك أن الإنسان العربي يعيش علاقة حب وكراهية مع الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً، ففي الوقت الذي تشتم الشعوب العربية أمريكا ليل نهار على أفعالها السياسية الفاشية والهمجية في منطقتنا العربية، تراها تتلقف الثقافة الأمريكية الواردة إليها عبر الفضائيات العربية التي تبث أفلام "الأكشن" و"الوسترن" والمسلسلات والبرامج الأمريكية العامة. فبعض القنوات التي تخصصت في بث الأفلام الغربية مثلاً تستقطب أعداداً مهولة من المشاهدين من كل الفئات العمرية. وكذلك القنوات التي تـُغرق السوق بكم هائل من المسلسلات العربية والأجنبية، بحيث لا ينتهي المشاهد من متابعة حلقة من مسلسل مصري حتى يطلع له مسلسل سوري، ومن ثم خليجي، وهلم ما جرى.
ولا ننسى أن نسبة الشباب في العالم العربي نسبة هائلة بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، إذ يصل عدد الشباب في بعض الدول العربية إلى حوالي سبعين بالمائة. وبما أن المجتمعات العربية مجتمعات طاردة للشباب سياسياً وثقافياً واجتماعياً، فلا عجب أبداً في تلك الحالة أن يقع الجيل الصاعد فريسة للإعلام التمييعي التزييفي الترفيهي الذي ينقل الشباب إلى عوالم أخرى، ويخلصهم وهمياً من أزماتهم ومعاناتهم ومحنتهم.
باختصار بدلاً من سب الإعلام الأصفر ولعنه ليل نهار، لا بد من تكثيف الجهود وتحصين المجتمعات العربية اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، مع الاعتراف بصعوبة المهمة، كي لا تتمادى في الارتماء في أحضان هذا الغازي الإعلامي الغربي الناطق بالعربية، والمتخفي وراء أسماء فضائيات ظاهرها عربي ومضمونها لا يمت للعروبة بصلة.