بقلم : نقولا ناصر* ... 10.09.2011
يكرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس التأكيد على أن ذهابه الى الامم المتحدة ليس بديلا للمفاوضات، ولا يستهدف نزع الشرعية عن دولة الاحتلال الاسرائيلي، ويكرر التزامه بالاتفاقيات الموقعة وبالتسوية السياسية عبر المفاوضات الثنائية معها، ولو من جانب واحد كما هو واقع الحال منذ عام 1993، مما يعني فقط أن أي تغيير مادي على الأرض يقود الى انكفاء الاحتلال العسكري وانحسار التوسع الاستعماري الاستيطاني سوف يظل مرتهنا للتفاوض الثنائي و"الاتفاق مع اسرائيل" والرعاية الأميركية والتمويل الأوروبي كما كان الحال طوال العشرين عاما المنصرمة التي تمخضت فعلا عن تغييرات مادية ديموغرافية وجغرافية، لكن في الاتجاه المعاكس، على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، وبخاصة في القدس المحتلة.
وخلاصة هذا الموقف هي أن القيادة المفاوضة لمنظمة التحرير إنما تحاول فقط اللعب في الوقت الضائع الناجم عن وصول المفاوضات الى الطريق المسدود الراهن من أجل تحسين موقفها التفاوضي برفع مستوى الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية الى مستوى دولة عضو او غير عضو في الأمم المتحدة تمهيدا لأي استئناف للمفاوضات الثنائية، ربما بعد عامين عندما تحمل الانتخابات التالية في دولة الاحتلال الى رئاسة الوزراء "شريكا اسرائيليا" للتفاوض بديلا لبنيامين نتنياهو وتحمل الى الرئاسة في الولايات المتحدة راعيا أميركيا ل"عملية السلام" أقل انحيازا لدولة الاحتلال أو أكثر حزما معها من الرئيس الحالي باراك أوباما، وهذا هو الوهم الذي أدمن عليه مفاوض المنظمة عشية وغداة كل انتخابات جديدة في دولة الاحتلال وفي بلد راعيها الأميركي، حتى تحول القرار الوطني الفلسطيني الى رهينة لمثل هذه الانتخابات.
وبالتالي يتضح ان ذهاب عباس الى الأمم المتحدة لا يمثل اي افتراق نوعي لا يعيده الى استراتيجيته السابقة ويرقى الى نقطة تحول تاريخية في حركة التحرر الوطني الفلسطينية تحررها من املاءات الرهانات السابقة المفروضة عليها.
وبالرغم من "المواجهة الدبلوماسية" التي تخوضها الآن مع "شركائها" الأميركان والاسرائيليين في "عملية السلام"، فإن رئاسة المنظمة لا تزال تحرص على أن تظل قنوات الحوار والاتصال مفتوحة معهم، مثل لقاءاتها الأخيرة مع رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريز (أوقفها نتنياهو بعد أربع لقاءات) ووزير حربها ايهود باراك (في العاصمة الأردنية عمان في الرابع والعشرين من الشهر الماضي)، وهي لقاءات ربما أرادها عباس سرية لكنهم حرصوا على اعلانها لمعرفتهم بان المعارضة الشعبية لها قد تزيد في مصاعب عباس الداخلية، ومثل استقباله في رام الله يوم الأربعاء الماضي، بعد مكالمة هاتفية من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، للمبعوثين الرئاسيين للولايات المتحدة ديفيد هيل ودنيس روس اللذين نقلا اليه "رسميا" الانذار الذي وجهه له الأسبوع الماضي القنصل الأميركي في القدس المحتلة، دانييل روبنشطاين، الذي كان بصحبتهما، باستخدام "الفيتو" الأميركي في مجلس الأمن الدولي وقطع المعونات الأميركية.
ان النقد الذي وجهه مؤخرا وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس ل"عدم امتنان" نتنياهو ل"ضمان" الولايات المتحدة ل"أمن اسرائيل" باتاحة "وصولها الى أسلحة من النوعية الأرقى، والمساعدة في تطوير أنظمة دفاع صاروخي، والمشاركة في الاستخبارات على أرفع مستوى، ... دون أن تتلقى الولايات المتحدة أي شيء في المقابل، وبخاصة في ما يتعلق بعملية السلام"، هو نقد يفرض المقارنة مع منظمة التحرير التي حولت الاملاءات الأميركية الى "مشروع وطني" واستراتيجية رسمية لها وكاد مفاوضها يحول سلطة الحكم الذاتي في رام الله الى أداة أميركية في خدمة "التنسيق الأمني" مع دولة الاحتلال بثمن باهظ من الانقسام الفلسطيني، وتحويل منظمة التحرير التي ولدت في حضن المقاومة الى رقيب عليها يشارك في حصارها، وتضييع عقدين من الزمن الرديء الذي راهن خلاله على الرعاية الأميركية للملف الوطني الفلسطيني "دون أن يتلقى أي شيء في المقابل" من الولايات المتحدة، سوى عدم الوفاء بالوعود، وتصعيد الضغوط عليه، والايغال في الانحياز السافر الى الاحتلال ودولته و"ضمان" أمنهما. ولم يكن اعلان واشنطن الصريح رسميا الخميس الماضي بقرارها استخدام حق النقض "الفيتو" مجددا ضد مشروع قرار لصالح الفلسطينيين في الأمم المتحدة الا اعلانا صريحا ايضا بالانحياز الأميركي ضدهم.
ويظل انجاز المصالحة الوطنية ووضع اتفاق القاهرة الأخير موضع التنفيذ لانهاء الانقسام، قبل الذهاب الى نيويورك وليس بعده، هو المحك الأهم الذي يعطي اشارة مؤكدة الى أن ذهاب عباس الى الأمم المتحدة يمثل حقا افتراقا نوعيا عن استراتيجيته السابقة ويمثل نقطة تحول تاريخية في حركة التحرر الوطني الفلسطينية، لكن كل الدلائل تشير حتى الآن الى أن مفاوض المنظمة إنما يتعامل مع هذا الاتفاق فقط باعتباره ورقة يلوح بها في وجه رعاة "عملية السلام" ومموليها كي يحثهم على عدم اجهاض مسعاه في الأمم المتحدة من أجل تحسين المركز التفاوضي للمنظمة وليس كنقطة تحول تعيد عملية صنع القرار الفلسطيني الى حاضنته الوطنية الموحدة وتحرره من الارتهان لردود فعل مفاوض المنظمة على املاءات من فرضوا عليه خيار "التفاوض الثنائي" فقط، سواء باسم المنظمة أم باسم دولة غير عضو في الأمم المتحدة أم باسم دولة عضو فيها.
إن المركز التفاوضي لأي مفاوض يستمد قوته من قوة موقفه على الأرض، والوحدة الوطنية على الأرض صفا وهدفا هي مصدر القوة الأهم لمفاوض منظمة التحرير، لكن هذا المفاوض يتخلى عن مصدر قوته الرئيسي هذا - - طوعا في الظاهر لكن قهرا في الواقع - - ربما منخدعا بما قد يعتقد أنه بديل لذلك يتمثل في اعتراف عدد من دول العالم يزيد بحوالي عشرة على عدد الدول التي اعترفت بدولة فلسطين بعد اعلان الاستقلال عام 1988، وبرئاسة فلسطين للمجموعة العربية في الأمم المتحدة وبرئاستها للدورة العادية لمجلس وزراء الخارجية العرب، التي ستنعقد في القاهرة في الثالث عشر من الشهر الجاري، للشهور الستة المقبلة، وفي دعم اللجنة الوزارية لمتابعة مبادرة السلام العربية، التي ستجتمع في العاصمة المصرية الاثنين المقبل في آخر اجتماع لها قبل انطلاق وفد المنظمة الى نيويورك في السادس عشر من الشهر، وفي رئاسة لبنان الدورية لمجلس الأمن الدولي، ورئاسة قطر للجمعية العامة للأمم المتحدة، الى غير ذلك من مظاهر الدعم "الخارجي".
وكان التأييد الدولي دائما واسعا للقضية الفلسطينية وشعبها، بدليل الركام الهائل المغبر من القرارات الدولية المؤيدة التي لم يفد كل هذا الدعم في تنفيذ واحد منها على الأرض، وهو تأييد ظل يحاصر الاعتراف بدولة الاحتلال الاسرائيلي حتى اعترفت بها منظمة التحرير، ولم يضعف الا بعد أن اضعف الانقسام الفلسطيني هذا التأييد ليتراجع الى القبول بما يقبل به "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" بحجة أن لا أحد عربيا كان أم غير عربي يمكنه أن "يزايد" على الفلسطينيين ليكون فلسطينيا أكثر منهم، وهي الحجة المتهافتة المبتذلة التي اصبح كل من يريد التنصل من مسؤولياته العربية أو الاسلامية أو الانسانية تجاه فلسطين وقضيتها يتذرع بها.
وكل الدلائل تؤكد الآن أن دولة الاحتلال تتخذ من مسعى المنظمة لدى الأمم المتحدة ذريعة جديدة للتنصل من الاتفاقيات الموقعة مع المنظمة، ولدفن "عملية السلام" التي نسفها نتنياهو في ولايته الأولى ليستعد الآن في ولايته الثانية لاعلان شهادة وفاتها، بينما يتحين الفرص السانحة للانقضاض عسكريا على المقاومة في قطاع غزة دون أن يستبعد خيار "تغيير النظام" الفلسطيني في الضفة الغربية، حيث يضاعف عديد قوات الاحتلال ويجهز المستوطنين "للدفاع" عن أنفسهم ضد الغضب المتوقع للشعب الفلسطيني الذي يعد مفاوض المنظمة بعدم السماح له بالوصول الى نقاط التماس مع الاحتلال جنودا ومستوطنين، وحيث الحصار المالي يستحكم طرديا مع اقتراب ما يسمى "استحقاق أيلول" الفلسطيني في الأمم المتحدة.
بايجاز تتصرف دولة الاحتلال الاسرائيلي على اساس أن الصراع على مفترق طرق، وأن العودة الى الوضع السابق قد تجاوزت نقطة اللاعودة اليه، لكن مفاوض المنظمة ما زال يتصرف وكأنما الوضع الراهن ساكن لا يتحرك، وكأنما استمراريته مضمونة، مع أن كل الدلائل تشير الى نقطة تحول نوعية في الصراع يصر المفاوض في سلوكه الدبلوماسي والسياسي، داخليا وخارجيا، على أنها ليست نقطة تحول بعد تقتضي أن يكون انهاء الانقسام وانجاز الوحدة الوطنية استحقاقا له الأولوية على كل ما عداه وليس على ما أصبح يسمى "استحقاق ايلول" في الأمم المتحدة فحسب.