بقلم : د.خالد الحروب ... 12.09.2011
تلقت إسرائيل صفعتين متلاحقتين في وقت قصير، واحدة تركية وأخرى مصرية، وفي الحالتين لم يكن الرد بمستوى العجرفة الإسرائيلية المعهودة. الحكومة التركية طردت السفير الإسرائيلي وسحبت سفيرها وجمدت علاقات التعاون العسكري مع إسرائيل، ردّاً على رفض إسرائيل الاعتذار عن قتل أتراك سفينة الحرية، والشعب المصري اقتحم السفارة الإسرائيلية في القاهرة وطرد السفير الإسرائيلي وكادر السفارة ردّاً على رفض إسرائيل الاعتذار عن قتل الجنود المصريين على حدود سيناء. والمسؤولون الإسرائيليون في الحالتين يصرحون بأنهم "لا يريدون التصعيد" ويحاولون احتواء الغضب التركي والمصري. والحال أن تهديدات ليبرمان العنترية لا تعبر عن جوهر الموقف الإسرائيلي المتوتر الذي بات لأول مرة منذ سنوات يقف في موقع رد الفعل وليس الفعل. بل إن تصريحات نتنياهو بعد اقتحام السفارة المصرية هي التي تعكس درجة التخوف الإسرائيلي حول التغير البنيوي في البيئة الاستراتيجية في المنطقة الذي اعقب انهيار نظام مبارك، ثم انطلاق الثورات العربية.
وحتى وقت قريب كانت السياسة والاستراتيجية الإسرائيلية مبنية على مبدأ الردع السياسي والعسكري الهادف إلى المحافظة على صورة إسرائيل قوية ومُهابة. إن كان هناك تحول سياسي، أو مبادرة، أو بروز موقف ما إقليمي أو دولي قد يضغط على إسرائيل، كانت هذه الأخيرة ترد بكل صلف وتعنت وتلقي عرض الحائط أيّاً من كل ذلك. وعندما عرض العرب مجتمعين المبادرة العربية للسلام في مؤتمر قمة بيروت عام 2002 مستعدين للاعتراف الجماعي بإسرائيل مقابل اعترافها بدولة فلسطينية على حدود 1967 رد شارون آنذاك باجتياح قطاع غزة. وإن كانت هناك أي عملية عسكرية يقوم بها أي من الفصائل الفلسطينية فإن الرد العسكري الإسرائيلي يكون مهولاً ومدمراً. وليس هذا فحسب بل يتسع نطاق الردع الإسرائيلي ليشمل الإقليم برمته لتدمير أية محاولة مستقبلية قد تشكل احتمال تهديد مهما كان ضعيفاً، كما شهدنا في تدمير المنشأة النووية السورية عام 2007.
وتطول القائمة التي تحمل مواقف إسرائيل السياسية والعسكرية التي تتجاوز منطق الردع الكلاسيكي وتدخل منطقة العجرفة والصلف والغرور. وكانت البيئة الإقليمية والدولية مساعدة ومتواطئة مع الحكومات الإسرائيلية التي أغراها الضعف العربي وتبارت في المزايدة على بعضها بعضاً في التطرف والعنجهية، بحيث انتهى المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي إلى تنافس بين اليمين واليمين المتطرف. إقليميّاً كانت مصر مبارك "كنزاً استراتيجيّاً" لإسرائيل كما صرح بذلك مسؤولون إسرائيليون، لأنها عملت على شل الحركة العربية الرسمية والشعبية في مواجهة إسرائيل. وكل تطاول من قبل إسرائيل لم يكن يواجه ولو بموقف الحد الأدنى على المستوى العربي. وعلى المستوى المصري- الإسرائيلي تعددت حوادث قتل جنود مصريين على الحدود مع مصر، وكلها كانت تطوى بسرعة ويغلق ملفها، ناهيك عن أن يعترض عليها نظام مبارك ويطالب بالاعتذار أو يطرد السفير. وحدها قصة بيع الغاز المصري لإسرائيل بأرخص سعر عالمي كافية للدلالة على مستوى الانهيار المصري والعربي، ذلك أن تلك الصفقة تهدر ثروة قومية ودخلاً سنوياً لمصر ربما يعوض المساعدة الأميركية الدورية التي ترهن واشنطن بسببها القرار السيادي المصري. أما دوليّاً فقد كانت إسرائيل ولا تزال تحتمي بالمظلة الأميركية أساساً والغربية عموماً للاستمرار في سياسات العنجهية والردع التي تستهتر بكل ردود الفعل بما فيها الرأي العام العالمي.
لقد اختلفت الأمور الآن ولنا أن نضع خطاً على مرحلة انقضت اتسمت فيها السياسة والاستراتيجية الإسرائيلية بمنطق الردع العنجهي والاستخفاف بالعرب والجوار على صعيد الحكومات والشعوب. على مستوى الحكومات العربية حجر الزاوية في التغيير هو زوال نظام مبارك. ولكن هذا العنصر ليس الوحيد في المعادلة، ذلك أن الحكومات التي لم يطلها التغيير أصبحت تحسب ألف حساب لعلاقاتها ومواقفها إزاء إسرائيل في ضوء تصاعد دور الشعوب نفسها. والثورات العربية أزاحت الحاجز الحكومي والرسمي الذي كان يحجب أي أثر للرأي العام الشعبي في معادلة العلاقة والصراع مع إسرائيل. فقد كانت تلك المعادلة بيد الحكومات والأنظمة المستبدة التي لم تلق بالاً لتوجهات الرأي العام بين شعوبها. فالنظام وحده هو الذي يقرر توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، والنظام وحده هو من يقرر خلاف ذلك. والشعب كله مغيب. وأي معاهدة سلام مع إسرائيل كانت تمر على "الكنيست" الإسرائيلي حتى يقرها ضمن آليات ديمقراطية. ومعاهدات السلام مع مصر والأردن وعلاقات إسرائيل الدبلوماسية، السرية منها والعلنية، مع عدد من البلدان العربية تتم وفق مزاج النظام الحاكم ولا تحظى بأية شرعية برلمانية أو شعبية. ومن هذا المنطلق فإن اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة هو اللحظة المفصلية التي تكشف عمق الهوة بين مرحلتين: مرحلة حماية إسرائيل من قبل النظام العربي نفسه، ومرحلة مواجهتها مع الشعوب نفسها والفاتورة التي تدفعها الآن بسبب سياستها العنجهية والاحتقارية لهذه الشعوب لعقود طويلة. وعلى صعيد الجوار غير العربي فإن حجر الزاوية في التغير الإقليمي هو تركيا الأردوغانية. فهنا تغيرت تركيا الأطلسية، وثيقة الصلة بإسرائيل والمرتبطة معها بعلاقات تعاون استراتيجي وعسكري. فتركيا تعيد تعريف نفسها ودورها وتطمح لدور قيادي إقليمي، ومن حقها أن تطمح إلى ذلك في ظل وجود فراغ قيادي فاضح في المنطقة. ومنحى تصلب المواقف التركية إزاء عنجهية السياسة الإسرائيلية ظل في تصاعد مستمر خلال السنوات القليلة الماضية، وتسببت سياسة إسرائيل في تسريعه بفعل استمرارها في تبني ذات السياسة الاستخفافية (وعدم الاعتذار لتركيا). ودور وأثر تركيا يتعدى سياستها الذاتية ومصالحها ومطامحها الاستراتيجية، ويطرح وهو الأهم وربما لا يقل خطورة بالنسبة لإسرائيل نموذجاً آخر في المنطقة للاحتذاء به. وهو نموذج رفض الانصياع لسياسات العجرفة الإسرائيلية، وتبني سياسة تواجه السياسة الإسرائيلية من نفس المنطلق. والموقف التركي القوي إزاء رفض إسرائيل الاعتذار عن قتل أتراك سفينة الحرية هو الذي ألهم المصريين لاقتحام السفارة الإسرائيلية، وخاصة أن إسرائيل لم تعتذر عن قتل الجنود المصريين. وهكذا فإن السياسة التركية رفعت السقف أمام الرسمية العربية برمتها في المنطقة إزاء التعامل مع إسرائيل، وذلك كله جرته إسرائيل على نفسها.