بقلم : رشاد أبوشاور ... 21.09.2011
في كتاب 'ذكريات معه' الذي نشرته دار الشروق ـ القاهرة 2011، والذي نصفه ذكريات سردتها السيدة الجليلة تحية قرينة الرئيس القائد جمال عبد الناصر، والنصف الثاني صور تاريخيّة لناصر في مشواره الذي امتد من العام 1952 حتى العام 1970 الذي رحل فيه عن عمر 52 عاما فقط، بعد أن أثقلت قلبه هموم الأمة، ومؤامرات أعداء الأمّة وعملائهم في بلاد العرب..نتعرّف على سيرة عائلة ناصر من الداخل.
لم يعرف عن السيدة تحية عبد الناصر أنها تصدرت الأخبار يوما إبان عصر ناصر، وهي ارتضت أن تكون (الزوجة) التي تهيئ لزوجها حياة مريحة في البيت، وتعتني بأبنائها وبناتها، بحيث لا تثقل الأسرة على جمال عبد الناصر الضابط المحارب الغائب في فلسطين عام 48، وفي السودان، وفي أمكنة نائية من مصر، أو حين بات ناصر قائدا عربيا وعالميا.
عاشت الأسرة حياة البساطة والتواضع والرضى بالعيش في بيت بسيط، وبراتب الرئيس بالضبط كما هو بدون زيادات تتحقق بالتجارة والبزنس، وبامتلاك الشركات، والقصور والمزارع و..مشاركة اللصوص الذين يمتصون دم مصر وشعبها.
جمال عبد الناصر آمن بقيم ومثل لازمته من بداية نشأته حتى رحيله، ولعلّ الناصريين في بلاد العرب، الناصريين الحقيقيين، يعتزون أوّل ما يعتزون بما تركه لهم ناصر من مثل وقيم أساسها استقامة السلوك، والمصداقية، والتواضع في العيش، ونظافة اليد، والتضحية من أجل الجماهير الفقيرة المظلومة، والإيمان بوحدة الأمة، وبأن الصراع مع الكيان الصهيوني صراع وجود لا صراع حدود، وأن هذا الصراع سينتهي حتما باستعادة فلسطين وكنس المشروع الصهيوني.
المبادئ والأخلاق تتلازمان معا في التجربة الناصرية، التي دشنت عصر حركات التحرر التي تقرن التحرر من الاستعمار بالتحرر الاجتماعي الذي يعيد للطبقات الاجتماعية المسحوقة حقوقها المنهوبة، وينهي هيمنة الشرائح الفاسدة على الحياة السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
ناصر في بيته كان هو نفسه في ميدان المعركة وهو ضابط، ونفسه وهو يقود مصر رئيسا وزعيما، وهو يبرز كشخصية عالمية.. فلا بهرج، ولا بذخ، ولا تعد على ممتلكات الدولة، ولا منح الأقارب أدنى فرصة ليثروا تحت اسمه وسلطته.. والحكايات الحقيقية عن هذا الجانب معروفة، والوقائع تدلل على المصداقية، فناصر لم يترك لأسرته ثروات بالملايين، أو بالألوف.. ولكنه ترك لهم راتبه كرئيس للجمهورية .. وترك لهم ما يتركه القادة العظام: الكرامة، والكبرياء، والعيش بشرف كما عودهم في حياته.. واستلهام سيرة حياته المشرّفة.
خالد جمال عبد الناصر رحل يوم الخميس 15 أيلول/سبتمبر الجاري، وشيعت جنازته من مسجد جمال عبد الناصر، عن عمر 62 عاما، بعد معاناة مع مرض الكبد، وقد شغل في حياته موقع أستاذ في كلية الهندسة، ومن راتبه كأستاذ عاش هو وأسرته، وأفنى عمره في تعليم أبناء وبنات مصر.
خالد وأشقاؤه عملوا جميعا بجهدهم، وعاشوا حياتهم كما كثير من الأسر المصرية (مستورين)، فحياتهم تمضي عادية بهدوء، فهم ربوا على محبة شعب مصر، والإيمان بالمساواة والعدالة الاجتماعية التي بذل ناصر الكثير من جهده لتحقيقها.
أبناء الأجيال الشابة لا يعرفون شيئا، ربما، عن خالد جمال عبد الناصر، ولعلهم سمعوا به فجأة، رغم أن في حياته فصلا بارزا مُشرّفا يقول الكثير.
بعد توقيع السادات لكامب ديفيد، وفتحه أبواب مصر للأمريكان والصهاينة، وتحويل البلد إلى (منهبة)، شكل خالد مع عدد من الناصريين المصريين البواسل منظمة (ثورة مصـــــر) التي لاحقت الصهاينة في مصر، ونفذت عمليات أذهلت نظــــام كامب ديفــــيد، وأصدقاءه الصهاينة. وبعد اكتشاف بعض قادة المنظمة، والقبض عليهم، وزجهم في السجون، غادر خالد إلى (يوغوسلافيا) بلد تيتو أحد كبار قادة كتلة عدم الانحياز، رفيق وصديق ناصر، وأمضى هناك سنتين بعيدا عن مصر، عاد بعدها إلى بلده مصر التي نشأ وتربى على حبها والوفاء لها، كما علّمه ناصر.
مات خالد جمال عبد الناصر بكرامة.. فهو لم يقف في قفص الاتهام بأي تهمة تشين تاريخ والده، وأسرته، والقيم التي لقنه إياها والده العظيم، ووالدته النبيلة الأصيلة.
اليوم يحشر في داخل القفص مبارك وولداه.. فانظروا للنهايات!.. نهاية مخزية يختصرها غلاف مجلة 'روز اليوسف' بتاريخ 6 آب/اغسطس الماضي: الرئيس والوريث ..من العرش إلى البرش! وتحت صور مبارك والوريث وشقيقه البزنسي المليونير جدا: لماذا حزنت (إسرائيل) على مبارك؟
هذه النهاية تليق بمن نهبوا مصر، وأذلوا شعبها، وخانوا الأمة، وغدروا بأقدس قضاياها...
رحيل خالد الذي ودعته الجماهير الوفية وكبار قادة جيش مصر العظيم.. أعاد التذكير بمسيرة والده، ومعاركه المجيدة، وبنوعية القيادات التي ابتليت بها الأمّة، والتي توهتها على مدى أربعة عقود ساد فيها الفساد والتبعية والخيانة.
جمال عبد الناصر ترفع صوره في الميادين والشوارع بأيدي شباب من أجيال لم تعاصره، ولكنها قرأت عن معاركه، فاستنتجت أسباب التآمر عليه وعلى تجربته.
في كتاب السيدة تحية عبد الناصر تحكي عن ولادة خالد، بقّص لطيف، بسيط ينساب أليفا: تقدمت بي شهور الحمل، وكنت أذهب للدكتور الذي اعتدت أن اذهب إليه ليتابعني. وفي الشهر الأخير أخبرنا بأن الولادة ستكون إن شاء الله في المستشفى الجديد الذي بناه، واخبرني عن وقت الولادة بالتقريب، وقال: سأحجز لك حجرة لتكون خالية وقت مجيئك. وسأل: هل علمتم بالأسعار الجديدة؟ وأضاف أنها ارتفعت عمّا قبل بأكثر من الضعف، فسأله جمال: وهل هذا يسري على القدماء؟ فرد الدكتور قائلا: المستشفى مبني على أحدث تصميم، ومجهز بكل وسائل الراحة، والخدمة تقوم بها ممرضات أجنبيات أحضرن خصيصا للمستشفى.. وقال ببساطة: توجد الدرجة الثانية. ردّ جمال على الفور قائلاً: هذا معناه أنت ترتفع ونحن ننزل؟! وبعد خروجنا قال لي جمال: سوف لا اذهب لهذا الدكتور أبدا.. ثمّ ولد خالد بتاريخ 25 كانون الاول/ديسمبر 1949.( ص 37)
سيتوقف القارئ عند رد جمال عبد الناصر على الطبيب: يعني هذا معناه أنت ترتفع ونحن ننزل.. وهو ما يبرز الشعور الطبقي الحّاد لدى ناصر قبل أن يقود ثورة 23 تموز عام 52، ولذا لا غرابة أن يبرز انحيازه للفلاحين والعمال تحديدا. هذا هو ناصر الذي عاش ورحل وفيا للفقراء.. وهذه هي أسرته التي صانت أخلاقه وقيمه بعد رحيله.
يوم سقط حسني مبارك، وأزاحته جماهير مصر الثائرة رحل الفريق الشاذلي بطل العبور.. مكرما معززا، بجنازة أعادت له اعتباره، وصلّى على روحه ملايين المصريين المحتشدين في ميادين مصر.. بينما كان عمر سليمان يعلن، تحت ضغط الجماهير الثائرة، استقالة كنز (إسرائيل) الاستراتيجي حسني مبارك!
ثمّ يرحل خالد جمال عبد الناصر بينما ابنا مبارك في القفص يجللهما العار والخزي مع والدهما!
تقول الدكتورة هدى، مبينة الفرق بين عهدي السادات ومبارك في التعامل مع أسرتها: أستطيع أن أقول إنه في عهد الرئيس السادات كان الهجوم علينا شديدا.. والتجاهل كان سمة عهد الرئيس مبارك لنا.(الأخبار 7 حزيران/يونيو 2011) جماهير مصر الثائرة أنهت حقبة السادات ومبارك عديمي الوفاء الحاقدين على ناصر، وها هي تستعيد طريق مصر إلى الحريّة والعدالة الاجتماعية والكرامة .. ودور مصر القيادي. أليس هذا هو الخيار الذي دفع ناصر ثمنه، وتحملت أًسرته تبعاته بكبرياء؟!
يا خالد سلّم على جمال عبد الناصر، وقل له: الأمة تنهض ، تنفض الذل.. تسقط الطغاة.. وهي تنشد أناشيد ثورة 23 تموّز.