بقلم : د.خالد الحروب ... 26.09.2011
انتصر الفلسطينيون في الجولة الأولى من المعركة التي خاضوها ويخوضونها هذه الأيام في الأمم المتحدة. حدث ذلك على رغم أن المعركة نفسها طويلة ومن المُستبعد الحصول على الهدف الأقصى منها وهو العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة. بيد إن الإنجاز الفلسطيني حتى هذه المرحلة كبير، والزخم الذي تم توليده هائل ويجب المحافظة عليه وعدم إضاعته. وجوانب هذا الإنجاز عديدة ولكن يمكن توصيفها وتوصيف خطوة الذهاب بالقضية إلى الأمم المتحدة بعملية، بل مغامرة، جريئة هدفها يجب ألا يكون تكتيكيّاً محصوراً بتغيير قواعد اللعبة، بل تغيير اللعبة كلها وتغيير الملعب. واللعبة المملة هي المفاوضات العبثية التي ضيعت عشرين عاماً عبر قواعد لعبة مجحفة وضعها حكم منحاز ومتواطئ هو الولايات المتحدة، وتدور على أرضية وملعب حدد معالمهما العدو نفسه والحكم المتواطئ. ومن خلال تلك اللعبة تم نفي ملف القضية الفلسطينية عمليّاً وسياسيّاً عن أروقة الأمم المتحدة، وتحولت القضية إلى كرة تتقاذفها سياسات الخداع والكذب وإضاعة الوقت الإسرائيلية والأميركية التي كرست الاحتلال والاستيطان والتهويد على مدار سنوات المفاوضات الطويلة. وتشريد ملف القضية من حيزها الأممي والقانوني القوي المُدعم بقرارات دولية ومرجعيات حقوقية واضحة إلى حيز التفاوض الثنائي بهدف الوصول إلى حل سياسي كان معناه تجريد الفلسطينيين من عناصر القوة الوحيدة المتوفرة في أيديهم. ولم تكن هناك أية أوراق ضغط يملكها الفلسطينيون على طاولة المفاوضات التي ابتعدت بعيداً عن الأمم المتحدة وأقيمت في الملعب الإسرائيلي- الأميركي. واللعبة والملعب والحكم فاسدون، ولهذا فقد دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً خارج حدود التصور. كيف يمكن أن تقود مفاوضات استمرت لمدة عقدين من الزمان بهدف نظري هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي إلى تكريس هذا الاحتلال ومضاعفة الاستيطان وعدد المستوطنين أكثر من ثلاث مرات وتهويد القدس برمتها؟
ومن هنا بالضبط تكمن أهمية وتاريخية الخطوة الفلسطينية: من إمكانية خلق مسار جديد والتوجه إلى ملعب جديد. ومعركة الأمم المتحدة وذروتها الخطاب الشجاع والمحكم الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني أعادت الاعتبار لقضية فلسطين أمميّاً ووضعتها على رأس جدول الأعمال العالمي. وقد أعادت التأكيد على أن قضية فلسطين ليست فحسب القضية المركزية في الشرق الأوسط وهي مفصل السلام والحرب فيه، بل وأيضا لا يمكن أن يستقر العالم من دون أن تتحقق الحقوق الفلسطينية. وقبل ذلك وخلاله أنجزت هذه الخطوة ثلاثة مكتسبات كبيرة يمكن اعتبارها استراتيجية. الأول هو انتزاع زمام المبادرة والفعل من العدو والحكَم معاً، إسرائيل وأميركا، وعكس مجرى التحكم في الأمور الذي بقي عند الطرف الآخر خلال السنوات العشرين الماضية. والفلسطينيون، والعرب من ورائهم، كانوا في موضع رد الفعل وكان المتحكم في المبادأة والسيطرة هو التحالف الإسرائيلي- الأميركي. والخطوة الفلسطينية الأممية كسرت ذلك الاحتكار. والثاني هو الانتفاضة على الضغوط الأميركية التي بلغت مستويات هائلة وحاولت بالترغيب وبالوعيد ثني الفلسطينيين عن خطوتهم. ويُسجل للقيادة الفلسطينية بكل موضوعية تشبثها بالموقف والإصرار على المضي في خطوة تقديم طلب العضوية. وكانت مندوبة الولايات المتحدة الجالسة في الصف الأول خلال خطاب "أبو مازن" تمثل المصالح الإسرائيلية وليس الأميركية وهي ترفض حتى مجرد المشاركة في التصفيق منقطع النظير لكلمة فلسطين في المحفل الأممي. وسيظل هذا المشهد عالقاً في الذاكرة الجمعية الفلسطينية والعربية وكأن الولايات المتحدة تريد أن تؤكد أنها ضد الحقوق الفلسطينية عمليّاً على رغم كل الرطانة والتصريحات الرسمية ووعود كلينتون، ورؤية بوش، وتفهم أوباما، وكل الأوهام التي سرعان ما تنقضي عند أول انتخابات محلية وضغوط للوبي اليهودي.
والإنجاز الثالث للخطوة الفلسطينية الأممية تمثل في خلق زخم وطني وشعبي كان الشعب الفلسطيني في أمسِّ الحاجة إليه. لقد تراكم في السنوات الماضية قدر هائل من الإحباط واليأس واللامبالاة في أوساط الفلسطينيين، وتبعثرت بوصلتهم الوطنية خاصة بعد الانقسام والشرخ الذي حصل بعد سيطرة "حماس" على غزة سنة 2007. وقد أصبحت القضية الوطنية ومعالمها مثار تهكم شرائح عريضة، ولم يعد الفلسطيني مدركاً إلى أين المسير. وخطوة عضوية فلسطين، وربما على رمزيتها في الجوهر، تمكنت من لمِّ الشعب الفلسطيني على هدف وطني واحد، وشحنت الناس بقضية تستحق الصراع من أجلها. والجانب المؤسف في هذا السياق كان موقف "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الذي لم يتمكن من صوغ موقف معارض لكنه منخرط في الجهد الوطني في الوقت نفسه. وكان بإمكان الحركتين وخاصة "حماس" الحاكمة في غزة أن تقول إنها تتحفظ على الخطوة ولكنها ستنتظر وترى ولن تقوم بما يمكن أن يُفسر بأنه إحباط لها، وخاصة التفاهة الأمنية المتوترة التي حظرت خروج أي مَظاهر تأييد للخطوة الفلسطينية. ومن المعيب والمخجل أن تُحظر هذه المظاهر في قطاع غزة نفسه، فيما مظاهرات التأييد لهذه الخطوة نُظمت في أماكن عديدة من العالم.
ولكن المهم هنا هو الحفاظ على ما تم إنجازه وعدم تبديده بالتراجع إلى الوراء. شعار الشهور القادمة يجب أن يكون: تغيير اللعبة والملعب، وليس تغيير قواعد اللعبة فقط. ومعنى ذلك أن يعود ملف القضية إلى الأمم المتحدة، وأن تُصاغ الخطوات القادمة على أرضها ومن خلال مرجعياتها القانونية والحقوقية. وأي عودة إلى المفاوضات الثنائية من دون مرجعيات الأمم المتحدة وإشرافها معناه تذرية الإنجاز والتخلي عنه والعودة إلى اللعبة القديمة والملعب القديم الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. وبإعادة الملف للأمم المتحدة يتم كسر الاحتكار الأميركي وسيطرته الحصرية على مجريات المستقبل الفلسطيني. ويجب رفض كل "الحلول الوسيطة" سواء التي طرحها ساركوزي أو اللجنة الرباعية أو غيرها التي تريد إعادة الفلسطيني إلى الملعب القديم مع تحسين "قواعد اللعبة".