بقلم : نقولا ناصر* ... 01.10.2011
على الأرجح أن يكون المكسب الوحيد الذي تحقق حتى الآن من مسعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس لاعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية على أساس حدود ما قبل الاحتلال الاسرائيلي عام 1967 هو كشف الأقنعة عن حقيقة أن الدول التي كانت مسؤولة في الأصل عن إقامة دولة المشروع الصهيوني في فلسطين، وهي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، لا تزال هي ذاتها المسؤولة عن ضمان بقائها وحماية توسعها الاقليمي بالاحتلال والاستعمار الاستيطاني، والمسؤولة كذلك عن وأد أي وليد فلسطيني يكون نقيضا لها.
وهذه حقيقة ينبغي أن تستبعد أي رهان عربي أو إسلامي وبخاصة فلسطيني على أي دور لهذه الدول مجتمعة أو منفردة في أي مسعى الى حل عادل سلمي أو غير سلمي للقضية الفلسطينية، بعد أن ثبت بالدليل القاطع أنها لا يمكن أن تكون وسيطا نزيها محايدا في الصراع العربي مع دولة الاحتلال الاسرائيلي. ويحتل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مكانة خاصة في هذا السياق. لم تلق ما تستحقه من سخط فلسطيني وعربي.
فساركوزي الذي وصفه ادار بريمور في "هآرتس" الاسرائيلية في العشرين من أيلول / سبتمبر الماضي بأنه "الرئيس الأكثر صهيونية في تاريخ الجمهورية الخامسة" الفرنسية لم يلق القسط الذي يستحقه من السخط العربي والفلسطيني بخاصة. فهو بمقترحاته التي أعلنها في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكن يستهتر بطموحات الحد الأدنى لمنظمة التحرير ويستخف بعباس ومسعاه لدى المنظمة الأممية، بل كان يستهتر ويستخف حتى بموقف الشعب الفرنسي ذاته، الذي يؤيد (82%) منه قيام دولة فلسطينية بحدود الرابع من حزيران عام 1967 ويؤيد (69%) منه خطة عباس لاعتراف الأمم المتحدة بدولة كهذه حسب آخر استطلاعات الرأي العام الفرنسي.
لكن مسؤولية الاتحاد الأوروبي لا تقل عن مسؤولية الولايات المتحدة في إجهاض مسعى عباس، بل تفوقها. فأصوات الدول الأعضاء في هذا الاتحاد كافية وقادرة على تأمين نصاب الثلثين في الجمعية العامة للموافقة على طلب عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بواسطتها التغلب على حق النقض "الفيتو" الذي تهدد الولايات المتحدة باستخدامه في مجلس الأمن الدولي ضد الطلب.
وتحتل فرنسا موقعا قياديا في الاتحاد الأوروبي. وقد اختار ساركوزي أن يقود فرنسا ثم الاتحاد الى موقف استحق إشادة مصادر في الوفد المرافق لرئيس وزراء دولة الاحتلال الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الى نيويورك لتقول إن "الفلسطينيين تلقوا ضربة كبيرة من المواقف الأميركية والفرنسية التي أعلن عنها يوم امس في خطابي أوباما وساركوزي في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة"، على ذمة "يديعوت أحرونوت" في الثالث والعشرين من الشهر الماضي، التي أضافت بان الموقف الفلسطيني "بدا أكثر ضعفا بعد الخطابين".
قبل يومين من خطابي أوباما وساركوزي وصف عنوان إخباري في "الشرق الأوسط" اللندنية "الموقف الفرنسي" من مسعى عباس بأنه "لا يزال غامضا بشكل تام"، ولأن المراقب لا يمكنه أن يصف هذه الصحيفة العربية بعدم الاطلاع، لا يسعه تفسير "الغموض" الذي استنتجته الا من باب الحرص على أمل في أن تستدرك الرئاسة الفرنسية الغموض المدروس المضلل في مواقفها كي تفي بما كان ساركوزي قد وعد به في مقابلة مع "لكسبريس" الفرنسية في أيار / مايو الماضي بأن بلاده "سوف تتحمل مسؤوليتها بشأن قضية الاعتراف بدولة فلسطين" في حال فشل الجهود لاستئناف مفاوضات رئاسة منظمة التحرير مع دولة الاحتلال بانقضاء موسم الصيف، حتى لا يكون ساركوزي نسخة مكررة من عدم وفاء نظيره أوباما بوعوده لعباس.
فها هو الصيف قد انقضى، والمفاوضات لم تستأنف، لكن ساركوزي ووزير خارجيته، آلان جوبيه، بدلا من الوفاء بالوعد قد حولا فرنسا الى نسخة سيئة من الوعود والمواعيد الأميركية الخادعة. لقد رأت "الشرق الأوسط" أن "الغموض" في موقف ساركوزي وجوبيه اللذين "يساندان قيام دولة فلسطين"، مثل أوباما، "لكنهما يعارضان فكرة التصويت على خطة عباس في مجلس الأمن"، مثله ايضا، هو غموض يثير "استياء الشارع الفلسطيني" بحسب مراسلة "فرانس 24" في القدس المحتلة التي اقتبست الصحيفة منها قولها إن "الرأي العام الفلسطيني يعول كثيرا على الموقف الأوروبي بصورة عامة وعلى الدعم الفرنسي بشكل خاص في هذه المسالة، وهو يرى الان ان هذا الدعم لم يكن قويا ولا كافيا".
إن الايحاء بوجود "دعم" فرنسي، والقول إن هذا الدعم "لم يكن قويا ولا كافيا"، يعزز الايحاء بوجود "غموض" في الموقف الفرنسي، وفي ذلك افتئات ظالم على الحقيقة، وتعتيم على الموقف الفرنسي الحقيقي الذي يستحق السخط والشجب ووقف اي رهان على أي موقف فرنسي بخاصة او اوروبي بعامة يمكنه أن يؤيد في أي وقت "إقامة دولة فلسطينية" لا تكون هي "الضمان الأمثل لأمن اسرائيل" كما قال ساركوزي في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني والعشرين من الشهر الماضي، وهو خطاب لا يقل مدعاة لخيبة الأمل الفلسطينية والعربية عن خطاب أوباما.
ومن المستهجن حقا أن تضع قيادة منظمة التحرير - - التي بدأت يوم الأربعاء الماضي سلسلة اجتماعات برئاسة عباس للجنة المركزية لحركة "فتح" وللجنة التنفيذية للمنظمة - - على جدول أعمالها "بحث المبادرات السياسية المطروحة لاستئناف المفاوضات"، والهدف منها جميعها بما فيها مبادرات ساركوزي والاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية الدولية معارضة مسعى عباس لحصول دولة فلسطينية على عضوية الأمم المتحدة وإعادة منظمة التحرير الى قفص اتفاقيات أوسلو ومواصلة ارتهان القرار الفلسطيني للإملاءات الاسرائيلية – الأميركية المنبثقة عنها. ف"القيادة" سوف "تدرس بعناية" مقترحات ساركوزي، وسوف "تتعامل باقصى قدر من الايجابية بشأنها" كما قال أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه.
والمفارقة أن عبد ربه وجد في ذروة الاشتباك الدبلوماسي للمنظمة في نيويورك وقتا كافيا كي يخاطب برفقة شريكه الاسرائيلي في "مبادرة جنيف" سيئة الصيت، يوسي بيلين المعارض علنا لطلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، مناسبة نظمها "معهد السلام الدولي" والبعثة السويسرية الى الأمم المتحدة، كي يروجا معا لمبادرتهما ليقول عبد ربه إن هذه المبادرة "يجب أن تصبح سياسة في نهاية المطاف" و"مرجعية" لأي اتفاق جديد يتم التوصل اليه ل"حل الدولتين" (سويس اينفو، 19/9/2011) عبر المفاوضات التي يعلن عبد ربه استعداد قيادة المنظمة لبحث المبادرات السياسية المطروحة لاستئنافها.
لقد تجاوزت التطورات "مقترحات ساركوزي" التي تتناقض وتتعارض في إجمالها وفي تفصيلها مع موقف رئاسة منظمة التحرير، ولا يمكن لساركوزي الادعاء بجهله لموقف عباس المعلن بالتوجه أولا الى مجلس لأمن ثم الى الجمعية العامة سعيا الى الاعتراف بعضوية كاملة لدولة فلسطينية في الأمم المتحدة، فما هي "الايجابية" التي يمكن التعامل بها مع رفض ساركوزي الصريح لهذا الموقف المعلن، ليقترح كبديل يستحق دعم فرنسا وأوروبا والرباعية تجاوز عباس لمجلس الأمن الدولي والتوجه مباشرة الى الجمعية العامة لطلب اعتراف بنموذج "فاتيكاني" لدولة ليست عضوا في المنظمة الأممية بل تتمتع فيها بصفة "دولة مراقبة" فحسب، يعرف ساركوزي تماما أن عباس يملك تأييد النصف زائد واحد من الدول الأعضاء للحصول على اعتراف كهذا دون دعم فرنسا أو غير فرنسا.
وليقترح ساركوزي كذلك كبديل يستحق دعم فرنسا عودة عباس الى دوامة المفاوضات الثنائية المباشرة مع دولة الاحتلال ضمن جدول زمني يستغرق عاما يعرف ساركوزي تماما أن مصيره لن يكون أفضل من الجدول الزمني الذي اقترحه نظيره الأميركي أوباما قبل عام وقبل عباس به، والجدول الزمني الذي اقترحه أوباما في مستهل عهده وقبل عباس به، والجدول الزمني الذي اقترحه جورج بوش سلف أوباما في أنابوليس وقبل عباس به، والجدول الزمني المقترح في اتفاق أوسلو الأول عام 1993 والذي قبل به سلف عباس الراحل ياسر عرفات، مرورا بكل الجداول الزمنية التي حددتها "خريطة الطريق" عام 2003 وقبلت القيادة المفاوضة لمنظمة التحرير بها. فأي دعم وأي جديد تعد به مقترحات ساركوزي لتستحق أي تعامل فلسطيني معها ب"ايجابية".
ومن المؤكد أن "مقترحات ساركوزي" هذه ساهمت مساهمة حاسمة في صياغة بيان "الرباعية" الأخير الذي كررها، وهو حقا بيان "تاريخي" يصدر عن لجنة دولية فشلت طوال العام الجاري في الاجتماع ثم في إصدار أي بيان قبل ان يضطرها مسعى عباس الى عقد اجتماعات على مدار أيام متوالية في نيويورك مؤخرا تمخضت اخيرا عن بيان لم تتطرق "الرباعية" فيه، ولو حتى مرة واحدة، ولأول مرة في تاريخها منذ انشائها، الى أي ذكر للمستعمرات الاستيطانية اليهودية التي كان استمرار التوسع فيها هو السبب في وقف المفاوضات في المقام الأول وفي توجه عباس نحو الأمم المتحدة بدلا من الاستمرار في الرهان عليها.