بقلم : د. فهمي الفهداوي ... 16.9.07
لقد غاب العراق الحيوي عن تقريري ( كروكر وبيتريوس ) ، بكل ما يعنيه العراق الحيوي من استحقاقات واجبة وتطلعات مفروضة ، فلا عراق واحد ولا مجتمع واحد ولا مستقبل واعد بالوحدة والمصير الوطني المشترك ، وغالبية المبررات الإيجابية التي دفع بها هذان الممثلان الرسميان أمام الكونغرس الأمريكي ، للحديث عن نصف الكأس من الماء ، إنما هي مبررات تخيُّلية لا أساس لها من المصداقية في عيون العراقيين ولا الشارع العراقي . والأنبار قاحلة بالاحتلال مثلما العراق قاحل به ، ومَنْ يدَّعي عكس ذلك ، فهو كذّاب – وكذّاب أشرِ أيضا .
إذْ أنَّ المواطن العراقي يعرف بأنَّ الرجلين ليس بمقدورهما الانحياز إلى ضمير خالص ، وليس لهما من قوة الوظيفة الإدارية محدودة السلطة والصلاحيات ، ما يجعلهما عنصرين فوق العادة ، وينحو بهما نبل تحمّل مسؤولية الواجب ، كي يأخذا زمام نفسيهما بغاية الحياد المهني ، والاتجاه الفاعل نحو قلب الطاولة على بوش وأحلامه وألاعيبه في أداء حرب مسرحية .
وحالة نصف الكأس من الماء ، ليست هي الحالة المطابقة لوصف الأحوال في العراق ، خاصة والكأس مكسورة أصلا ، والماء الراكد في قعرها ملوث ولا يصلح لشيء ، وبالتالي ثمة تخرُّصات ومكابرات وكلام ثعباني يتجاوز مآل العراقيين الأحرار وحقيقة مشاعرهم ، من أجل إنجاز مواقف سياسية أخرى ، ساحتها مستقبل الحزب الجمهوري والانتخابات الأمريكية القادمة ، وكيفية إسقاط أوراق المعارضين والحزب الديموقراطي المنافس تحيدا ، فضلا عن التهدئة المطلوب من خلالها تسكين الهيجان والقلق والخوف ، الذي يتخلل الرأي العام في أمريكا والشارع الغربي ، الذي لا علاقة له بالرأي العام في العراق والشارع العراقي المحروق بشتى ألوان الخطايا والمواجع والعذابات ، قتلا وتهجيرا وسأما وإحباطا وتفكيكا .
لقد مرّ قرابة العام حين أعلن الجيش الأمريكي آنذاك ، بأنَّ الأنبار خارج سيطرتهم ، وأنَّهم يفقدونها تماما ، وهاهي اليوم ومن خلال بيتريوس ، تمثّل المنطلق الحسن والصفحة المُبيضة لمسيرة الإستراتيجية الأمريكية في العراق ، فماذا لو تفحصّنا هذا المنطق ولكن من زاوية أخرى ، وقارنَّاه بأوضاع البصرة أو النجف ، للمسنا بحق عمق الهوة والفجوة التي تهبط بالإيجابيات إلى مستنقع السلبيات ، بالشكل الذي يستحيل معه الحفاظ على نجاح جديد بغير خسارة نجاح قديم ، واليد العاجزة لا تقوى على مسك كرتين كبيرتين معا ، لأنَّ واحدة بالضرورة ستفلت وتخرج عن السيطرة .
وهذا هو قانون ما يسمى ( اللعبة الصفرية Zero Sum Game ) ضمن ميدان السياسة والعلاقات الدولية والصراعات العسكرية والأمنية ، الذي يقرُّ بأنَّ ربح الجهة A+)) هو ذاته الخسارة التي فقدته الجهة (B -) ، والإدارة الأمريكية اعتمدت هذا القانون الحادّ في إدارة الوضع الأمني للعراق ، من منظور عسكرة الدولة وتفتيت الجغرافيا ، وفاتها أنَّ العراق كلُّ متكامل ، وعليها أن لا تقترف الخطأ الفادح الناجم عن إستراتيجية ركيكة كهذه ، بعيدا عن وحدة الدولة والجغرافيا ، وبعيدا حتى عن الأخذ الواجب حسابه بخصوص وحدة المجتمع الرافض للاحتلال ، وليس إدخاله في أوهام الحرب الطائفية والأهلية والتهجير .
إنَّ التغنّي بأوهام قيام الجُنينة الرأسمالية الجديدة في الأنبار ، وإمكانية انطلاقها على نحو مماثل في مناطق أخرى من ديالى وصلاح الدين ، يذكرنا بكوبا الاشتراكية الملامسة لعرين الأسد الرأسمالي ، وبهونغ كونك الرأسمالية الملامسة لعرين الأسد الاشتراكي ، ولكن في إطار آخر مُصغّر من التهميش الضحل للصورة في المشابهة والمقارنة .
خاصة وأنًّ الأنبار أو ديالى أو صلاح الدين ، لا تُشكّل في قرارة معطياتها أيَّة مفارقة أو مجانبة عن إمداداتها الطبيعية ووشيجتها الدموية والشخصية عن مناطق الجنوب أو الشمال ، وأنَّ الأمريكيين يسعون إلى دق الأسفين التباعدي والتناحري بين جميع جهات العراق ومناطقه ، طالما اقتضت مصلحة الاحتلال ذلك ، وطالما حثّت التكتيكات الصارخة التي يتم العمل بها مرحليا كغزاة إمبرياليين ، للتحول والتقافز من ورقة لأخرى ، أو خلطها مع بعضها ، أو إحراقها عندما يلزمها ذلك .
والأيام القادمة حبلى بالمواجع الباقية أو التي ستزيد من الهمّ على العراقيين ، وسنكون أمام تكرار خطابي مماثل من قبل الرئيس بوش ، أو من قبل ديمقراطي الكونكرس المعارضين لسياساته التصعيدية في العراق ، وسنشهد المناوشات والتراشقات بين الجهات المتعارضة ، لكنَّ الحقيقة التي أخفاها ( كروكر وبيتريوس ) ستظل كامنة عبر أخلاقيات المعنيين بشأن العراق المستقل والعراقيين الوطنيين ، وستظل الأمور في دوامة اللاحل ، وإبقاء الوضع مثلما هو عليه الآن ، لحين إتيان الفرج من طرق أخرى ، يعنيها العراق المستقل ولها مصداقية في شأن العراقيين .
وهذا بالتأكيد سيُدلل على عطل ماكنة اشتغال الديموقراطية الجديدة المزعوم صبّ خرسانتها في العراق ، من خلال صبغ الكتل العازلة بألوان وردية ، وزج الشباب العاطلين في أعمال النظافة وكنس الأزبال داخل صناديق الأحياء المسجونة ، وإقامة الحراك السلبي للتنافسات غير اللائقة بين زمر المقاولات الفاسدة ، للشروع بطلاء جدران المقابر وأسيجة الحدائق التي تحولت إلى مقابر جديدة أيضا ، بالشكل الذي يؤكد تماما على ديموقراطية الأكاذيب واللعبة الصفرية ، وتشييد الجنان القاحلة في العراق !