بقلم : نقولا ناصر* ... 28.01.2012
انتهت في السادس والعشرين من الشهر الجاري المحادثات "الاستكشافية" بين مفاوضي منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الاسرائيلي في العاصمة الأردنية دون إعلان التوصل الى اتفاق، كما كان متوقعا، وأعلن الرئيس محمود عباس يوم الأربعاء الماضي أنه ذاهب الى اجتماع ينعقد في القاهرةعلى مستوى وزراء الخارجية للجنة "مبادرة السلام العربية" المنبثقة عن جامعة الدول العربية من أجل "التشاور" حول تمديد تلك المحادثات أو عدم تمديدها.
لقد تحولت مبادرة السلام العربية إلى مشجب يعلق عليه مفاوض المنظمة فشله التاريخي، و"شرعية عربية" يسوغ بها الاستمرار في دبلوماسيته التفاوضية الفاشلة يشهرها في وجه الرفض الشعبي الفلسطيني لمفاوضاته ولمرجعيتها العربية معا، ويتخذ منها غطاء عربيا لتسويغ تراجعاته وتنازلاته المتتالية، وتحولت هذه المبادرة التي ما زالت بانتظار موافقة دولة الاحتلال وراعيها الأميركي عليها إلى غطاء للعجز العربي والاخفاق السياسي الفلسطيني بقدر ما هي ضوء اخضر عربي وفلسطيني لمواصلة تهويد الأرض العربية في فلسطين دون حتى التلويح برادع عربي.
وفي المقابل تحول مفاوض منظمة التحرير بدوره إلى مشجب يعلق عليه القادة العرب عجزهم، فهم يتذرعون بالحجة المتهافتة بانهم لا يمكن ان يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين انفسهم، بالرغم من استمرارهم في الوقت ذاته في امتصاص غضب جماهيرهم على سياستهم تجاه اغتصاب فلسطين واحتلال أرضها بالقول إن قضيتها هي قضيتهم المركزية وقول الكثير منهم إنها تمثل قضية وطنية لهم، مع أن أحدا منهم لم يعد يجرؤ على وصف فلسطين بأنها أرض عربية أو وقف اسلامي.
و"التشاور" الذي ينويه عباس، كما أعلن، مع اللجنة الوزارية لمتابعة مبادرة السلام العربية ليس فيه من التشاور شيئا، فاستمرار التفاوض هو قرار مسبق للجنة المتابعة العربية ولمشاورها الفلسطيني على حد سواء، فاستمرار التفاوض هو مسوغ وجود مفاوض منظمة التحرير وتلك اللجنة معا، وليس من المتوقع ان أن يشير أي طرف منهما على الاخر باي بديل للتفاوض.
لذلك فإن اجتماع لجنة المتابعة الذي أعلنت جامعة الدول العربية في بيان رسمي أنه كان سينعقد في التاسع والعشرين من هذا الشهر ثم أعلن عباس انه سوف ينعقد في العاصمة المصرية في الرابع من شباط / فبراير المقبل سوف يكون مجرد إخراج إعلامي لقرار مسبق لن يسمح بأي تشاور جاد للبحث عن بديل له، لا من طرف الجامعة العربية المنشغلة بترتيب البيت العربي وتهيئته لتطبيق مبادرة السلام العربية بالشروط الأميركية - الاسرائيلية عن طريق التخلص من مواقع المقاومة الفلسطينية والعربية لهذه الشروط، ولا من طرف مفاوض المنظمة بالرغم من إعلان عباس بأن "كل الخيارات تظل مفتوحة" بعد تاريخ السادس والعشرين من هذا الشهر، فكل مسار مبادرة السلام العربية، بشقيها الفلسطيني والعربي، يؤكد على إغلاق كل الخيارات الأخرى باستثنائها.
وبالتالي فإن تمديد المحادثات "الاستكشافية" بعد السادس والعشرين من كانون الثاني / يناير الجاري يبدو قرارا جاهزا ينتظر فقط توقيتا مناسبا لإعلانه.
لقد أقر مؤتمر القمة العربية المنعقد في العاصمة اللبنانية بيروت عام 2002 المبادرة بينما كانت دبابات الاحتلال الاسرائيلي تحاصر رئيس الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، الراحل ياسر عرفات، في مقره برام الله المحتلة مما حال دون حضوره تلك القمة لا بل وحال دون تمكنه حتى من مخاطبتها لا بالصوت ولا بالصورة ولا بهما معا، وكان حصاره سببا كافيا كي لا يلوح القادة العرب بأي غصن زيتون لدولة الاحتلال، وكي يؤجلوا كأضعف الايمان إعلان تبنيهم لتلك المبادرة في الأقل إلى ما بعد فك الحصار عنه، لكنهم لم يفعلوا، بينما اعتمدت القيادة التي خلفت عرفات هذه المبادرة التي اقرت في غيابه مرجعية لها اعتبرت "نجاحها" في تضمين إشارة اليها في قرارات للأمم المتحدة وبيانات اللجنة الرباعية الدولية كواحدة من مرجعيات ما يسمى "عملية السلام" انجازا من انجازاتها.
وكان الأمين العام المساعد للجامعة العربية، محمد صبيح، قد أشاد أوائل الأسبوع الماضي بما سماه "شبكة الأمان العربية" التي وفرتها الجامعة العربية لمفاوض منظمة التحرير ومفاوضاته مع دولة الاحتلال منذ انطلاقها علنا عام 1993 وسرا قبل ذلك، وهي شبكة الأمان التي كان وزير الخارجية السوري وليد المعلم قد وصفها في تصريح سابق له ب"غطاء عربي للقرار الفلسطيني المتخذ مسبقا"، بالرغم من موافقة بلاده على المبادرة وعضويتها في اللجنة الوزارية المؤلفة لمتابعتها.
إن القضية الفلسطينية هي محور مبادرة السلام العربية وموافقة الممثل الشرعي لهذه القضية على المبادرة يمنحها شرعية وعدم موافقته عليها يجردها من شرعيتها، لذلك فإن تجريد المبادرة العربية من شرعيتها الفلسطينية يكشف العجز الرسمي العربي أمام شعوبه.
ومن الواضح الان ان سحب الشرعية الفلسطينية عن مبادرة السلام العربية قد اصبح استحقاقا فلسطينيا تأخر أكثر من اللازم، فهذه المبادرة لم تعد "شبكة أمان عربية" لفلسطين وشعبها وقضيتها بل شبكة أمان للاحتلال ودولته كي يستمر في تهويد الأرض بقدر ما هي شبكة أمان للقادة العرب تؤجل ولو الى حين انفجار غضب شعوبهم على عجزهم.
لقد كان إقرار المبادرة بمثابة إعلان تاريخي بانتهاء حقبة عربية تمكنت خلالها الحركة القومية العربية والحركة الاسلامية من منع دولة الاحتلال الاسرائيلي من جني ثمن سياسي لانتصارها العسكري، لذلك اعتبر محللوها قمة بيروت العربية انقلابا على قمة الخرطوم العربية في اعقاب هزيمة عام 1967، التي سموها "نكسة" في إعلامهم الرسمي، والتي أعلنت لاءاتها الثلاث الشهيرة: لا للاعتراف بدولة الاحتلال، ولا للسلام، وبالتالي لا للتفاوض، معها، ولذلك لم يكن مستغربا أن يصف رئيس وزراء دولة الاحتلال السابق ايهود أولمرت مبادرة السلام العربية ب"التغيير الثوري".
فلسطينيا، وصف د. غسان الخطيب، الناطق الرسمي باسم سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في رام الله، في مقال له قبل أيام "حل الدولتين" - - الذي يعتبر جوهر المبادرة العربية - - ب"الوهم"، "مما يترك كثيرا من المحللين للاستنتاج بأن حل الدولتين إذا لم يكن قد اصبح مستحيلا بالفعل، فإنها مسألة وقت فقط قبل أن يكون شيئا من الماضي"، كما كتب الخطيب.
وعربيا، كتب وزير الخارجية الأردني الأسبق، مروان المعشر، خلال الأسبوع الماضي مقالا بعنوان "موت مبادرة السلام العربية؟"، التي لعب دورا محوريا في وضعها، خلص فيه إلى أن "الإغراء الرئيسي للمبادرة – وهو اتفاق (اسرائيلي) مع كل الدول العربية – يصبح في الظروف الحالية أمرا غير محتمل بصورة متزايدة"، وقال إن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله هو "آخر قائد عربي له وزن مطلوب منه حماية مبادرة السلام العربية والمبادئ الكامنة وراءها ... وهو الآن في السابعة والثمانين من العمر وبمجرد ان يرحل عن المشهد فإن من المحتمل تماما أن تتفكك في مفاصلها الرئيسية".
وعالميا، في الثالث والعشرين من هذا الشهر، كتب الصحفي اليهودي الأميركي المولود في ألمانيا، هنري سيجمان، يقول إنه "منذ بدايته كان هدف هذا المشروع (أي "عملية السلام الثنائية" بين مفاوضي المنظمة ودولة الاحتلال) هو تخريب الدولة الفلسطينية، ... وبالاصرار على عودة الفلسطينيين الى هذه الممارسة الفارغة، وبالاستمرار في منع محاولات التدخل من أطراف أخرى، ... كانت الولايات المتحدة من الناحية العملية تتعاون مع هدف رئيس وزراء (دولة الاحتلال بنيامين) نتنياهو في "الابادة السياسية"" للوجود الوطني السياسي الفلسطيني.
وإذا كان من المستبعد تماما أن يسمح الوضع الرسمي العربي الذي انتج هذه المبادرة بسحبها في اي وقت قريب، فإنه لم يعد يوجد أي مسوغ فلسطيني لاستمرار منظمة التحرير في منح المبادرة شرعية فلسطينية، خصوصا وأن امتلاك المنظمة لمؤهلات منح شرعية كهذه كانت موضع شك منذ انخراطها في "عملية سلام" كانت منذ انطلاقها تفتقد الصدقية لدى غالبية الشعب الفلسطيني.